بصبر الجبال تجمل “وائل” واصطبر، وتقطع قلب الفقير لربه وانفطر.. واستجمع كلّ شتاته المنشطر، ليستمسك ببضع ما تبقى من جسد الوليد المسجى، ويطلق زفرات الأسى لصوته المبحوح المتقطع المستعر؛ “..ربي.. إنه ليس ولدي فقط، ولا بضعة مني فحسب، وإنما هو أنا، هو كلي، هو روح روحي..”.. و”حمزة” عريس الشهداء، قد ارتقت روحه الطاهرة العصماء، وسمت تعانق رحمات ربها في موكب ملائكي بين الأرض والسماء، تحفّها الأرواح الزكية لجحافل الغُرِّ الأصفياء، وتظلّلها الأجنحة الوارفة البيضاء لبراق الأنبياء.. يا أطيب ما ارتقى على درب المقاومة ونهج الفداء.
وائل.. أيها الصوت المجلجل في سماء الحق شجاعة وجسارة وشموخا.. أيها الصادح الصادق الباسق، في زمن الهمس والافك والخضوع.. أيها المستمسك بالعروة الوثقى، زمن الغدر والمكر والخنوع.. أيها الغزّوي الفلسطيني العربي، الثابت كالطود هنا على أديم هذه الأرض، الضارب في غورها منذ فجر التاريخ وبداية الأكوان.. فلا أحد يجاريك شدّة وبسالة، ولا من يباريك بأسا وشجاعة، ولا من يطاوعك جرأة وجسارة.. فطوبى لك أيها الشهيد الحيّ الواقف، والقديس الفذّ العاكف، والمراسل الصّلب العاصف.. وقد جعلت من الكلمة قذيفة مزلزلة، ومن الميكروفون ماسورة مرعبة، ومن صوتك المتزن لسان صدق مدمر لكل الأكاذيب والألاعيب والخيانات البائسة المفلسة.. أيها المحرّر لرسالة الإعلام ومصدر النبأ، من دنس التزلف ودرن الشقاق، ومن شوائب الإفك ورجس النفاق.
وائل.. مواطن مدني، ومراسل صحفي، لم يحمل قذيفة ولم يفجّر عبوة ولم يضرب رقبة، وإنما قال حقا ونطق صدقا بكل أمانة وقسطاس.. فكان لسان غزّة النديّ وصوتها الجَهْوَرِيّ ورسانها الزكيّ، الأمين الذي يحاكي الواقع ويكشف المواجع ويقتحم المواقع، وكله جرأة وشجاعة وإيمان، كفلسطيني باسل جبّار عصيّ.. لا يكلّ ولا يملّ ولا يلين، “منتصب القامة مرفوع الهامة” وضّاح الجبين.
فلما أفجعتم قلبه في الأهل والولد وفي الجيرة والبلد؛ كَلَمْتُمُوهُ في “آمنة أم حمزة” سيدة الرباط والمقام، وأوجعتموه في حبة العين “محمود” اليافع الهمام، وأفزعتموه في ريحانة العمر “شام” ذات الستة أعوام، وأجزعتموه في حلم حياته “آدم” الحفيد الرضيع بلا ذنب يرام… يا الله.. كل هذا الألم ولم يشف غليلكم، فأوغرتم سكاكين حقدكم اللعين في جراحات قلبه الحزين، وقصمتم ظهره غدرا باغتيال مهجة روحه الأمين؛ “حمزة” العريس والفارس الأنيس، شهيد الكلمة الحرة والصورة المعبرة والرسالة النيّرة.
رغم ذلك، لا يزال “وائل” واقفا على قدميه، كأسطورة شاهدة ومقاومة صامدة، على نهج أبي عبيدة ودرب الضيف وأثر السنوار.. شهما شامخا جسورا، ولسان حاله من قلب المحنة وصدر الوجع، يسخر كبرياءً من العلج والهمج، ويغازل غزّة العزة ويلهج؛ ماذا تريدين مني يا ترى..؟ لقد سددت ديوني نحوك ورفعت وزري، بذلت لك الفجر في عنفوانه، وتركت الضحى وغروبه أتم بهما مشوار الحياة.. ولا حياة بعدك.. فماذا تريدين مني يا ترى..؟ لقد جعلت اسمك أنشودة ترددها حناجر الأطفال، وتحية مألوفة لدى ألسنة الأبطال، ووسما سحريا يتفاخر برسمه ووشمه المُضْطَهدُون الاحرار، والصعاليك الأخيار، على الصدور والنحور وعلى الجدران والاحجار، وتحت سقوف الدور والجسور وعلى شطآن البحار.. وأغنية حزينة تترنم بها شفاه العواتق فوق شرفات الكلام، سيبقى صدى تراتيلها الخالدة يتردد بين فلواتك الفردوسية إلى آخر الأزمان.. وملحمة كبرى تسافر بين تلافيف العمر ومحطات الأيام.. فماذا تريدين مني يا ترى..؟ فأنا لم أخترك غزة ولا أنت فعلت، وإنما هو قدري كتب علي حبّ الاستنزاف، يصلي عواطفي زَلْزَلَةً، ويهدم بداخلي آخر ما تبقى من قلعة شيدت صرحها لأتفيأ فيها ذكريات طفولتي المغتالة مرتين؛ مرة يوم ميلادي، ومرة يوم مولد أحلامي.. فها أنا ذا كليلة خريفية باردة ظلماء، كعصف مأكول فقدت بفقد الأهلّة صبحها وأصيلها.. فما ذا تريدين مني يا ترى..؟ ..إنني قادم إليك من أقاصي الأبدية، جعلت التاريخ راحلتي، وسافرت بوجداني إلى أرض أغرقها القبح وقتلتها البشاعة وأودت بها الشناعة والبغضاء.. فتشاء الاقدار أن أكون فارسها، وأخوضها حربا لأجل عينيك ولأجل طفولتي ولأجل أحلامي.. ولأجل الحب والسلام.
تضاعف الألم بجرح اليد اليمنى، فقد غفل عنه ولم يعره الهمّ الأجدر، لفرط ما يحمل في قلبه من جراحات الفقد، والتي لو وُزِّعَ وَجْدُهُا على أهل الأرض جميعا لأذهلهم.. والأوغاد الذين أصابوه وهم يحاولون اسكات “هديره”، لا زالوا يترصدون حراكه من حي إلى حي، ومن شارع إلى شارع، ومن مدينة إلى مدينة.. يطاردون صوته من حيث صدر، ويقتفون أثره من حيث مرّ وعبر.. ولذلك، كان لا بد من خروج وسفر، استردادا للأنفاس واستعدادا للمعركة القادمة، فالحرب ضروس سجال، لا تزال طويلة الأمد مديدة الآجال.
إلى خارج غزّة كانت الوجهة هذه المرة إذًا، ولم تكن فرارا ولا هروبا، وإنما كانت لطلب العافية والاستشفاء، فقد أثخن المسوخ في “وائل” جراحا وآلاما، إلا أنهم لم ينالوا من إيمانه ولا من تقواه شيئا، سوى أن زادوا قلبه ثقة وتشبثا بالقضية.. قضية مقدسّة قضى القدر بأن تسكنه ويسكنها، أن تحمله ويحملها، أن تسافر به ويسافر بها، أن يؤمن بها وبشعبه وبكل شرفاء الأرض وأحرار العالم.. ولذلك، فقد بدا الرجل أكثر جسارة وأقوى شكيمة وأشد مراسا، وهو يترجل من الطائرة التي على متنها بلغ مأمنه، مدركا بأنّ البلاء الذي أصابه ما كان ليكون لو لم يكن مقدّرا له، فبالنهاية، لم يتمكن “الحثالة” إلا من إنفاذ أمر الله ليس إلا، فصبر جميل والله المستعان.
وحشرجة بصدر “وائل” بالكاد يخفيها، تعتصر صدره وتشدّ حلقه، فيتمتم بصوت خافت متقطع؛ سقط الدمع من مُقلتي، وبكت “غزّتي” الحجر، وسأكتب فوق مذكرتي؛ شاهد على اغتيال حلمك يا وطني، كتم السر ثم انفجر.