بدأ منذ – أمس الاثنين – آخر أسبوع من الحملة الانتخابية في فرنسا، قبل الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية التي جاءت في أعقاب دعوة من الرئيس إيمانويل ماكرون بعد هزيمة حزبه في انتخابات البرلمان الأوروبي أمام اليمين المتطرف، وهي الخسارة التي دفعت ماكرون إلى اتخاذ قرار بحل الجمعية الوطنية، ما أسفر عن تسريع التصدعات السياسية، فبعد سبع سنوات من السيطرة شبه المطلقة على مشهد السياسة الفرنسية، يبدو ماكرون الآن كمن “يحفر قبر فرنسا” المسكينة، وهو المتهم – على لسان رئيس وزرائه السابق إدوار فيليب – بـ”قتل الأغلبية”.
وقبل أسبوع من الدورة الأولى للانتخابات التشريعية الفرنسية – التي تُعتبر الأهم منذ عام 1945، إذ يبدو أنّ اليمين المتطرف هو الأوفر حظا في مواجهة جبهة اليسار – يعمل معسكر ماكرون جاهدا على تقليل الفجوة بينه وبين ائتلاف اليسار، خاصة في ظل تقدّم اليمين المتطرف.
وقال ماكرون في رسالة إلى الفرنسيين نشرتها الصحافة، أمس الاثنين، إنّ “الحكومة المقبلة التي ستعكس بالضرورة تصويتكم، آمل بأن تجمع الجمهوريين من تيارات مختلفة بعد أن يكونوا قد عرفوا عبر شجاعتهم كيف يواجهون المتطرفين”.
وفي وقت يلمّح عدد من خصومه، وفي مقدّمتهم زعيمة اليمين المتطرّف مارين لوبن، إلى أنّه سيضطر إلى الاستقالة في حال خسارة معسكره في الانتخابات يومي 30 جوان والسابع من جويلية، ردّ ماكرون بالقول “يمكنكم أن تثقوا بي لأعمل حتى ماي 2027 بوصفي رئيسكم”.
وكانت الانتخابات الأخيرة للجمعية الوطنية (البرلمان الفرنسي) قد جرت في جوان 2022، وبالتالي كانت الانتخابات المقبلة مقرّرة في عام 2027، لكن ماكرون ظهر على شاشة التلفزيون عقب ساعة واحدة من الخسارة القاسية التي تعرض لها الائتلاف الذي يتزعمه في انتخابات الاتحاد الأوروبي ليعلن عن حل البرلمان الفرنسي وإجراء انتخابات مبكرة.
وقال ماكرون إنه لا يستطيع المضي قدما بعد هذه النتيجة وكأن شيئا لم يحدث، مصرا على أنّ هذا هو “الحل الأكثر مسؤولية”، واشترك حلفاء ماكرون ومنافسون له في اعتبار قراره نوعا من المقامرة والتهور لأنه قد يعني وصول اليمين المتطرف إلى السلطة السياسية في البلاد، لا سيما وأنّ هذا التيار حصل على أكثر من 31% من الأصوات في انتخابات البرلمان الأوروبي التي جرت أوائل الشهر الجاري، مقابل أقل من 15% لحزب ماكرون.
وأظهرت أحدث استطلاعات الرأي أن التجمع الوطني اليميني المتطرف وحلفاءه يتوقعون الحصول على نسبة تتراوح بين 35.5% و36% من الأصوات، متقدمين على الجبهة الشعبية الجديدة التي تضم أحزاب اليسار (27% إلى 29.5%)، ومعسكر ماكرون (19.5% إلى 20%).
ويستعد حزب مارين لوبان اليميني للكشف عن “أولويات حكومة الوحدة الوطنية” اليوم الاثنين، والتي يعتزم تشكيلها في حال فوزه، وبالمقابل، يسعى رئيس التجمع الوطني جوردان بارديلا إلى تقديم نفسه بأنه الشخصية القادرة على توحيد الفرنسيين، حيث أكد في مقابلة مع صحيفة “لو جورنال دو ديمانش” أنه يريد أن يكون رئيس الوزراء لكل الفرنسيين بدون تمييز، وأنه لن يقبل بالمنصب ما لم يحصل على الأغلبية المطلقة في الانتخابات التشريعية.
ومن جانبه، أكد زعيم اليسار الراديكالي جان لوك ميلانشون مساء يوم السبت عزمه على قيادة البلاد، وهو ما يراه الاشتراكيون تجاوزا للخطوط الحمراء، فيما أوضح الرئيس الاشتراكي السابق فرانسوا هولاند أنه على ميلانشون أن يتراجع ويصمت إذا كان يريد خدمة الجبهة الشعبية الجديدة بشكل فعّال، كما شدد الأمين العام للحزب الشيوعي فابيان روسيل على أن ترشيح ميلانشون لرئاسة الوزراء لم يُتّفق عليه داخل الجبهة الشعبية الجديدة.
ومن جهته، أقر ماكرون، الذي يستبعد الاستقالة قبل انتهاء ولايته في ماي 2027، بضرورة إحداث تغيير عميق في طريقة الحكم، ودعا الرئيس الفرنسي إلى ما سماه “النهج الثالث” في إشارة منه إلى وجوب مواجهة اليمين المتطرف وتحالف “الجبهة الشعبية” اليساري، وقال ماكرون إن الهدف لا يمكن أن يكون مجرد استمرارية لما تم فعله في الماضي، وأعرب عن فهمه لرغبة الناس في التغيير.
وشدد على أهمية تقديم استجابات أكثر قوة وحزما لمواجهة قضايا مثل انعدام الأمن وغياب المحاسبة. وأضاف أن الحكومة المقبلة يجب أن تعيد صياغة سياسة الطفولة، وتؤمن حماية أفضل للشباب، وتتصدى بقوة أكبر لكل أشكال التمييز. ومن جانبه، أكد رئيس الوزراء غابرييل أتال في مقابلة مع وسائل إعلام فرنسية أن الانتخابات ستكون نقطة تحول.
وأشار إلى أن كتلته هي “الأكثر ديناميكية” في هذه الحملة، رغم حصولها على 14.6% فقط من الأصوات في الانتخابات الأوروبية، مؤكدا أن الانتخابات تمثل “خيار المجتمع” وأنه ينتظر “شرعية إضافية” للبقاء في منصبه، وتظاهر عشرات الآلاف في فرنسا الأحد للتنديد بـ”الخطر” الذي يهدد حقوق النساء في حال فوز التجمع الوطني.
ونشرت صحيفة لوموند عريضة وقعها 170 دبلوماسيا ودبلوماسيا سابقا، يحذرون من فوز اليمين المحتمل في الانتخابات التشريعية، مما قد يضعف فرنسا وأوروبا، كما أعرب المستشار الألماني أولاف شولتس عن قلقه من احتمال فوز اليمين المتطرف في الانتخابات الفرنسية.
وتثير نتائج الانتخابات مخاوف واسعة في فرنسا وخارجها، بين شبح تشكيل أول حكومة يمينية متطرفة وجمعية وطنية يهيمن عليها 3 أقطاب متباينة، كما تتزايد هذه المخاوف في ظل الوضع الاقتصادي القاتم والحرب في أوكرانيا، وقبل شهر من دورة الألعاب الأولمبية في باريس 2024.
من جانبها، قالت كاتبة فرنسية إن قرار ماكرون حل الجمعية الوطنية يوضح كيفية حكم الرئيس الذي لا يثق إلا في نفسه، كما يوضّح الكيفية التي يظهر بها بعد أن تخلى عنه اليوم – بعد 7 سنوات من الحكم دون منازع – أصحاب الوزن الثقيل من أغلبيته.
وأوضحت سولين دي رواييه في عمودها على صحيفة لوموند كيف بدا ماكرون متعبا على متن الطائرة التي أعادته من جزيرة سين (فينيستير)، حيث احتفل بالذكرى الـ84 لنداء الجنرال شارل ديغول، متسائلة بماذا يفكر في هذه اللحظة؟ بعد أن فجر المشهد السياسي الفرنسي، ووجدت أغلبيته نفسها في حالة يرثى لها، وبدا نواب حزبه يصارعون من أجل البقاء السياسي، وهم عالقون بين أقصى اليمين المتقدم في استطلاعات الرأي، واليسار.
ومنذ صدور القرار وماكرون يكافح للدفاع عنه، وقد صرخ أمام الصحفيين المدعوين لحفل الغداء في جزيرة سين “إنه ليس قرارا منفردا”، مع أن هذا بالتحديد هو ما يلومه عليه أنصاره وحلفاؤه.
ويعتبر هؤلاء أن القرار هروب إلى الأمام وغرور وغير حكيم ومحفوف بالمخاطر، وقد تترتب عليه عواقب وخيمة، مثل أغلبية مطلقة للتجمع الوطني اليميني المتطرف أو غرفة لا تمكن السيطرة عليها أو عدم تعايش أو شلل للنظام.
وبعد 7 سنوات من السيطرة بلا منازع على معسكره – حسب الكاتبة – يجد ماكرون نفسه موضع انتقادات وتحديات شديدة، إذ أسقطه أصحاب الوزن الثقيل من أغلبيته، وسجل رئيس وزرائه السابق إدوار فيليب انفصاله عنه بغضب على الهواء مباشرة، متهما إياه “بقتل الأغلبية.
وفي اليوم ذاته، أطلق وزير الاقتصاد برونو لومير على مستشاري الإليزيه اسم “قمل الخشب”، كما قال وزير الداخلية جيرالد دارمانان إنه لن يبقى وزيرا “يوما واحدا” بعد الانتخابات التشريعية إذا هزمت الأغلبية، وحتى رئيس الوزراء غابرييل أتال وعد بأنه سيكون هناك “ما قبل وما بعد في ممارسة السلطة وتوازن المؤسسات” إذا تم انتخابه.
وأشارت الكاتبة إلى أن ماكرون ظل وحيدا في مواجهة الجميع منذ وصوله إلى السلطة، مؤمنا بقدرته على الخروج بمفرده من الأزمات الشائكة، مما جعله يعيش “معزولا بسبب يقينه بموهبته” وشعوره بالتفوق والعصمة، على حد تعبير المؤرخ وعالم الاجتماع بيير روزانفالون.
وفي هذا “القرار المجنون” بحل الجمعية، تتلخص إدارة ماكرون بأكملها – حسب سولين دي رواييه – إذ وجد نفسه وحيدا في مواجهة “شعبه” وخلق فراغا حوله، متجاوزا الهيئات الوسيطة، ومضعفا الأحزاب القديمة دون بناء بديل لها، مما حرمه من أن يكون لديه رفاق يتمتعون بثقل سياسي مطلوب.
وفي الحكومات التي عيّنها، كان ماكرون يعمل دائما على ضمان عدم بروز أي شخص، ودائما ما كان يرفض التحالف مع اليمين لأنه غير قابل لتقاسم السلطة، لفرط ثقته بنفسه وحدها، فلم لا يكون هو، الذي أراد دائما أن يحكم بمفرده، سعى ببساطة إلى أن يجد نفسه أخيرا وحيدا تماما على القمة، في مواجهة جمعية مفتتة؟
هناك شيء من الإمبراطور نابليون بونابارت في ماكرون، كما يقول المؤرخ فينسان مارتيني “رجل وحيد يحتاج إلى العمل والفتوحات العسكرية ليعيش، ومغامر انطلق في رحلة مجنونة قبل أن تنتهي في واترلو”. وقد بدأت مغامرة ماكرون وحيدا في قاعة نابليون بمتحف اللوفر على أنغام النشيد الأوروبي “نشيد الفرح”، ويبدو أنه سينهي ولايته كما بدأها، على حد تعبير الكاتبة.
وكانت صحيفة “لوتان” السويسرية الناطقة بالفرنسية، قد قالت إنّ المشهد المحزن الذي تقدّمه يدعو إلى التساؤلات عن مدى تعلّق سويسرا بجارتها الكبرى بعد قرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المتسرع الذي يلحق ضررا عميقا ببلده وبالفرنسيين، ويعامل البلاد بوحشية ويقوض صورتها الدولية، ويحتمل أن يؤدي إلى الفوضى.
وأوضحت الصحيفة – في عمود الصحفية ماري هيلين ميوتون – أنّ الرئيس الذي قاد فرنسا منذ سبع سنوات حمل خلالها آمالا كبيرة، تبيّن أنه كان مخيبا للآمال للغاية بعد رد فعله على نتائج الانتخابات الأوروبية التي لم يحصل فيها حزبه على أكثر من 14%، مقابل أكثر من 35% لليمين، وتقاسم اليسار الباقي.
ففي مواجهة الرفض القاطع للسياسة التي يجسدها، اختار إيمانويل ماكرون بعد ساعة من نشر التقديرات الأولية حلّ الجمعية الوطنية، في إجراء يهدف حسب رأيه لتصحيح الوضع، رغم أن الكثيرين يدينونه ويصفونه بالاندفاع الاستبدادي انتصارا لروح النرجسية، مع رغبته في الانتقام من هذا “الشعب غير القابل للحكم”، والذي لا يفهم شيئا.
وحكمت الكاتبة بأنّ أداء فرنسا سيئ كما يظهر من ارتفاع الدين العام والعجز، مع تزايد التوترات المجتمعية يوما بعد يوم بسبب الهجرة غير المنضبطة والسياسات المتساهلة وتزايد انعدام الأمن وتراجع القدرة الشرائية وذبول الاقتصاد، وحتى لو كان كل هذا لا يعود إلى مجيء أصغر رئيس لفرنسا – كما تقول الكاتبة – فإنّ ماكرون لم ينجح في إبطاء الحركة بل قام بتضخيمها، فهو يجيب المواطنين بهدوء بأن المشكلة لا تكمن فيه بل في الآخرين، وأنه يجب أن يكون هناك المزيد من الماكرونية والمزيد من أوروبا.
وأكدت ماري هيلين ميوتون أنّ السلطة الحالية ستهزم مساء 7 جويلية المقبل، وأنّ السيناريو المتوقع هو سقوط أغلبية مطلقة أو نسبية في يد التجمع الوطني لمارين لوبان وجوردان بارديلا المرتبط بمرشحي إريك سيوتي، وسيكون التعايش صاخبا للغاية ومغامرة قاتلة.
ومع أنّ مظاهرات اليمين التي تهز المدن الفرنسية الكبرى تظهر ذلك بالفعل، فإنّ هناك احتمالا آخر ضعيفا بأن تمنح أغلبية نسبية لتحالف اليسار، وبالتالي كان على ماكرون أن يصبر على الجمعية الوطنية حتى سبتمبر القادم على الأقل، والسماح بمرور الألعاب الأولمبية، لكنه قام بما وصفته بتحطيم المنزل، متجاهلا مصلحة الشعب التي يعتبر هو ضامن لها، وخلصت الكاتبة إلى أن قرار ماكرون بحل الجمعية الوطنية أدى إلى تسريع التصدعات، وجعله “حفار قبر فرنسا”.