“وهران”، جمالٌ بلا روح، وسماءٌ معدنيّةٌ، مدينة غارقة في الحصى والغبار، بل هي صحراءٌ موحشةٌ يفترسها الملل! هكذا رأى الكاتب الفرنسي “ألبير كامو” مدينة “وهران” عندما أقام فيها خلال ثلاثينيات القرن الماضي. كتَب “كامو” رواية “الطاعون” وجعل مدينة “وهران” مَسرحًا لها، وتساءل الكاتب والروائي اللبناني “إلياس خوري”: “لا أجد أيّ تفسير أدبي مُقنع للسبب الذي دفع ألبير كامو لجعل مدينة وهران في الجزائر مسرحًا لروايته (الطاعون). فالمدينة ليست سوى إطار للرواية ولا علاقة لها بمصائر أبطالها.. المدينة غير مهمة في ذاتها، وتاريخ حدوث طاعونها ليس مذكورًا”. وقبل رواية “الطاعون” بسنوات، نشر “كامو” مقالًا عام 1939 بعنوان: “المينوتور أو وقفة وهران”، يؤكّد أنّ حقدًا دفينًا يُكنّه “كامو” لمدينة “وهران”!
لن نبحث عن سرّ ذلك الحقد الكاموي على الباهية “وهران”، فهو قد انتقم من الجزائريين في روايته “الغريب”، ورأينا في مقال سابقٍ نشرته “الأيام نيوز” أنّ سبب ذلك الانتقام هو أنّ جزائريًّا اعتدى على أمّه التي يحبّها إلى حدّ القداسة، ورغم أنّنا لا نعلم تفاصيل ذلك الاعتداء أو متى حدثَ؟ فإنّنا لا نستبعد أن يكون الحقد الكاموي يعود إلى السّبب نفسه، وربّما أن المُعتدي كان وهرانيًّا، فـ “كامو” فقد وصَف شباب “وهران” بالشدّة والغلظة.. ومهما يكن، فإنّ “كامو” عجز على أن يكون جزائريًّا، رغم أنّ بعض الكتّاب والمثقّفين كانوا يطلقون عليه اسم “كامو الجزائري”، وهو عندما يتحدّث عن أهل “وهران” فهو لا يعني بالضرورة أهلها الحقيقيين ففي الغالب هو يعني المُعمّرين وأبناء “الأقدام السوداء”..
المقال الذي نعرضه اليوم، نشره “كامو” عام 1939 تحت عنوان “المينوتور أو وقفة وهران” (LE MINOTAURE OU LA HALTE D’ORAN)، وصدر ضمن كتاب عام 1951. وقد قام بترجمته إلى العربيّة الكاتب “توفيق شحاتة”، ونشرته، في الأول من شهر أكتوبر 1946، مجلة “الكاتب المصري” التي كان رئيس تحريرها آنذاك الدكتور “طه حسين”. وحول دوافع نشر المقال، قالت المجلة: “وقد اختصّنا بهذا الفصل الرائع في الأدب الوصفي الذي ننشره ليرى أدباء الشباب مذهب الكُتّاب الفرنسيين في النظر إلى الأشياء وتصوُّرها واتِّخاذها وسيلة إلى التفكير والاعتبار”
لا نعلم أنّ للكاتب “ألبير كامو” علاقةً باللغة العربية أو اهتمامًا بالمجلاّت الأدبية العربيّة! ولا نعلم إن كانت غاية “كامو” من ترجمة مقاله إلى العربيّة من أحل الوصول إلى جماهير القرّاء في المشرق العربي فحسب، أم أنّ الأمر يدخل في سياق حقده على مدينة “وهران”؟ ربّما أنّ المجلّة ادّعت أن “كامو” راسلها، أو أنّها صاغت تلك الفقرة السابقة بحيث يُفهم منها أنّ “كامو” فعل ذلك!
قبل أن نترك القارئ يُبحر في المقال، من المُجدي الإشارة إلى أنّ “المينوتور”: وحشٌ، تذهب الأساطير اليونانية إلى أنّ نصفه آدميٌّ والنصف الأعلى ثور، كان يتغذّى بلحم بنى آدم، وقد اختاره “كامو” رمزّا للتعبير عن الملل والسّأم الذي كان يلتهم الوهرانيين في اعتقاد “كامو”. كما تجدر الإشارة إلى أنّ المقال تحدّث عن وصف “وهران”، وشوارعها، وألعابها الرياضية، وأمور أخرى قد يكون فيها بعض التوثيق لا سيما فيما يتعلّق ببناء الميناء والرصيف البحري.. لنترك القارئ مع المقال، ولا نتحمّل المسؤولية إن التهمه “المينوتور” أو الملل الذي يتثاءب بين كلمات “كامو”!
المباني والآثار في “وهران”
هنالك أسبابٌ عدّة يرجع بعضها إلى الاقتصاد وبعضها الآخر إلى علوم ما بعد الطبيعة، تدفعنا إلى القول إنّ الطِّراز الوهراني (إن كان هناك طراز وهراني) يبدو في قوة ووضوح في البناء الغريب الذي يُدعى: “منزل المُستغلّ”. والمباني والآثار كثيرة في “وهران”، فالمدينة لها نصيبها الضَّخم من تماثيل القُوّاد الحربيّين والوزراء ورجال الخير المحليّين، تلقاها في ميادين صغيرة مُغبَرة أسلمَت أمرَها للمطر والشمس، واستحالَت هي أيضًا إلى جوِّ الحجارة والسَّأم، ولكنها تمثِّل تأثيرًا خارجيًّا..
أمّا “وهران”، فعلى العكس من ذلك، أقامت لنفسها هياكلها الخاصة. فقد رغب الوهرانيّون في أن يبنوا وسط الحي التجاري بناءً يضمُّ مختلف الهيئات الزراعية التي لا حصر لها والتي تُعتبر مورد الحياة لهذا البلد، ففكّروا فى أن يُقيموا بالرَّمل والجير صورةً مُقنعة تبيِّن خصالهم، وبنوا “منزل المُستغلّ”. وإذا اعتمدنا على هذا البناء لإصدار حُكمنا، تبيّنا هذه الخصال الثلاث: الجرأة في الذّوق، والجُنوح إلى العنف، والحذق في الجمع بين الاتجاهات المختلفة للتاريخ. فقد شارك كل من: مصر وبيزنطة وميونيخ في إقامة هذا البناء الرقيق الذي يشبه قطعة الحلوى تمثّل كأسًا مقلوبة. وقد كُسِيَ السّقفُ بأحجارٍ متنوّعةِ الألوان عنيفة التأثير. وهذه الأحجار الحادة اللون من الإقناع بحيث لا تتيح لك ملاحظة شيءٍ لأول وهلة. على أنك إذا اقتربتَ منها، وقد استرعَت انتباهك، تبيَّنَت أنّ لها مغزى: فهذا مُستغِلٌّ رشيق له رباط عنقٍ على شكل فراشة، وتُغطِّي رأسَه قبّعةٌ بيضاء من الفلّ، يتلقّى عبارات الإجلال التي يتقدّم بها موكب من الرَّقيق مُرتدين رداءً قديمَ الطِّراز. وقد أُقيم البناء ذو النّقوش المُلوّنة على مُفترقٍ للطُّرق، تذهب وتجيء فيه عربات التّرام الضئيلة التي تُغري قذارتها بزيارة المدينة.
ومن جهة أخرى، فإنّ “وهران” فخورةٌ جدًّا بأسدَيها اللّذَين يقومان في ميدان السلاح. ومنذ سنة 1888 يتصدَّران جانبي السُّلَّم في دار البلدية. وكان صانعهما يُدعى: “قائين”. والأسَدان قصيرَا القامة ولهما روعةٌ وجلال. ويُقال إنه إذا كان الليل، هبطَا من قاعدتهما أحدهما إثر صاحبه فطوَّفَا حول الميدان المُظلم، ثم بالَا طويلاً تحت أشجار الجميز الضَّخمة المُترَبة. وهذه بالطبع أحاديث يُعيرها الوهرانيون آذانًا صاغية، ولكنها غير معقولة.
وعلى كُثرة البحث لم أعثر مِن أمر “قائين” هذا بشيء، غير أنه كان مشهورًا بأنه مَثّال حيوانات حاذق. على أني كثيرًا ما أفكِّر فيه؛ فهو قد سلَك إلى “وهران” مُنحدَرًا خاصًّا من منحدرات العقل. فهذا مَثَّال ذو اسم رنّانٍ ترك هنا أثرًا غير ذي خطر. ومع ذلك، فإنّ مئات الألوف من الرجال أَنِسوا تلك الوحوش الحليمة التي وضَعها أمام دار البلدية المزهُوّة بنفسها، وهذه إحدى وسائل النجاح فى ميدان الفن. ولا شك أن هذين الأسدَين إن دلّا على شيء فهُما يدلّان على شيءٍ آخر غير النّبوغ، شأن آلافٍ من الآثار الأخرى. وقد استطاع بعض الفنّانين أن يُخرِجوا: “طوف الليل”، “القديس فرانسوا يتلقّى الوسم”، “دافيد”، “تمجيد الزهرة”. أمّا “قائين” فقد أقام حيوانَين مُضحِكَين في الميدان العام لإحدى المدن التجارية من وراء البحار. على أن تمثال “داوود” قد يهوي يومًا مع “فلورنسا” وينقذ الأسدَين من الدّمار. وأعود فأقول إنهما إن دلَّا على شيءٍ فليس على النُّبوغ.
وما لي أتعمّق هذه الفكرة، فإنّ ذلك الأثر يشتمل على تفاهة ومتانة، ليس للفكر فيه نصيب، وللمادة النصيب الأكبر. تريد الرداءة أن تبقى بكل الوسائل ومنها البرونز. يأبى الناس أن يكون لها حقوق أبديّة، وهي تغتصب لنفسها هذه الحقوق في كل يوم. أليست هي الأبد؟ ومهما يكن من شيء ففي هذا الثبات ما يدعو إلى التأثّر، وهو يحمل بين طيّاته درسًا ثمينًا وهو الدَّرس الذي تُلقيه جميع مباني “وهران” وآثارها، بل تلقيه “وهران” نفسها. ففي خلال ساعة من ساعات اليوم، ومرّة بين المرّات، يُرغمك هذا الدّرس على أن توجِّه عنايتك إلى ما لا أهمية له. ويستفيد الفكر من هذا الرجوع إلى نفسه، فهو رياضة له.. وما دام في حاجة أن يقضى بعض الوقت متواضعًا، فيُخيَّل إليَّ أن هذه فرصة خير من غيرها تمكّنه من النزول إلى مستوى البلاهة. وكل ما من شأنه الفناء. فلنقل إذًا إنّ كل شيءٍ يريد البقاء. فليس للأعمال الإنسانية مغزى آخر. وإذا نظرنا إلى أسدَي “قائين” من هذه الناحية، فإنّ لهما في البقاء حظًّا لا يقِلُّ عن حظِّ آثار “أنكور”، وهذا يُغري الإنسانَ بالتّواضع.
وهناك مبانٍ وهرانيّة أخرى، أو على الأقل ينبغي أن نطلق عليها هذا الاسم ما دامت هي أيضًا تشهد للمدينة، وقد تكون أقوى تعبيرًا في شهادتها، أعني بها الأعمال الكثيرة التي تستغرق من الساحل الآن نحو عشرة كيلومترات. ويظهر أنه يُراد تحويل خليجٍ من أبهى الخلجان إلى ميناء ضخم. والواقع أنها فرصة جديدة يواجه فيها عزمُ الإنسان صلابةَ الصَّخر.
وقد ترى في لوحاتٍ لبعض أساتذة الفن “الفلمنك” موضوعًا فخمًا يثير الإعجاب ويعود إليه هؤلاء الفنانون في إلحاحٍ مُتّصل، وهو بناء “برج بابل”. ترى مناظر طبيعيّة غير مألوفة، وصخورًا تتسلّق السماء، ومُنحدرات وعرة يعجُّ فيها العمال والحيوان، وتنتثر السلالم والآلات الغريبة والحبال والجرّارات، ولا يظهر الإنسان في هذا الميدان إلّا ليعطيه الطّابع الذي يتجاوز الطاقة الإنسانية. وهذا هو الذي تفكِّر فيه حين ترى الرّصيف الذي يتّخذ على الساحل شرق “وهران”.
في هذه الشمس المُهلكة، ترى قاطرات كأنّها لُعب الأطفال تدور حول صخور ضخمة بين الصّفير والغبار والدخّان. وينشط ليل نهار شعبٌ من النّمل على هيكل الجبل الدّاخن، وقد تدلّى طِوال حبلٍ واحد مُلتصقٍ بالصَّخر البحري عشراتٌ من الرجالِ أسنَدوا بطونهم على مقابض ثاقبات أوتوماتيكية.. ويضطربون في الفضاء طوال النهار، فيستخرجون قطعًا هائلة من الصخر تهوي بين الغبار والدّوي. وعلى بُعد منهم تنقلب عربات صغيرة من أعلى المنحدر فتهوي الصخورُ فجأةً في البحر، طائرات متدحرجات كأنها سرب من الأطفال أُطلقوا من المدرسة. وبين فترات مُنتظمَة، فى قلب الليل أو في جوف النهار، يُسمع دوِيٌّ يزلزل الجبلَ كلّه ويرفع البحرَ نفسه.
والإنسان وسط هذا كلّه يهاجم الصخرَ وجهًا لوجهٍ. فإذا أتيح لنا أن ننسى لحظة الرقّ القاسي الذي يقوم على أساسه هذا العمل، فلا سبيل إلى التخلّص من الإعجاب الذي يستأثر بنا. هذه الأحجار التي تُقطع من الجبل مُسخّرة لخدمة الإنسان؛ فهي تتراكم تحت الموجات الأولى، ثم تطفو شيئاً فشيئا، وأخيرًا تنتظم على شكل رصيفٍ لا يلبث أن يُغطّى بالآلات والرّجال الذين يتقدّمون في عرض البحر يومًا بعد يوم. ولا تفتأ آلات ضخمة من الفولاذ تشبه الأفكاك تقضم بطن الصخور البحرية، دائرةً حول نفسها، ثم مُفرِغةً في الماء شحنتها الحجريّة. وكلما هبطت جهة الساحل، تقدّم الشاطئ نحو البحر تقدُّمًا لا سبيل إلى دفعه.
ولا ريب فى أنّ إبادة الصَّخر غير مُمكنة، إنّما المُمكن نقله من مكان إلى مكان. وهو على كل حال سيبقى أكثر من الرجال الذين يستخدمونه. ولكنه في الوقت الحاضر يدعم إرادتهم في العمل. ولا شك أن هذا نفسه غير مُجدٍ على أنّ نقل الأشياء من أماكنها هو عمل الإنسان. فعليه أن يختار بين أن يعمل هذا، أو لا يعمل شيئا. ويبدو أن الوهرانيين قد اختاروا لأنفسهم مصيرهم. فأمام هذا الخليج الساكن المُتقَن، ولسنوات مُقبلة عديدة، سيكدِّسون أكوامًا من الحصى طِوال الشاطئ. وبعد مائة عام، أي غدًا، ينبغي استئناف ذلك كلّه. أما الآن، فهذه الأكداس من الصخور تشهد للرجال الذين يجولون وسطها وقد علا وجوههم قناعٌ من التراب والعرق. فمباني “وهران” الحقيقية وآثارها إنّما هي أحجارها.