رغم التّنازلات السياسية، التاريخية والأخلاقية التي قدمتها بعض الأنظمة العربية للكيان الصهيوني، ورغم ما قابلها من إذلال واحتقار وازدراء من لدن العصابة التي تحتل فلسطين، لا يزال المنبطحون في غيّهم ماضون هرولة وخضوعا، خاصة دولة الإمارات والمغرب الأقصى وجمهورية مصر والمملكة الأردنية، أو رباعي المذلة الحالم بغدٍ أعزّ وأكرم في كنف الخيانة وبيع الذمة وحضيض الغدر والمكائد والنفاق.
الإعلامي الصهيوني الأشهر المسمى “إيدي كوهين” يقول، من خلال حوار بثّته على الهواء مباشرة إحدى الفضائيات، إن الرئيس “السيسي” أكثر صهيونية من “كوهين” نفسه، بكل عنجهية واستهتار، مستغرقا في الوقت ذاته القول بأن النظام المصري يكره حركة حماس ويحاصرها أكثر من حصار “الصهاينة” لها، فهي جزء من حركة الإخوان، وأن السيسي عدو للإخوان.. مردفا بكل صلف؛ “..السيسي وطوال مداخلاته شهر أكتوبر لم يهدّد “إسرائيل”، بل ظل يهدد الإخوان المسلمين. السيسي صهيوني أكثر مني، كيف يهدد “إسرائيل”..؟”..تصريحات الصهيوني “كوهين” أثارت جدلاً كبيرا في مصر وخارجها، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي طبعا، فقد ربط ناشطون بين حصار “غزة” من جهة مصر، وغلق المعابر على الحدود مع الكيان الصهيوني.. وكتب أحد المصريين يقول: “..أية نكبة تلك التي زور فيها أبالسة الإعلام في مصر حقائق ما كانت لتخفى على أحد، فاختلقوا من الأكاذيب والتزوير ما صوروا فيها الصدق الخالص كذباً وزوراً، والكذب استقامة وإخلاصاً ليحققوا مآرب في أنفسهم لا غير..”.
ناشطة صهيونية أخرى تسخر من الرئيس “السيسي” وتطلق عليه وصف “حارس البوابة”، في إشارة الى بوابة معبر رفح، وقالت: “..افتح.. اغلق.. نحن من يتحكم في البوابة ولو من خلف الأسوار، وما على سلطات مصر إلا القيام بتنفيذ إرادتنا..”.. وغيرها كثير ممن يعبرون عن توجه الرأي العام داخل الكيان، واجتماعهم حول فكرة أن العرب المطبعين هم في الحقيقة مجرد خونة لا يؤتمنون.. فكما خانوا أهلهم وبني جلدتهم اليوم، سيخونون الكيان الصهيوني غدا إذا ما وجدوا البديل في غيره.
هكذا ينظر الصهاينة إلى حلفائهم العرب؛ من حامي الظهر إلى حارس البوابة.. ومن حامي الصدر إلى راعي الوادي.. ومن جلف الصحراء إلى أمير الملاهي..ومن راعي الشاة إلى سلطان المواخير.. يعني؛ من مصر إلى الأردن إلى الإمارات إلى المغرب الأقصى.
كانت البدايات باتفاقيات “السلام الملغوم”الموقعة بين مصر، صدر المواجهة وجبهة الصراع حينذاك من جهة، ومن جهة أخرى الكيان الصهيوني، الورم الخبيث الذي تم زرعه عنوة في قلب الوطن العربي، حيت تولت الولايات المتحدة الأمريكية تحت إدارة الرئيس “جيمي كارتر” لعب دور الراعي الرسمي لعملية السلام ومسارها وإملاءاتها وكل العلاقات الملحقة بها، رسمية كانت أو على سبيل الألفة والاستئناس.
وأما مسار التطبيع المهين، فقد بدأ بعد سقوط بغداد، على عهد الأرعن “بوش الثاني” وعلى وقع سيناريو أحداث 11 سبتمبر 2001، ليبلغ ذروته زمن إدارة العربيد “ترامب” الذي ورغم ظاهر الخلاف بينه وبين الهرم الخرف “بايدن”، إلا أن هذا الأخير قد جعل من مبادرته تلك محور حراكه الدبلوماسي ولب سياسته الخارجية، بالخصوص حيال الدول العربية.
فقد ضاعف الفريق العامل تحت إدارة “بايدن” من مجهوداته لحمل أنظمة عربية أخرى على الانضمام إلى مسار التطبيع الموبوء. وفعلا، فقد أرضخوا بالنهاية السعودية كآخر المهرولين، وحضّروا لها بنود اتفاقية جديدة على المقاس؛ “صهيونية-سعودية” خالصة، على أساس أن يتم توقيعها كإضافة للاتفاقيات العربية السالفة، فلولا غزّة التي أنقذت المملكة في آخر جولة من مسار الحوار، لكان اليوم حجاج بيت الله يغتسلون بدم الأبرياء الفلسطينيين في مكة والمدينة، ولكان الصهاينة الأوغاد يطوفون بديار خيبر وحواف يثرب وآثار حائل.
كانت السعودية تبحث عن الحصول على امتيازات إستراتيجية لدى الولايات المتحدة، والتي كان على رأسها طلب الدعم والمساعدة في إنشاء مفاعل نووي يسمح لها بتخصيب اليورانيوم، والحصول على الطاقة النووية ولو للاستعمال المدني ظاهريا، لأن القصد من ورائها طبعا هو منافسة إيران، فتتمكن من تجاوز “منطقة” الرعب الملازم لها بسبب التهديد “الفارسي” الموهوم.
لكن الحصول على هذا الامتياز يتطلب طبعا موافقة الكونغرس وليس البيت الأبيض فقط، ولذلك فمن المستبعد أن يوافق الكونغرس على هذا الامتياز، في ظل هيمنة اللوبي الصهيوني، الذي يرفض رفضا قاطعا حصول أي بلد آخر، غير “الكيان الصهيوني”، على الطاقة النووية والتحكم في تقنيات إنتاجها محليا. وهنا، تسنح الفرصة للصهاينة بأن يمسحوا الأرض “بالسعودية” ويهينون كرامتها، ويوغرون في إذلالها من خلال إطماعها بالحصول على ما تريد، مقابل التنازل أكثر فأكثر للكيان، مع تهويل الخطر الإيراني “الوهمي” وتضخيمه.
إلى غرب الوطن العربي، حيث مملكة “المولى” ونظام المخزن الذي أظهر بأنه أكثر صهيونية من الصهاينة أنفسهم، رغم هيجان الشارع المغربي ورفضه لأي شكل من أشكال التطبيع، في صورة متباينة متعاكسة بين السلطة والشعب.. حيث تمكن الكيان الصهيوني من إقناع “القصر المخترق” بأن الجزائر عدو لدود ولا بد من الاستعداد الدائم لأية مواجهة محتملة معها، وفي سياق ذلك يمد “الكيان الصهيوني” يده المبتورة للمساعدة والعون مقابل التنازل المطلق عن الكرامة والسيادة والمواقف والشرف، بمعنى أن يجرد المغرب حتى من الملابس الداخلية، لينال الرضى والقبول لدى “الحاخام الأعظم” في “تل أبيب”.
الأكيد، وعلى ضوء المواقف المخزية لهذه الأنظمة، أن تأثير حرب الإبادة الجارية ضد غزة وفلسطين لن تؤثر على اتفاقيات الإذلال الجارية، إلا من خلال تأجيلها إلى ما بعد الجريمة أو تعليقها إلى إشعار آخر. ذلك أن التاريخ قد أثبت في أكثر من مناسبة مدى تشبث المهرولين والمطبعين بمواقفهم الحقيرة المقرفة، حيث لم تتأثر علاقات “الكيان الصهيوني” بمملكة البحرين وبدولة الإمارات إثر عدوان 2021م، كما لم تتأثر أبدا اتفاقيات السلام مع مصر والأردن لا بالعدوان على لبنان العام 1982، ولا بمجازر صبرا وشاتيلا وقانا وكفر قاسم وغزة واحد واثنين وثلاث وأربع ووو.. وفي كل مرة تتعمد العصابة الصهيونية إذلال هذه الدول بتجاهلها وتجاهل وجودها من أساسه، فلا تسمع لشجبها ولا تصغي لتنديدها ولا تنظر في مطالبها، ولا حتى تكلف نفسها جهد الرّد على تباكيها وهذيانها.. وبالتالي، لا تترك لوصفها سوى خيارين لا ثالث لهما؛ فإما أنها أنظمة خائنة متآمرة، وإما أنها أنظمة تافهة جبانة قذرة.