إن ما يحدث في قطاع غزة الفلسطيني من حرب إبادة ودمار منذ السابع من أكتوبر 2023، والذي امتد لاحقًا إلى الضفة الغربية وتوسّع أخيرًا ليشمل لبنان، هو أكبر بكثير من أن يكون مجرّد أجندة دموية تنفذها “إسرائيل” وحدها. فالأمر يتجاوز ذلك بكثير، حيث يفتح شهية الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عمومًا لتجسيد ما صرّحت به وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة “كوندوليزا رايس” أثناء حرب 2006 بين “إسرائيل” و”حزب الله”، حين قالت: “نحن بصدد شرق أوسط جديد”.
منذ ذلك التاريخ، ظلت النوايا مُبيّتة لتحقيق هذا الهدف، وما تقدمه الولايات المتحدة من دعم سياسي وعسكري لـ”إسرائيل”، التي تُعتبر أداة وظيفية لتنفيذ السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، ليس سوى دليل واضح على هذا التوجه الذي تم التحضير له مجددًا من خلال “اتفاقات أبراهام”، التي تدعو الدول العربية وغيرها إلى تطبيع العلاقات مع “إسرائيل”.
ومع ذلك، ترفض بعض دول المنطقة، وعلى رأسها إيران، هذه الإملاءات، حيث تدعم أذرع المقاومة في كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن. كما أن إيران قد أجبرت الولايات المتحدة على إجلاء معظم قواتها من العراق بعد احتلاله من قِبل التحالف الغربي الظالم في عام 2003.
استنادًا إلى إرادة الولايات المتحدة الأمريكية وضغوطها القوية، وحرصها الشديد على أمن “إسرائيل”، قامت كل من الإمارات والبحرين والسودان والمغرب بتطبيع علاقاتها مع “إسرائيل”. ويأتي ذلك بجانب مصر، التي كانت قد طبعت علاقاتها منذ اتفاقية “كامب ديفيد” في 17 سبتمبر 1978، والأردن بموجب معاهدة “وادي عربة” في 26 أكتوبر 1994.
وكانت بعض الدول العربية الأخرى في الخليج على وشك اتخاذ خطوات مماثلة، لولا عملية “طوفان الأقصى” التي غيرت المعادلات وأعاقت جميع هذه السيناريوهات حتى الآن.
“إسرائيل”، التي لم تعتد على خوض حروب طويلة الأمد، تجد نفسها اليوم غارقة في مستنقع غزة. لقد كلفتها ما يقارب السنة من المعارك العسكرية الفاشلة، مما أفقدها هيبتها وألحق بها خسائر معتبرة في الأرواح والمعدات. ورغم الدعم الأمريكي السخي، لم تتمكن “إسرائيل” من تحقيق أيٍّ من أهدافها المعلنة في هذه الجبهة.
بعد الفشل الذريع في قطاع غزة، ومحاولاتها المتكررة في الضفة الغربية، سعت “إسرائيل” وبإيعاز من الولايات المتحدة إلى تحويل الأنظار عن هذه الأزمات باتجاه “حزب الله” اللبناني. وقد جاءت هذه الخطوة تحت ذريعة إعادة سكان الشمال إلى بلداتهم الاستيطانية.
ولعل عزيمة “إسرائيل” في هذا السياق تعود إلى تسجيل اختراق أمني غير مسبوق لـ “حزب الله” يوم الثلاثاء 17 سبتمبر 2024، مما أسفر عن العديد من الضحايا والجرحى في صفوف العسكريين والمدنيين، بما في ذلك من حاضنته الشعبية ومن مناطق أخرى في لبنان، حيث كانوا يستخدمون جهاز “البيجر” المفخخ في اتصالاتهم. وفي اليوم التالي، شهدت المنطقة تفجيرات لوسيلة اتصال أخرى أسفرت بدورها عن قتلى وجرحى.
وتجاوزت “إسرائيل” كل الخطوط الحمراء بقصف الضاحية الجنوبية لبيروت، مما أدى إلى اغتيال القائد البارز “إبراهيم عقيل”، خليفة الشهيد “فؤاد شكر” على رأس دائرة العمليات في “حزب الله”.
إن جميع الضربات التي وجهتها “إسرائيل” إلى “حزب الله” تُعدُّ معروفة لدى الولايات المتحدة، التي خططت لها بهدف إشعال فتيل التوتر في المنطقة وتحقيق أهدافها المبيتة. فكيف يمكن تفسير دفاعها المستمر عن جرائم “إسرائيل” وعدم جدية مساعيها لفرض وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وهي التي تُعتبر الآمر الناهي في العالم اليوم؟
على الرغم من ذلك، أعلنت المقاومة في لبنان تحديها لـ”إسرائيل” منذ زرعها في المنطقة، مدافعةً عن الأرض والعرض. وقد أكدت المقاومة مؤخرًا أنها لن تتراجع عن أهدافها النبيلة، التي تتمثل في نصرة الحق والعدالة، حتى وإن تعرض قادتها للاغتيال. فهي لم تتأخر في الرد، ولن تتأخر، على أفعال “إسرائيل” بما يتناسب معها، أو حتى يتجاوزها، مهما كانت الظروف والتحديات. فالمقاومة ليست من النوع الذي يستسلم أبدًا، بغض النظر عن المعطيات المتاحة.
الخيار أمام “إسرائيل”، إذا كانت ترغب في تحقيق الاستقرار بدلاً من الزوال، هو وقف عدوانها على غزة والانصياع للشروط التي تفرضها فصائل المقاومة الفلسطينية، بزعامة “حماس”. وعلى نتنياهو ومن ورائه الولايات المتحدة أن يدركوا تمامًا أن المساومة على تفكيك وحدة الساحات بين المقاومة تُعتبر أمرًا مستحيلاً، كما أنه من المستحيل إقامة شرق أوسطي جديد على المقاس الذي تصبو إليه الولايات المتحدة، التي لا تهمها سوى مصالحها، بغض النظر عن أقرب حلفائها.