اكتست مرتفعات وقمم جبال ولاية البويرة بحلة بيضاء من الثلوج زادتها سحرا ـ عشية العام الأمازيغي الجديد (2974) ـ وأعطت لعيد يناير كل رمزيته رغم قسوة البرودة الشتوية التي ترتبط في الذاكرة الجماعية، بأسطورة العنزة الجاحدة التي أفضت إلى أن يستعير يناير بضعة أيام من شقيقه فورار (فبراير).
كميات وافرة من الثلوج تساقطت، منذ الخميس الماضي، على مرتفعات جرجرة وتيكجدة، متسببة بانخفاض كبير في درجات الحرارة بكل أنحاء المنطقة التي يسودها برد شتوي قارس يعلن عن قدوم السنة الأمازيغية الجديدة (12 يناير) بخطى متسارعة.
إنه الفصل الذي تستقطب خلاله محطة تيكجدة المناخية ـ الواقعة في مرتفعات شمال شرق البويرة والتي زينت الثلوج قممها هذه الأيام ـ الكثير من الزوار، بينهم عشرات العائلات التي جذبها المكان في بحثها عن الترفيه والاسترخاء خلال هذا الشتاء.
العديد من سائقي السيارات يختارون التوقف بالطريق الوطني رقم 33 ـ الذي يربط البويرة بتيكجدة مرورا بمدينة حيزر ـ قبل الوصول إلى الموقع البالغ علوه أكثر من 1400 متر، للاستمتاع عن بعد بجمال المناظر الطبيعية، خاصة بعد سقوط الثلوج المتلألئة، والتي زينت قمم جرجرة الكبرى، في حين تختار عائلات أخرى التوجه مباشرة إلى مركز تيكجدة الوطني للرياضة والترفيه الذي وفر لزواره وسائل الراحة كافة، من طعام وإقامة وترفيه.
وأكد الأستاذ الجامعي والباحث في الأدب والثقافة الأمازيغية، محمد جلاوي، في هذا الشأن أن “عودة الثلوج والبرد تبشر بموسم فلاحي خصب ومثمر، وترمز إلى شهر يناير قاس يرتبط في مخيال الناس بالأرض والثلوج والأمطار”. وأضاف قائلا: إن “الاحتفال بالعام الأمازيغي الجديد، كما كان منذ القدم، يرمز للفرح والأمل من خلال طقوس وتقاليد تستذكر التاريخ الأسطوري ليناير”.
قوة “يناير”
وتروي الأساطير الأمازيغية القديمة أن تاريخ يناير مرتبط بقصة عنزة أسطورية أثارت غضب يناير في آخر أيامه بسبب اغتباطها وسخريتها منه، حين ادعت أن قسوة الشتاء وسيوله الجارفة لم تمسسها بضرر، ووصفته بـ”الضعيف والعاجز عن إلحاق الأذى بها”. وللانتقام منها، أقسم يناير أنه سيستعير بضعة أيام من شقيقه فورار (فبراير) لمعاقبتها عن عنجهيتها واستهانتها بقوته، فأثار ذعر العنزة التي شرعت في “الارتجاف” خوفا من أن تجرفها سيول الشتاء الهائجة.
ولفت الجامعي أن أسطورة العنزة الجاحدة “تحمل رمزية كبيرة لقساوة الشتاء في شهر يناير”، وأنها لازالت حية في الذاكرة الجماعية، وجاء في تصريحات بعض الفلاحين أن غالبية هذه الفئة – في العديد من مناطق ولاية البويرة – يعرفون أسطورة العنزة مع يناير، وبعضهم سمع عن الأسطورة ذاتها ولكنها تروي قصة عجوز جاحدة رفقة عنزة، حولهما يناير الغاضب إلى كتلتين جامدتين في اليوم الذي استعاره من فورار. ويرى الفلاح إسماعيل من قرية “أغويلال” الجبلية (لعجيبة) أن “هذه القصة رغم كونها مجرد أسطورة، فهي ترمز إلى تقاليد وطقوس أجدادنا في الاحتفال بالسنة الأمازيغية الجديدة ولارتباطهم بالأرض”.
موسم فلاحي مبشّر
وعبّر العديد من الفلاحين، بمنطقة “أغويلال”، بقلب جبال جرجرة (شمال شرق البويرة)، عن استبشارهم بموسم فلاحي وفير جراء الأمطار الأخيرة وعودة الثلوج إلى قمم الجبال، وقال أحد الفلاحين المسنين بالقرية، يدعى محمد، إن “يناير كان دائما بالنسبة إلينا رمزا للثلج والأمطار والبرد.. لذلك نحتفل بعودته كل يوم 12 يناير من كل عام للاستبشار بموسم فلاحي مثمر”.
وأكد هذا الفلاح السبعيني أنه لا يزال يتذكر الأيام التي كان يجمع فيها الحطب مع عائلته للتدفئة خلال ليالي الشتاء الطويلة في يناير كل سنة”، مشيرا إلى أن البرد – آنذاك – “كان جد قاس، وكثيرا ما كانت ربات البيوت يحضرن المرق الساخن والخضروات ليقتات بهما أفراد العائلة لمواجهة قساوة البرد القارس”.
وعشية الاحتفال بيناير 2974، توافد العديد من السياح، لاسيما العائلات، للمركز الوطني للرياضة والترفيه بتيكجدة للاحتفال بالسنة الأمازيغية الجديدة في الجبال ووسط الثلوج، ولن يجد المتأخرون عن الحجز مكانا بهذا المركز الذي تم حجز غرفه “بالكامل” منذ نهاية الأسبوع الماضي، إثر توافد عدد كبير من العائلات والسياح من عدة ولايات من الوطن، وهو ما أكده المكلف بالاتصال والتنشيط بالمركز، خالد جلال، الذي قال:إن “المركز محجوز عن آخره ولم يعد هناك أي مكان بسبب قدوم عدد كبير من العائلات للاحتفال بالسنة الأمازيغية الجديدة (يناير)”.
“زوادة الناير” بوهران
وبالعودة إلى “غضبة يناير”، كما تُحكى في البويرة، نجد أن هذه الأسطورة تحكى أيضا ـ ولو بشكل مختلف ـ في مناطق أخرى من البلاد، على غرار عاصمة الغرب الجزائري “وهران”. وللتفصيل في هذا الموضوع، يتوجب الحديث عما يعرف بـ”زوادة الناير” المعروفة في وهران ضمن باقي الطقوس والمعتقدات الشعبية المرتبطة بالتحضيرات الخاصة بالاحتفال برأس السنة الامازيغية الجديدة.
لكن “الزوادة” غابت عن تحضيرات هذه المناسبة بسبب اكتساح الأكياس البلاستيكية، لتعود في الأعوام الأخير بقوة إذ أصبحت تعرض بمختلف أسواق بيع مستلزمات يناير من مكسرات وحلوى وفواكه مجففة وحبوب جافة، المطلوبة لتحضير الأطباق التقليدية خاصة “الشرشم”، الذي يزين مائدة الغذاء ليوم 12 يناير.
وقد اعتادت المرأة الوهرانية على أن تعكف على خياطة “الزوادة” من أقمشة الألبسة المسترجعة أو من بقايا قطع القماش، التي استغنت عنها الخياطات أو اقتناء مادة الخيش لتصميم أكياس جميلة ـ يدويا ـ بمشاركة جميع أفراد العائلة، الذين تجمعهم أجواء مميزة ترمز إلى تمسكهم بالموروث الثقافي الجزائري.
في سهرة رأس السنة الأمازيغية، يتم توزيع ” الزوادة ” التي هي عبارة عن كيس يحوي على “المخلط ” الذي يتشكل من الحلوى والمكسرات والفواكه الجافة على الصغار، ما يدخل البهجة في نفوسهم فيما توضع حصة الكبار في طبق معروف باسم “الميدونة” المصنوعة من مادة الدوم.
ومثلما جرت عليه العادة، توصي الأمهات الأطفال بعدم فتح الزوادة حتى اليوم الموالي خوفا من غضب “العجوز”، التي تحدت الطبيعة وخرجت ترعى أغنامها، فغضب منها يناير واستعار أياما من فبراير ليمدد ساعات برده حتى يقضي على قطيعها.
وتتزين طاولات الباعة بهذه الأكياس المصنوعة من القماش أو الخيش أو الحلفاء أو الدوم ذات، والمزهوة بألوان مستمدة من الطبيعة، لاسيما الأصفر والأخضر، في أشكال متنوعة وأحجام مختلفة تحمل تصاميم رائعة، بعض منها يكتب فيها أسماء الأولاد أو البنات أو رموز من الثقافة الامازيغية أو حروف تيفيناغ وأخرى تحمل صورا لمعالم أثرية وتاريخية.
برنامج احتفالات “يناير”
برمجت وزارة الثقافة والفنون عدة أنشطة ثقافية، في إطار منتدى الكتاب، مُخصصة للتعريف بالأدب والكتاب الأمازيغي تحت الشعار الرسمي للاحتفاء بالسنة الأمازيغية الجديدة “يناير” 2974.
وفي تعليمة هامة بعثت بها الوزارة إلى مدراء الثقافة الولائيين، جرى تبليغ مدراء المكتبات الرئيسية للمطالعة العمومية، بأن الأنشطة المُزمع تنظيمها تندرج في إطار مساهمة قطاع الثقافة في الاحتفال بعيد يناير 2974 والطبعة الرابعة لجائزة رئيس الجمهورية للأدب واللغة الأمازيغية.
ودعت الوزارة إلى استضافة مؤلفين وكُتاب وجمعيات ممن ينشطون في هذا المجال بهدف ترقية اللغة والثقافة الأمازيغيّتين والترويج لهما، وستنظم قراءات ونقاشات حول الإصدارات باللغة الأمازيغية وحول الثقافة الأمازيغية، بالإضافة إلى تكريمات للكُتاب ومعارض للتعريف بالإصدارات وبيع بالتوقيع.
وأولت الوزارة أهمية قصوى لتنظيم هذه الأنشطة على مستوى كافة مكتبات المطالعة العمومية في الفترة الممتدة ما بين 11 و13 يناير 2024، مؤكدة على ضرورة المُتابعة من طرف مُدراء الثقافة لضمان السير الحسن لهذه الفعاليات.
ومن جهته، أكد الأمين العام للمحافظة السامية للأمازيغية، سي الهاشمي عصاد، أن الاحتفال برأس السنة الأمازيغية يهدف أساسا إلى تجسيد قيم الوطن التي تساهم في تغذية التماسك الاجتماعي.
وأوضح عصاد، في ندوة صحفية عقدها في وقت سابق بمقر الإذاعة الوطنية، كل التفاصيل حول الاحتفال الرسمي برأس السنة الأمازيغية، مشيرا إلى أن هنالك أنشطة هادفة وثرية في البرنامج وذلك على مدار يومين، وتشمل مراسم جائزة رئيس الجمهورية للأدب واللغة الأمازيغية.
وكشف سي الهاشمي عصاد أن الاحتفال سيتخلله تكريمات خاصة للمساهمين في ترقية اللغة الأمازيغية، بالإضافة إلى مشاركة 500 عضو من الكشافة الوطنية في حملة تشجير لتوعية الناشئة بعلاقة يناير بالأرض والمحافظة عليها.
وأضاف عصاد أن الاحتفال هذه السنة سيكون بطابع ترويجي وتوعوي، تتخلله ورشات تكوينية و”سوق يناير” بساحة بريد الجزائر، الذي يعرض التراث والثقافة الأمازيغية ويمزج بين العصري والتقليدي والذي يحتوي 30 عارضا قدموا من ربوع الوطن كافة. وأشار المتحدث إلى وجود مؤشرات تدل على أن الأمازيغية ستكون بخير في سنة 2024 والدستور يضمن ذلك، مؤكدا قناعته باستكمال مسار تعميم اللغة الأمازيغية.