يحاول إنقاذ فرنسا التي تحاول إنقاذ نفسها منه.. إنه ماكرون الذي يقترح إطفاء النار بالبنزين

بعد نحو 60 يوماً على نتائج الانتخابات البرلمانية التي شهدت خسارة المعسكر الرئاسي وتصدّر تحالف اليسار والخضر من دون تحقيق أغلبية مطلقة، تعيش فرنسا على وقع أزمة سياسية متفاقمة، بينما يلهث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بحثا عن شخصية تستطيع تشكيل حكومة تتمتع بأغلبية مريحة، تضمن استقرارها أمام تهديدات المعارضة المتكررة بتفعيل مذكرات حجب الثقة، فيما لا تزال حكومة غابرييل أتال تدير شؤون البلاد اليومية، إلى حين إيجاد مخرج من هذا المأزق السياسي المتعمّق الذي قد ينذر بتداعيات خطيرة على مستقبل “الديموقراطية” في فرنسا .

ساعيا على إيجاد بديل لفرضية اليسار التي يرفضها، يحاول ماكرون إقناع القوى الوسطية واليمينية بتشكيل تحالف جمهوري يمكنه من تشكيل حكومة والحصول على أغلبية برلمانية. ويبدو أن تحقيق هذا المشروع يعتمد بشكل كبير على قدرة ماكرون في استقطاب شخصيات من ما يعرف بـ”اليسار الحكومي”، وتحديداً من داخل الحزب الاشتراكي، للانضمام إلى هذه الأغلبية الجمهورية.

التحدي الذي يواجهه الرئيس إيمانويل ماكرون، والذي يفسر التأخير غير المسبوق في تشكيل الحكومة، يتمثل في فشله حتى الآن في زعزعة تحالف اليسار وفصل الحزب الاشتراكي عن حزب “فرنسا الأبية” بقيادة جان لوك ميلونشون. هذا الوضع يضع ماكرون في مأزق سياسي يصعب توقّع نهايته.

بدأ ماكرون يوم الخميس جولة جديدة من المشاورات في محاولة للتوصل إلى توافق حول اختيار رئيس وزراء جديد، في ظل تصاعد التوترات السياسية. جاءت هذه الخطوة بعد أن رفض يوم الاثنين تشكيل حكومة من تحالف “الجبهة الشعبية الجديدة”، الذي تصدر نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، ورفض كذلك تكليف مرشحته لوسي كاستيه، التي تعد جزءاً من هذا التحالف. ومنذ أكثر من أربعين يوماً، تدير حكومة مستقيلة شؤون فرنسا، وهو وضع غير مسبوق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

وبعد سلسلة من المشاورات التي جرت يومي الجمعة والاثنين الماضيين في قصر الإليزيه بين ماكرون والقوى السياسية الرئيسية، أعلن الرئيس الفرنسي عن استبعاده تعيين لوسي كاستيه من تحالف اليسار لرئاسة الحكومة. في الوقت الراهن، يجري ماكرون المشاورات في الخفاء، بعيداً عن وسائل الإعلام، سعياً لاختيار رئيس وزراء قادر على حل الأزمة السياسية الحالية. وقد استبعد من هذه المشاورات الجبهة الشعبية الجديدة، التجمع الوطني، ورئيس حزب الجمهوريين إريك سيوتي.

وفي مؤتمر صحفي عقده في بلغراد يوم الخميس، أكد ماكرون أنه يبذل “كل الجهود” لإيجاد رئيس وزراء جديد بما يتماشى مع مصالح البلاد، ولكنه لم يحدد بعد موعداً للإعلان عن هذا التعيين الذي طال انتظاره. وأوضح ماكرون قائلاً: “سأتحدث إلى الفرنسيين في الوقت المناسب وفي الإطار المناسب”.

وقد مرت أكثر من 50 يوماً منذ أن حل ماكرون الجمعية الوطنية، ومع ذلك، لا تزال السيناريوهات المطروحة لتشكيل حكومة جديدة غير واضحة في بلد يعاني من انقسامات حادة، بينما تواصل الحكومة المستقيلة إدارة شؤون البلاد، ببعد أن رفض بشكل قاطع تشكيل حكومة ذات توجه يساري، بدأ ماكرون يوم الثلاثاء “دورة جديدة من المشاورات” للبحث عن رئيس وزراء جديد، وسط أجواء سياسية متوترة بشكل متزايد.

ومع اقتراب الموعد النهائي، يواجه ماكرون ضغطاً متزايداً لاختيار رئيس للحكومة، حيث يتعين تقديم ميزانية الجمعية الوطنية بحلول الأول من أكتوبر، في ظل جدول أعمال رئاسي مزدحم، وقال ماكرون يوم الخميس: “صدقوني، أبذل قصارى جهدي ليلاً ونهاراً منذ أسابيع، حتى وإن لم تروا ذلك بالضرورة، للوصول إلى أفضل الحلول للبلاد”، وأكد أيضاً أن الحكومة المستقيلة تتعامل مع “التحديات والأزمات الراهنة”، نافياً الشائعات حول عدم وجود متابعة للأعمال.

في بيان صدر عن قصر الإليزيه مساء الاثنين، أعلن ماكرون رفضه تكليف لوسي كاستيه، مرشحة تحالف اليسار، بتشكيل الحكومة، ودعا بدلاً من ذلك ثلاثة مكونات من جبهة اليسار (الاشتراكيون، الشيوعيون، والخضر) للانضمام إلى كتلة الوسط التي تدعمه واليمين التقليدي، مما أدى إلى زيادة التوتر السياسي.

وبات واضحا أن اليسار أدرك مبكراً أن ماكرون يسعى إلى تحقيق هدفين مترابطين من خلال جولتي مشاوراته؛ الأولى التي بدأت يوم الاثنين، وتبعها بجولة ثانية يوم الثلاثاء. والهدف الأول كان منع تشكيل حكومة تحت قيادة جبهة اليسار برفضه الرسمي لتكليف كاستيه. أما الهدف الثاني، فكان محاولة تفكيك الجبهة من الداخل عن طريق استبعاد حزب “فرنسا الأبية”، الذي يمثل اليسار المتشدد بقيادة جان لوك ميلونشون، ومحاولة جذب الاشتراكيين وربما الخضر للخروج من الجبهة.

وقد تعمد ماكرون استبعاد “فرنسا الأبية” من الجولة الثانية من المشاورات التي جرت يوم الثلاثاء، كما استبعد حزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرف، الذي حصل على 143 نائباً في البرلمان الجديد، مشيراً إلى أنه خارج “القوس الجمهوري”. وعلل ماكرون موقفه بضرورة الحفاظ على “الاستقرار المؤسّساتي”، مؤكدًا أن حكومة برئاسة كاستيه ستواجه الفشل في البرلمان فور تشكيلها.

ومن الجدير بالذكر أن العرف السياسي في فرنسا يقضي بأن يقوم رئيس الجمهورية بدعوة الكتلة السياسية التي فازت بأكبر عدد من المقاعد النيابية لتشكيل الحكومة، وهو ما لم يلتزم به ماكرون، إذ استمر في مناوراته لرفض تكليف كاستيه. واعترف ماكرون بأن كتلته السياسية، التي تتكون من ثلاثة أحزاب (تجدّد، هورايزون، والحركة الديمقراطية)، قد خسرت الانتخابات وجاءت في المرتبة الثانية بعد حصولها على 162 مقعداً نيابياً.

في ضوء هذه التطورات، لم يكن من المستغرب أن تكون ردود فعل اليسار والخضر قاسية، إذ انهالت الاتهامات على ماكرون. وأعلن الحزب اليساري عن قراره نقل المعركة إلى الشارع، داعياً إلى تعبئة شعبية يوم 7 سبتمبر المقبل. وجاء في بيان الحزب أنه سيتجاوب مع دعوات منظمات الشبيبة واتحاد الطلاب لتنظيم مظاهرة كبرى احتجاجاً على ما وصفوه بـ”الانقلاب” الذي نفذه ماكرون. ودعا البيان أيضاً القوى السياسية والنقابية والجمعيات المدافعة عن الديمقراطية للانضمام إلى هذا التحرك.

من جانبها، عبّرت لوسي كاستيه عن “قلقها العميق” من رسالة ماكرون، معتبرةً أن ما يقوم به الرئيس الفرنسي هو محاولة لتهميش إرادة الناخبين وإلغاء قيمة تصويتهم. ووصفت كاستيه تصرفات ماكرون بأنها “تنكر للقيم الديمقراطية”، ودعت إلى تحرك شعبي ضد سياساته التي ترى أنها لا تعكس احتراماً حقيقياً للديمقراطية.

وفي السياق نفسه، هاجمت مارين توندوليه، الأمينة العامة لحزب الخضر، ماكرون، متهمة إياه بـ”الانقلاب على نتائج الانتخابات”. بينما أبدى أوليفيه فور، الأمين العام للحزب الاشتراكي، رفضه التام لمطلب ماكرون الانضمام إلى الكتلة الوسطية التي يحاول تشكيلها، ووصف ما يقوم به ماكرون بأنه “زرع للفوضى” وليس سعياً لتحقيق الاستقرار. كما رفض فور المشاركة في أي استشارات جديدة، وهو الموقف الذي شاركه فيه زعماء الحزب الشيوعي والخضر، معتبرين أن ما يحدث ليس سوى “مسرحية هزلية ديمقراطية”.

وفي تعليق على الوضع، قال فابيان روسيل، الأمين العام للحزب الشيوعي، إن ماكرون يرفض الاعتراف بالهزيمة التي تلقاها في الانتخابات البرلمانية، مضيفاً أن الشعب الفرنسي لم يعد يرغب في سياساته، لكنه مع ذلك يسعى لتشكيل حكومة تستمر في النهج ذاته.

حتى الآن، ما زالت الأمور غامضة بشأن الشخص الذي سيكلفه ماكرون بتشكيل الحكومة، رغم تداول بعض الأسماء. ولكن من المؤكد أن الأزمة ستستمر، سواء تحت قبة البرلمان أو في الشارع. ويرى المراقبون أن المعركة الرئاسية قد بدأت بالفعل، وأن “الأيام السعيدة” التي عاشها ماكرون خلال السنوات السبع الماضية، عندما كان يتمتع بسلطة شبه مطلقة، قد انتهت بلا رجعة.

حميد سعدون

حميد سعدون

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
فشل ثلاثي الأبعاد.. المخزن يتخبط في مستنقع الإخفاقات انتقادات واسعة.. أداء سلطة الانتخابات في مرمى المترشّحين الثلاثة جهود التدخّل والإغاثة مستمرة.. إجراءات فورية للتعامل مع أضرار فيضانات ولاية بشار عائلته تستقبل التعازي في "بيت فرح وتهنئة".. الشهيد "ماهر الجازي" هدية الأردن لفلسطين وغزة العهدة الثانية للرئيس تبون.. أمريكا تسعى إلى ترقية التعاون الثنائي اختتام الألعاب البارالمبية في باريس.. الجزائر الأولى عربيا وإفريقيا وزارة التعليم الفلسطينية.. فتح مدارس افتراضية لأول مرة في غزة تعليم عالي.. استلام 19 إقامة جامعية جديدة بتكليف من رئيس الجمهورية.. عطاف في القاهرة ولقاءات مرتقبة مع نظرائه العرب الرئيس الصحراوي يوجه رسالة تهنئة إلى الرئيس تبون بعد فوزه بالعهدة الثانية.. اليامين زروال يهنئ عبد المجيد تبون جبهة البوليساريو تدين السياسة الإجرامية للاحتلال المغربي ضد الصحراويين أكد تمسكه بالعلاقة الاستثنائية بين البلدين.. ماكرون يهنئ تبون على إعادة انتخابه إجراءات عاجلة للتكفل بمخلفات الأمطار بولاية بشار وزارة التربية.. هذا هو موعد فتح المنصة الرقمية للتعاقد أسعار النفط ترتفع بأكثر من 1%.. وخام برنت يتداول قرب 72 دولارًا مجزرة مرورية بالطريق السيار شرق غرب "حزب الله": استهدفنا موقع معيان باروخ ‏بالأسلحة الصاروخية وأصبناه مباشرةً من مزبلة التاريخ إلى مكبّ لنفايات أوروبا.. المخزن.. مملكة برتبة "سلّة قمامة" عام على زلزال الحوز بالمغرب.. المتغطي بدثار "المخزن" عريان