ما إن يجري الحديث عن تاريخ اليمن إلا وتبرز حضارة سبأ وحمير ومملكة قتبان وحضرموت ومعين من عمق الذاكرة الإنسانية كشواهد شاهقة على منجزات ممالك استبقت التاريخ الحضاري لشعوب المنطقة برمتها، ما جعل هذا البلد ـ الذي يقع جنوب غرب شبه الجزيرة العربية ـ يمثل عقدة مزمنة لكيانات ملكية مستحدثة، انخرطت في حرب يريدها التحالف السعودي أن تنتهي بإلغاء مكانة اليمن من المشهد الحاضر باستهداف جذوره الضاربة في عمق الزمن.
هذه الحرب الظالمة استهدفت كل قطاعات الحياة ـ في اليمن ـ وفتحت المجال لنهب الإرث التاريخي في واحدة من أغنى بلدان العالم بالمواقع الأثرية الفريدة التي اتكأت عليها أكبر وأعرق الحضارات الإنسانية على الإطلاق.
وكانت وثائق مسربة قد أظهرت معلومات عن عمليات ممنهجة قامت بها عصابات متخصّصة تعمل لفائدة النظام السعودي، وتم من خلالها سرقة آثار تاريخية من اليمن وبيعها في بريطانيا، وأشارت الوثائق إلى أن هذه الصفقات تمت بأسعار بسيطة جدا، لافتة إلى ضبط كم هائل من الآثار في أحد المباني بالرياض.
وقبل نحو شهرين، انتشرت في الفضاء الالكتروني، صور لمجموعة قطع أثرية وصلت إلى أوروبا عبر التهريب، ومن بين تلك القطع تمثال بهيئة امرأة ينتمي لحضارة سبأ ويعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد، تم عرضه للبيع في مزاد بألمانيا.
كما تم عرض قطعة ثانية في مزاد آخر أقيم في مدينة برشلونة الإسبانية، ضمن عشرات المزادات التي تبيع آثاراً يمنية نهبتها عصابات تشتغل لفائدة السعودية والإمارات.
وتتصاعد في الآونة الأخيرة عمليات تهريب آثار اليمن بشكل هو الأكبر والأوسع خلال كل سنوات الحرب المشتعلة في اليمن منذ نهاية 2014 والتي أوقعت البلاد في كارثة إنسانية غير مسبوقة.
ويؤكد مصدر يمني ملم بقضايا التهريب في بلاده، تورّط جهات وأشخاص سعوديين وإماراتيين وصهاينة في عمليات تهريب الآثار بهدف بيعها في أوروبا أو ركنها في أماكن تابعة لمتاحف في الرياض وأبوظبي.
وفي آخر عملية تم الكشف عنها، ظهرت بعض القطع النفيسة خلال التحضير لعرضها في مزاد «أرتميس» في الولايات المتحدة، من بينها وجه لرجل من مملكة قتبان التي ظهرت في القرن الرابع قبل الميلاد، مصنوع من المرمر، يتميز بدرجات ألوان ناعمة صفراء وبيضاء.
لكنّ الصحافة الخليجية عملت على تغطية الحقائق وتأليف سيناريوهات لاتهام حكومة اليمن بأنها وراء هذه العمليات، بينما كل الدلائل تشير إلى تورط عصابات الرياض وأبوظبي وسفارات دول أجنبية بالخليج وأطراف صهيونية في هذه العمليات المسكوت عنها غربيا للاستفادة منها ما أمكن.
وفي هذا السياق يقول الناشط عثمان الجعفري لـ«الأيام نيوز»: “لا يمكن تخيل فظاعة ما يحدث من عمليات تستهدف حضارة اليمن بروح من عدائية نابعة من عقدة نقص لدى دول خليجية تستغل حربها على البلاد للنيل من كل ما تفتقده تلك الدول وهي معالم الحضارة المتوارثة جيلا بعد جيل”.
ويشير الصحفي عيسى القاسمي في حديثه لـ«الأيام نيوز» إلى أن كل البلدان التي حلت فيها ـ وبتدبير خليجي ـ فوضى الحرب والخراب والدمار ـ عقب أحداث العام 2011 ـ واستمرت إلى يومنا هذا هي البلدان ذات الحضارة العريقة مثل: سوريا والعراق واليمن وليبيا، فيما البلدان التي بقيت محمية ـ غربيا ـ من هذه الموجة هي البلدان التي لا تملك من الحضارة إلا بنايات زجاجية وحديد وإسفلت.
ويقول خبراء قانونيون، إن اليمن، قد يكون قادراً ـ مستقبلا ـ على استعادة آثاره المهربة، باعتباره أحد البلدان الموقعة على اتفاقية لاهاي 1954، وبنودها الخاصة بمنع تهريب الممتلكات الثقافية، وكذا البروتوكول الخاص بحماية الممتلكات الثقافية في حالات النزاع المسلح، واتفاقية «يونيسكو» عام 1972، المتعلقة بحماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي، واتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة، لكن هذه الآمال لن تتحقق ما لم يتم إيقاف الحرب فورا والسماح لليمنيين أن يقرروا مصير بلادهم بعيدا عن أية وصاية أجنبية.