ظلت الدراسات العلمية تؤكد على أن العمل يعد ضرورة قصوى لحياة الإنسان، ليس من باب تلبية الحاجيات اليومية والبحث عن الرفاهية فحسب، وإنما على اعتباره عاملا مهما في تحقيق الاستقرار النفسي والتوازن الذهني للفرد، للأسرة وللمجتمع. ولذلك تبدو المجتمعات الأكثر نشاطا، أكثر استقرارا وأكثر تنظيما، أكثر إقبالا على الحياة وأكثر تعلقا بالعيش الكريم، في مقابل أنها أقل عرضة للاضطرابات، وأبعد خطرا عن الفوضى والجنون.
لكن، ورغم التطور الرهيب لظروف العمل ووسائل الإنتاج، فإن ذلك لم يمنع من ظهور أعراض أخرى لمشاكل صحية جديدة، أثّرت وبشكل واضح على يوميات وعلاقات الأفراد والجماعات في المجتمعات المتطورة؛ الضغوط النفسية والانهيارات العصبية، علاوة على الأمراض الجسدية المستعصية، بسبب الاحتكاك والمكوث لأطول فترة بالميدان العملي، وكذا الضغط المتواصل من أجل تحقيق الأهداف المسطرة، وإنجاز البرامج الموعودة.. وهكذا. فلذلك جاءت بعض الدراسات العلمية الصادرة عن جامعات كبرى، لا سيما “كامبردج” الأكثر تخصصا في ميادين العلم والعمل، تؤكد بأنه كلما قلت ساعات العمل وتقلصت عبر الأسبوع، كانت عاملا مساعدا على تعزيز حماية الصحة العقلية والجسدية للعمال والموظفين.
وأشارت الدراسة إلى أن مخاطر الإصابة بمشاكل صحية عقلية، تراجعت بنسبة ثلاثين بالمائة، عندما انتقل العاطلون إلى العمل لمدة ثماني ساعات أسبوعيا أو أقل في الأسبوع. كما أن ذات الدراسة لم تتوصل إلى أية دلائل على أن العمل لأكثر من ثماني ساعات أسبوعيا يساهم في زيادة الصحة العقلية.
وعكف علماء الاجتماع في الجامعة على تحديد “جرعة العمل المناسبة”، لتحقيق الرفاهية المثلى للإنسان، وجرى نشر النتائج في دورية “الطب والعلم الاجتماعي”، حيث أجرى العلماء دراستهم في سياق تزايد عمليات الأتمتة، التي ستساعد في تقليص ساعات العمل، كما ستعيد توزيع مهمات العمل. وحصل الباحثون على بيانات تلك الدراسة من مسح أجري على نحو سبعين ألف مقيم في المملكة المتحدة، بهدف معرفة ما مدى تأثير تغيّر ساعات العمل على الصحة العقلية والرضى المعيش؛ “لدينا مرجعيات عدة للجرعات المناسبة في كل شيء من فيتامين “سي” إلى عدد ساعات النوم المناسبة التي تساعدنا في الحصول على شعور أفضل، ولكن هذه هي المرة الأولى التي يتم بحث عدد الساعات المناسبة في العمل الذي يحصل فيه الموظف أو العامل على مقابل”.. يقول رئيس مجموعة الباحثين في الموضوع.
طبعا، هي ليست دعوة للكسل والاسترخاء، وإنما هي دعوة لأن يتقاسم الإنسان والآلة عوائد الإنتاج، وليس كما هو معمول به اليوم، حيث يتحصل العامل على فتات هزيل، مقارنة بما تكدسه الشركات المستخدمة من فوائد وأرباح مع نهاية كل دورة إنتاجية، في مقابل تقليص مناصب الشغل وفرص العمل، التي عوضتها الآلة والروبوت، وهي التكنولوجيات التي كان من العدل أن يتحدد دورها في تخفيف الجهد المبذول وتقليص الوقت الممنوح من قبل العامل للوظيفة أو الخدمة، وتضعه في أحسن ظروف الأداء والإنتاج، وليس طرده من منصبه وتحويل أجرته فائدة مضافة بصورة تراكمية في حسابات أرباب العمل.
كان الخليفة “عمر” يجتهد في مرافقة عماله مشيا على الأقدام حتى يبلغ ظاهر المدينة، وفي أثناء ذلك يجد في جذب وشد أطراف الحديث مستفسرا ناصحا وآمرا. فحدث أن رافق “عمرو بن العاص” عامله إلى مصر، وقبل وداعه سأله؛ ما أنت فاعل إن جاءك سارق يا “عمرو”..؟ في سؤال يعرف جوابه، لكنه يريد أن يبلغه رسالة أبعد وأعمق.
فقال “عمرو”؛ أقطع يده يا أمير المؤمنين.. في جواب عادل شاف كاف، وفق ما تمليه الشرائع والأحكام. فقال “عمر”؛ وأما أنا فإن جاءني جائع من مصر أو عاطل، فسوف أقطع يدك. يا “عمرو”، إن الله قد استخلفنا على عباده لنسد جوعتهم، ونستر عورتهم، ونوفر لهم حرفتهم، فإذا أعطيناهم هذه النعم تقاضيناهم شكرها. يا هذا، إن الله قد خلق هذه الأيدي لكي تعمل، فإذا لم تجد في الطاعة عملاً، التمست في المعصية أعمالاً، فأشغلها بالطاعة قبل أن يشغلها الشيطان بالمعصية.
فكان “عمر” أول رجل دولة يهتم بالعمل والتشغيل، ويربط شأنهما بالعلاقات والأخلاق، وباستقرار الدولة وطمأنينة المجتمع، فالشيطان دوما يتمدد في البطالة والفراغ. الأمر ذاته ذاك الذي كافح من أجله الرئيس الراحل “هواري بومدين”، وجعل الجزائر أكثر إقبالا على التطور والتقدم، سنوات قليلة بعد الاستقلال، وذلك بسبب الديناميكية التي سطرها والتي أطلقتها الدولة من خلال بعث النشاط الاقتصادي في صورة الشركات الوطنية الكبرى، التي شغلت الآلاف من العمال، وغطت كامل القطاعات التنموية للبلد، في بعدها الاقتصادي والاجتماعي.
لدرجة أن تلك الروح اليافعة والإرادة المندفعة، قد فاضت وتعدت إلى ميادين الحياة كلها؛ ثقافيا، رياضيا، معرفيا، أكاديميا.. فجعلت الجزائر تصدح وتصول وتجول فوق مسارح الإنجاز ومنابر الفوز ومدارك النجاح… إلى أن تراخى كل ذلك وذبل واضمحل، فكثر العاطلون وقل العاملون وتوقفت عجلة التنمية والإقبال، بسبب سياسات معاكسة لسياسة الانطلاق، فحدث الذي حدث.
الآن، وقد استفاق الجميع من الهزة وصارت الأمور أوضح، فإن معرفة واقع الشغل والتنمية المستدامة في الجزائر، من خلال ضبط الاستراتيجيات والخطط التطويرية والمخططات الدورية، أضحى أمرا ضروريا لبذل المزيد من الجهود ليس من قبل الحكومة فحسب، وإنما من لدن الجميع في سبيل بلوغ التكامل بين التنمية الاقتصادية، التطور الاجتماعي والترقية البيئية، والذي هو تكامل حتمي لا مناص من تحقيقه، ضمن ما ترمي إليه قرارات وتوجيها المؤسسات الأممية والدولية العاملة على تحقيق؛ التنمية المستدامة، العمل اللائق والوظائف الخضراء.
فقد بات من البديهي الآن، أنه من الضروري اعتماد تغيير جذري في المفاهيم، والتخلي الفعلي عن اعتماد سياسة العمل وفق مقولة: النمو أولًا، ثم التنظيف لاحقًا.. ذلك أن معظم المؤسسات السياسية الدولية، ومن بينها؛ منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي، البنك الدولي، برنامج الأمم المتحدة للبيئة.. دعت بشكل ملح إلى تغيير الاتجاه، ضمن الحاجة إلى وضع نهج متكامل بشأن التنمية المستدامة، والذي يشدد على العمل اللائق باعتباره هدفاً مركزيا ومحفزاً للتنمية المستدامة والاقتصاد الأخضر.
الحكومة الجزائرية، وفي إطار انفتاحها على العالم، تبنت حزمة من الخطط والبرامج التنموية، والتي تسعى من خلالها إلى تحقيق مؤشرات التنمية المستدامة، مثل برنامج التعديل الهيكلي.. إنشاء المجلس الأعلى للبيئة والتنمية المستدامة.. الاستثمار في الطاقات المتجددة، إضافة إلى إقرار الرسوم والغرامات البيئية لجلب الاهتمام العام حيال هذا العامل الجدي في كل الخطط والبرامج التنموية، والتقليل من أنماط الاستهلاك التبذيري والاستغلال غير العقلاني للموارد الطبيعية، والتخلص شيئا فشيئا من التبعية المفرطة لقطاع المحروقات.
لم يعد العمل من أجل العمل هدفا مركزيا، وإنما العمل من أجل التنمية المستدامة هو الهدف، ولن يتحقق ذلك إلا في ظل الاحترام المطلق لمعايير “الايكو-سيستيم” أو النظام البيئي، والذي يفرض منظومة متكاملة للحركة والتطور، وهذا بدوره يفرض تبني منظومة تأهيلية وتكوينية للرأسمال البشري، أو ما يسمى بـ”الموارد البشرية”، من أجل تحقيق الأهداف والنتائج المرجوة، وقبل هذا وبعده، يتطلب الأمر ضميرا حيا من قبل جميع الفاعلين في الحقل التنموي، وعلى رأسها يأتي العامل/الموظف/الإطار/المسؤول، والذي يعتبر عاملا محددا لكل النتائج والنجاحات.