تقول الحكمة “إن الأعداء ثلاثة: عدوك وعدو صديقك وصديق عدوك”، ويدعي المتحاذقون بأنه لا يوجد في السياسة عدو دائم ولا صديق دائم، وإنما هي مصالح دائمة، عوض القول بأن هناك مبادئ دائمة. طبيعي جدا بأن ترفض سلطة الكيان الصهيوني انتخاب الجزائر عضوا غير دائم بمجلس الأمن الدولي، فالأمر لا يحتاج لشرح أو تفسير باعتبار أنه يتعلّق بسرطان احتلالي تم زرعه في الخارطة العربية ليكون النسخة الأبشع والأقذر للاستعمار عبر التاريخ.
وبالمقابل فإن الجزائر تأتي على النقيض من ذلك تماما، فهي دولة توّجت وجودها في التاريخ الإنساني بثورة مجيدة رفعت قيم الحرية والسلم العدل ومبدأ استقلال الشعوب عاليا.
الغريب في القضية أن تقف ضد الجزائر دول عانت شعوبها ويلات الاستعمار بالإضافة إلى دولة توصف ـ في أدبيات السياسة الجزائرية ـ بالشقيقة، ناهيك عن “الجارة الغربية” المغرب التي اختارت ـ بكل وقاحة ـ التصويت بـ”لا” خلال انتخاب الجزائر عضوا غير دائم بمجلس الأمن الدولي، بينما كانت الجزائر قد ساندت المملكة في ترشحها لتنظيم دورة كأس العالم رغم ضعف ملفها وهشاشة إمكاناتها.
مملكة علبة الألوان
الغريب أكثر فأكثر، أن “اللاءات” غير النافعة التي تمّ رفعها ضد الجزائر صدرت من كيانات مستحدثة أو مقتطعة من دول أخرى، لا مكان لها في التاريخ، كما صدرت إحدى هذه اللاءات من مملكة ـ علبة الألوان ـ الذي يختلف الجميع في رسم خريطته، بسبب أطماعه الاحتلالية، دون نسيان أن بعض اللاءات جاءت بأوامر صهيونية بحتة.
وهكذا ظهر جليا للعالم أجمع، بأن الدول التي تبغض الجزائر، ليست في الحقيقة سوى أنظمة سوء، وظيفية الدور عديمة السيادة مفقودة الكرامة، تقتات من الذلة والمسكنة والهوى، في خدمة القوى الداعمة لها، على سبيل أداء مهمات قذرة لفائدة الغير، ولو على حساب عزتها وشرفها، إن كان لها ذلك.
تجاذب في مخادع صنع القرار
بالعودة إلى موقف “جلالة الملك الجار”، فإنه لا يعدو أن يكون مجرد فضيحة دبلوماسية أخرى، تضاف إلى سجل المملكة الحافل بالفضائح والخيبات، إلا أن هذا “الشذوذ” قد فرض على المهتمين البحث عن صاحب الموقف الفعلي في هذه القضية.
إن فهم الإشكالية ومعرفة هوية الطرف الآمر في القضية، يوضّح وجه الجناح الأقوى في مشهد الصراع السلطوي داخل البيت الملكي ومحيطه القريب وحديقته الخلفية، ذلك أن خلافات عائلية تكون قد نشبت، ومعركة داخلية لكسر العظام قد اندلعت، بين أجنحة صنع القرار داخل دواليب النظام المخزني بشأن ولاية العهد، و”جلالة” محمد السادس يعاني تدهورا متكررا في حالته الصحية.
فهذا الأمير رشيد شقيق الملك، مدعوما من قبل شقيقاته ومن طرف اللوبي اليهودي/الصهيوني، يريد الانقلاب على ابن أخيه ولي العهد الحسن، كما يريد وشقيقاته تصفية حسابات شخصية “مع لالة سلمى” التي كانت قد فرضت ولاية العهد لابنها، وأما اللوبي الصهيوني/اليهودي فحساباته تجري مع الهيمنة الفرنسية، حيث يريد تصفيتها بإخراجهم من مخادع صنع القرار المغربي، والاستئثار به لوحده.
على الطرف الآخر يقف رجال ثقة “الملك محمد السادس”، وعلى رأسهم الثنائي الأخطر: “المنصوري” مدير الأمن الخارجي، و”الحموشي” مدير الأمن الداخلي، فهؤلاء يرفضون ـ في الوقت الراهن ـ الانقلاب ولو بصورة ناعمة، على رغبة الملك وشرعية السلطان.
إنهم يتمسكون بتلابيب الشرعية الملكية من جهة، ومن جهة أخرى بالدعم الذي يتلقونه من لدن اللوبي الفرنسي الفاعل جدا في إدارة شؤون المملكة، رغم الضغوط المتزايدة من قبل التيار الصهيوني/اليهودي.
تمرّد علني
وفي خضمّ غابة الصراع هذه، تسربت معلومات خطيرة تناقلتها بعض التقارير السرية، تشير إلى ميلاد حركة جديدة داخل صفوف الجيش الملكي، تشكلت نواتها أساسا من الجيل الجديد الممتعض من الوضع الراهن للمملكة بسبب تردي الأمور الاقتصادية وتعقد الأوضاع الاجتماعية، وكذلك ظهور بؤر النهب المالي وشبكات الفساد الأخلاقي، وأخذها في التوسع والتمدد، وقد تمكنت هذه الحركة من كسر حاجز الخوف، إلى حد أنها أظهرت تمردها علانية ولو بصورة محدودة.
في حين، فضل بعضهم الخروج في عطل استجمامية، إلا أنهم لم يعودوا إلى الخدمة أبدا، وأما البعض الآخر فقد ربطوا اتصالات مع أطراف سياسية مغربية معارضة في الخارج، ودخلوا معهم في حلف لتشكيل هيئة تنسيق مشتركة.
والمثير هذه المرة في القضية كلها، هو انشقاق جنود من أصول صحراوية، والتحاقهم بمعسكرات جيش بلادهم، وهناك منشقون آخرون، قد غادروا نحو ليبيا، بهدف الهجرة بصورة غير شرعية إلى أوروبا عبر بوابة إيطاليا، إلا أنهم، ولسوء حظهم، وقعوا في أسر ميليشيات الجنرال الليبي “حفتر”، الذي هو الآن بصدد التفاوض مع السلطات المغربية التي تطالب بتسليم الفارين حتى تتم محاكمتهم في الرباط.
المعركة الدبلوماسية حدثت في نيويورك، وكان النصر للجزائر، وأما الخيبة ولطم الخدود ففي تل أبيب، وشق الجلابيب في الرباط، والإحباط في عاصمة تبييض الأموال وقضم الأظافر وعض الأصابع وجر الأذيال في باقي الكيانات المستنسخ بعضها عن بعض، لتخرج الجزائر كما ظلت، رافعة الرأس شامخة الجبين، في انتظار معارك أخرى وفتوحات ونصر مبين.