“لا يَنْبغي بحالٍ أنْ نَغْفل، وسوف لا ترتاحُ ضمائرنا إلى الأبد، وسيُحاسِب التاريخُ أجيالاً في مَشارق الأرض ومَغاربها، إذا لم تَعْمل كل ما في وسْعها لاسترجاع أُولى القْبْلتيْن وثاني الحَرميْن: القُدْس الشَّريف كما نُسَمِّيه بِحَقٍّ”. هكذا كان الرئيس الرَّاحل “هوَّاري بومدين” يرى بأنَّ تحرير “القُدس” الشَّريف هو الهدفُ الأسْمى الذي يجبُ أنْ تتوارثه الأجيال ولا تغفل عنه حتى تحقيقه.
قال ذلك في كلمة ألقاها في جامع “القيروان” في “تونس” بمناسبة الاحتفال بالمولد النَّبويِّ الشَّريف. وسيُلاحظُ القارئُ، في هذه الكلمة، عُمقَ المعرفة والثقافة الدينيَّة والتَّاريخيَّة للرئيس “بومدين”، وامتلاكه لرؤيةٍ واضحةٍ حوْل رسالة المسجد في استثمار القِيَم من أجل تحصين الأجيال ضدَّ كل الأفْكار الهدَّامة لعناصر أصالتها، وأيْضًا من أجل بناء الشَّخصيَّة المُجتمعيَّة وتحصينها روحيًّا بالقِيَم الإسلاميَّةِ.
رؤية الرئيس “هواري بومدين” أنَّ الإسلام هو أكبرُ قُوَّةٍ يُمكن المُراهنة عليها في تحقيق وحدة الأمَّة العربيَّة، وتحرير فلسطين والقُدس الشَّريف يجب أن يرتكزَ على القِيَم الإسلاميَّة، ذلك أنَّ ثورة التَّحرير الوطني كانَ سلاحُها الذي لا يُقهَر هو الإيمان المُستمدِّ من الدين الإسلامي وقِيَمه.
ولو أنَّ الرئيس “بومدين” بُعِث في دُنيا النَّاس لِساعَةٍ من الزَّمان، وشاهدَ مدى التوحُّش الذي بلَغَه الإجرامُ الصهيوني ضدَّ الشَّعب الفلسطيني في غزَّة، ومدى الدَّعم الذي يلقاهُ الكيانُ الغاصب من طرَف قوى الشَّر العالمية التي لم تتحرَّر ولم تتطهَّر من نزعتها الاستعمارية وروح الهَيْمنة على الشُّعوب العربيَّة خاصَّة.. إضافةً إلى الأطراف العربيَّة التي “صادقتْ” الصُّهيونيَّة على حساب الفلسطينيين وقضيَّتهم.. فإنَّ “بومدين” سيكون أكثرَ إصرارًا على أنَّ طريق “صلاح الدِّين” هي الطريق الوحيدة إلى تحرير فلسطين، وأنَّ التَّمسُّك بالقِيَم الإسلاميَّة هو الحَبْل الوَحيد الذي يُمكنه أن يُجسِّد “الوحدة العربيَّة” إذا ما اسْتمْسك به كلُّ العرب.. ولعله لن يُجِيب عن السؤال حول مُستقبل هذه “الوحدة العربيَّة”، فقد قالها منذ أكثر من خمسين سنة: “فلسطين هي الأسْمنت الذي يَجمعُنا والدِّينامِيت الذي يفجرنا”.. ويبدو أنَّ توقيت انفجار الدِّينامِيت قد اقترب كثيرًا، ولم ينتبه إليه الذين تخلُّوا عن الروابط الرُّوحيَّة بين العرب، وهَرْولوا صَوْبَ الاسْتِمْساك بروابط قد تكون ماديَّةً أو مصْلحيَّةً ولكنها أوْهى من خُيوط العنكبوت، فلا مُؤمنًا يَثِق بالشَّيطان، ولا بالقوى التي ترفعُ رايته..
فيما يلي نُقدِّم إلى القارئ نصَّ كلمة الرئيس “هواري بومدين” في جامع القيروان في تونس، نُشِرتْ بمجلة “الأصالة” في الأول من شهر مارس 1972، تحت عنوان ” معركةُ التَّنمِيَة والأصالة وَجْهان لمعركة واحدة في مغربنا العربي الكبير”..
الصِّلةُ الرُّوحِيَّةُ تَفرِضُ التَّضامنَ المُطلقَ..
الاحتفالُ بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف من أجَلِّ المناسبات ومن أعزِّ أعيادنا الدينيَّة، وبالذَّات في هذا المسجد العتيق الذي هو أوُّل مسجدٍ بُنِيَ على تقوى من الله في رُبوعِنا وفى هذه المدينة العريقة عَراقة العروبة والإسلام لدينا، والتي كانتْ أوَّلَ عاصمةٍ للإسلام في مغربنا، أقول: إنَّ في هذا كلِّه لأكثرُ من مَغْزى عميق، لأوْسع من تذكيرٍ بأوثق رابطةٍ بيننا، وهي الصِّلة الرُّوحِيَّة المُقدَّسة التي تفرضُ التَّضامنَ المُطلقَ ووحدة المَصير..
إنَّنا ونحن نَطأُ هذه التُّربةَ الطاهرةَ من “قَيْروان عُقبة” لَتَغمرُنا الذكرياتُ الخالِداتُ للعهود الزَّاهرة للإسلام الذي أشَعَّ نورُه على هذا المغرب الكبير فحرَّر العِباد من الأغلال والاستغلال، وطهَّرَ البلادَ من فُلول الغزو والاحتلال، وزكَّى العقولَ والأرواحَ بِقِيَمٍ جديدة عُلْيَا، وكان مُنطلقًا لحضارةٍ من أغْنى الحضارات وأمْجدها.
ثورتُنا كانتْ على خُطى “عُقبة”
ولقد كان “عقبة” بطولةً من تلك البطولات التي أضاءتْ للمُقْتدِين سُبَل السَّيْر، وأمدَّتْ الحائرين بِنُور الهُدى، واستأصلتْ من أفكار المُتردِّدين نَزْعةَ الشَّك، وعملتْ على غَرْس قِيَمٍ كانت حِصْننا الحَصين، وملاذَنا الأخير في كفاحنا التَّحْريري الطويل الذي كان في هذا الرابط الرُّوحي أقْوى دافعٍ على جَمْع الشَّتات وتوحيد الصُّفوف، وشَحْذ العزائم، ومُواصلة السَّيْر بإرادةٍ وتصميمٍ حتى تحقيق الهدف واسترجاع أرْضِنا المَنهوبة وحرِّيَتنا المَسلوبة.
قِيَمُنا الإسلاميَّة تحمِي أجيالَنا
إنَّ في احتفالنا جميعًا في سائر أصقاع البلاد الإسلامية بذكرى المولد النَّبَوِي الشريف لتمجيدًا لتلك القِيَم الشَّريفة، وتعزيزًا لها في نُفوس أجيالنا في جميع العٌصور، وخاصَّةً في هذا العَصر الذي أصبحتْ تتعرضُ فيه إلى أصْناف الهزَّات، وتَرِد إليها مُختلفُ التَّيارات، وتَشتبِهُ عليها عَديدُ الاتِّجاهات.. وإنَّ في زيارتكم (مُخاطِبًا الرئيس التونسي آنذاك) سنوِيًّا للقيروان بهذه المناسبة.. مناسبةُ بُزوغ فجر الإسلام علينا، لسُنَّةٌ حميدةٌ تدلُّ، فيما تدلُّ عليه، على مدى تشبُّتكم بمبادئ ديننا الحنيف، وعلى حرصكم على التفكير بما كان لهذه المدينة من دَوْرٍ في حضارتنا الإسلامية المجيدة التي كانتْ أساس نهضة أوروبا.
“القيروان” عاصمةُ الإسلام في المغرب العربي
كان عقبة رضي الله عنه ببنائه مدينةَ “القيروان” ومسجدَها الذي مازال يحتفظ بمحرابه الذي خطَّطه بنفسه، يرمي إلى أنْ يجعل منها حِصنًا للإسلام حَصينًا، ومن مسجدها مَنابرَ للعلم. وكانت فعلاً كما قال عنها “عقبة” حين تخطيطها: “أني أرى أنْ اتَّخذ بها مدينةً تجعلها مُعسكرًا وقيروانًا تكون عِزًّا للإسلام إلى آخر الدهر”. وكَمْ من شجرة مُباركةٍ امتدَّتْ من عاصمةِ “الأغالبة” جُذورُها وتعدَّدتْ فُروعُها، وكم مِن عالِمٍ مُشرِّعَ وضَّحَ السُّنَنَ وأضاءَ للأجيال السُّبُلَ؟ وكَمْ مِنْ قائدٍ أعْطى المَثلَ باستشهاده، وكم من نَطاسِيٍّ حكيمٍ دَرَج فوق ثرى مدينتنا هذه، رجالٌ وَصَلوا سَواد ليلِهم بِبَياض نهارِهم في تكوين أجيالٍ من بُناة الحضارة ورُوَّاد الفَضيلة وشُهداء الحق.
أعْلامٌ من العَصْر الذَّهبيِّ
فهذا “أسد بن الفرات” قاضي “القيروان” وفَقِيهُها يتركُ مَجلِسَ القضاءَ ويخوضُ عَبابَ البحر حتى يقضي نَحْبه ويُقاتل في سبيل الله حتى وَقَع شهيدا؟ وهذا “أبو جعفر أحمد بن إبراهيم الجراد” يَخُطُّ بِعَرق الجُهْد والتَّجريب مِن أُمَّهات الكِتاب ما ظلَّ قُرونًا وقُرونًا من المَراجع الأولى لأطِبَّاء العالَم. وهذا “أحسن بن رشيد” يغادر مَسِيلته (مدينة المسيلة) وافدًا إلى “القيروان” لِيدْرُس ويُدرِّس ويكتب فيها عُمدتَه (كتاب العُمْدة)، بل ويصبح عُمْدتها كما فعل بعد ذلك “وليُّ الدين عبد الرحمن بن خلدون” الذي ترك “تونس” ليدْرُس ويُدرِّس في “تلمسان” ويكتب مُقدَّمته (مُقدَّمة ابن خلدون) في “بني سلامة” ويصبح رئيس حكومة “بجاية”.
تلك عُصور ذَهبِيَّةٌ زاهِرةٌ لمغربنا المُوحَّد، وأولئك رجال هُمْ وغيرهم قوَّةُ هذه الأمَّة وعِزَّتها، ولا يزالون بآثارهم يَرسُمون لنا طريق إعادة وحدتها واسترجاع مجدها وسؤددها.
المَساجدُ حُصونٌ روحِيَّةٌ
إذا كُنَّا الليلةَ نحتفلُ ونبتهجُ في هذا الحَرَم العريق والجديد في الوقت نفسه بما أُصْبِغ عليه من حُلَّةٍ قَشِيبة استرجعت له بَهاءَه ورَوْنقه، وإذا كُنَّا لا تزال لنا، والحمد لله، معاهد الزيتونة والقرويين والأزهر، وإذا كُنَّا لا نَفْتأ نزهو بمجرد تَقوى الجامع الأُمَوي وغيره من المَعاقل الرُّوحِيَّة في أنحاء العالم الإسلامي، ولَئِن كُنَّا قد اسْترجَعنا “جامع كتشاوة” وغيره من حُصون الإسلام في الجزائر، وأعَدْنا لها قُوَّتَها وازدهارها، بل وجدَّدنا نشاطَها وعَزَّزناها بمعاهد جديدة أصيلة حديثة نحن بِصدَد تَتْويجها بنواةِ جامعةٍ إسلاميةٍ تامةٍ تتكاملُ والجامعات الثلاثة الأخرى التي هي نفسها بِصَدَد التَّعريب الشامل وتجمعُ من جديد ما انتثر، وتُحْيى من تراثنا ما اندثر في: تيهرت، بجاية، تلمسان، قسنطينة، القلعة، وهران..
على دَرْبِ صلاح الدِّين الأيُّوبي
وأخيرًا وليس آخِرًا، فإذا كُنَّا لا نزال نشعر بدفءٍ رُوحيٍّ لا يُقَدَّر، ومُتْعةٍ معنوِيَّةٍ لا حدود لها بمجرد ذِكْر الحرمين الشريفين، فلا ينبغي بحالٍ أنْ نغفل، وسوف لا ترتاحُ ضمائرنا إلى الأبد، وسيُحاسِب التاريخُ أجيالاً في مَشارق الأرض ومَغاربها، إذا لم تعمل كل ما في وسْعها لاسترجاع أُولى القْبْلتيْن وثاني الحَرميْن القُدْس الشَّريف كما نُسَمِّيه بِحَقٍّ.
هذه لحظاتٌ لا تُنْسى مدى الحياة، تُبارِك ما نَسَّقْناه من خُطَى، ووحَّدناه من جهود، لنَخرُج من معركة التنمية واسترجاع الأصالة مُنتَصرِين، مَرْفوعي الرأس مَوْفوري الكرامة، وبذلك نكون قد حقَّقْنا ازدهارَ بلداننا وسعادة شُعوبنا، والْتَحقنا بالرَّكْب المُتقدِّم، وأعَدْنا إلى مَغربنا ما كان له من مكانة وقوة، وساهَمْنا المُساهمةَ الفَعَّالة في استرجاع ما لأمَّتنا من مَجْدٍ وهيئةٍ وعِزَّةِ جانِبٍ ومَناعةٍ، وسِرْنا على درب “صلاح الدين”، وكُنَّا على مَوْعِدٍ مع التاريخ.