يتضح يومًا بعد يوم أنّ الحرب الصهيونية على قطاع غزة فشلت في تحقيق أهدافها المعلنة وغير المعلنة، مما دفع جيش الاحتلال إلى نشر 24 لواءً – كانت مخصّصة للتعامل مع الجيوش العربية – للسيطرة على غزة ومحيطها. ومع ذلك، فإنّ أي تقدّم يحرزه الجيش الصهيوني ما هو إلا غوص في مستنقع يستحيل السيطرة عليه ويصعب الخروج منه، حيث تكون المواجهة على المسافة صفر، ضمن ما يعرف بـ”الاستدراج نحو مواقع معدة مسبقًا للقتال”، يتم فيها تنفيذ كمائن مركبة على مرحلتين أو أكثر.
هذا ما يخلص إليه أغلب المحللين العسكريين المتفقين أنّ “إسرائيل” دخلت في مرحلة استنزاف معقّدة في غزة وستتكبّد مزيدًا من الخسائر. إضافة إلى ذلك، فإنّ تصريح «أبو عبيدة» – الناطق باسم «كتائب القسام»، الجناح العسكري لحركة «حماس» – قبل أيام بشأن استعداد المقاومة لخوض حرب استنزاف طويلة ضد القوات الصهيونية داخل قطاع غزة، لم يكن مجرد تهديدات. فالمقاومة استعدت فعلياً لهذه الحرب منذ شهور، بعدما أدركت أنها تواجه صراعًا طويل الأمد اضطرها إلى تغيير تكتيكاتها.
وحتى على جبهة لبنان، أقرّ يوفال بزاك – وهو جنرال احتياط في جيش الاحتلال الصهيوني – بأنّ “حزب الله وإيران معنيان بجرّنا إلى معركة استنزاف، واليوم قد نجحا بالفعل في تحقيق هذا الهدف”، واعتبر بزاك أنّ انغماس قوات الاحتلال الصهيوني في مواجهة مع حزب الله، بعد أن أعلنت الحرب على حماس في قطاع غزة، يُعدّ جزءاً من التطورات التي لم تتحسب لها سلطة الكيان.
في المقابل، تخوض «حماس» والفصائل الأخرى حرب شوارع تهدف إلى استنزاف القوات البرية الصهيونية. بدلاً من التصدي المستمر لهذه القوات ومنعها من التقدم، واعتمدت الفصائل على شن هجمات مباغتة حسب الظروف في كل شارع وبيت وساحة. وقد لجأت المقاومة إلى ترميم بعض الأنفاق الدفاعية التي قصفتها قوات الاحتلال خلال الحرب، وأعادت استخدامها وتفخيخ فتحاتها لتفجيرها في القوات البرية الصهيونية.
وقالت مصادر ميدانية إنّ الخلايا الناشطة في غزة تعمل الآن فعلاً على استنزاف القوات الصهيونية، باستخدام الأسلحة الخفيفة وبعض القذائف الصاروخية الموجَّهة والعبوات الناسفة التي تمتلكها، رغم فقدانها الكثير من مخازن الأسلحة. وأكدت المصادر أن “الآلاف من عناصر المقاومة ما زالوا ينشطون في مناطق متفرقة، وتلقوا التعليمات من أجل مواجهة طويلة مع القوات الصهيونية”.
هذه الإستراتيجية مكّنت المقاومة من تنفيذ العديد من العمليات النوعية، آخرها ما أعلنه جيش الاحتلال الصهيوني حين أقر بمقتل 3 عسكريين خلال معارك في قطاع غزة، وذكرت هيئة البث الإسرائيلية أنّ هؤلاء الثلاثة من كتيبة ناحال وقتلوا في انفجار عبوة ناسفة بمبنى في مدينة رفح جنوب القطاع.
وكشفت إذاعة جيش الاحتلال أنّ 5 آخرين أصيبوا، 3 منهم جراحهم خطيرة، مشيرة إلى أنّ قوة من الكتيبة 50 في لواء ناحال دخلت مبنى في رفح بعد انطلاق صاروخ مضاد للدروع منه تجاه الآليات، ولحظة دخول هذه القوة تفجرت عبوة ناسفة مزروعة بداخل المبنى ما أدى لانهياره ومقتل 3 جنود وإصابة آخرين بجروح خطيرة.
يُشار إلى أنّ موقع “حدشوت بزمان” الإسرائيلي ذكر – يوم الثلاثاء – أنّ القوات الصهيونية “تعرضت لحدثين صعبين في قطاع غزة”. وأشار الموقع، الذي تميز بنشره خسائر جيش الاحتلال قبل الإعلان الرسمي عنها، أنه تم قتل 3 جنود وإصابة 10 آخرين جراح 5 منهم وصفت بالخطيرة جراء (حدث) أمني في رفح. وتحدث عن جندي آخر مفقود حيث وقع الحدثان في منزل مفخخ وعند تفجير نفق بمخيم الشعوت جنوب رفح.
وفي التطورات الأخيرة، أعلنت القسام عن تفجير عبوة رعدية في قوة للاحتلال من 15 جنديا وأوقعتهم بين قتيل وجريح بحي التنور شرق مدينة، وكشفت القسام أن مقاتليها تمكنوا الثلاثاء من تنفيذ عملية “مركبة” بعد استدراج قوة “صهيونية” لأحد الكمائن قرب مدرسة الشوكة شرق مدينة رفح وتفجير عبوة رعدية بها وقتل 4 من أفرادها وإصابة عدد آخر.
وأوضحت كتائب القسام أن مقاتليها استهدفوا “عددا من جنود الاحتلال الذين تحصنوا داخل أحد المنازل بقذيفة مضادة للأفراد “تي بي جي” (TBG) بمنطقة الشوكة”. وأضافت أنه وفور وصول قوات النجدة “تمكن مجاهدونا من قنص جنديين من أفراد القوة، وخلال محاولة مجاهدينا أسر أحد الجنود قام العدو بقتله”.
ومنذ الشهر الجاري، قتل نحو 27 عنصرا من ضباط وجنود الجيش الصهيوني في معارك قطاع غزة.وأفاد مراسلون أن 10 من ضباط وجنود الاحتلال قتلوا وأصيب 135 آخرين في عموم القطاع منذ بدء اجتياح رفح قبل نحو أسبوعين. وفي السياق، نقلت القناة الـ12 الإسرائيلية عن رئيس مجلس الأمن الصهيوني تساحي هنغبي قوله إن “القتال في غزة سيستمر 7 أشهر أخرى على الأقل”.
“إسرائيل” قصفت خيام رفح بقنابل أمريكية
أكدت شبكة “سي إن إن” أمس الأربعاء أن قوات الاحتلال الصهيوني استخدمت قنابل “جي بي يو-39” من طراز “سي دي بي” أمريكية الصنع لقصف مخيم النازحين في رفح جنوبي قطاع غزة مساء الأحد الماضي، مؤكدة أن مثل هذا النوع من القنابل لا يمكن أن يستخدم في المنطقة التي استهدفها الجيش الصهيوني.
وفي مقطع فيديو تمت مشاركته على وسائل التواصل الاجتماعي، وتأكدت شبكة «سي إن إن» من أنه مكان وقوع المجزرة، من خلال مطابقة التفاصيل بما في ذلك لافتة عند مدخل المخيم، والبلاط الموجود على الأرض، يظهر ذيل قنبلة أمريكية الصنع ذات قطر صغير، من طراز «جي بي يو 39»، وفقاً لأربعة خبراء في الأسلحة المتفجرة.
وقال خبير الأسلحة كريس كوب سميث، إن قنبلة «جي بي يو 39» التي تصنعها شركة «بوينغ»، هي قنبلة عالية الدقة «مصممة لمهاجمة أهداف ذات أهمية استراتيجية»، وتؤدي إلى أضرار جانبية منخفضة. ومع ذلك، قال سميث، وهو أيضاً ضابط مدفعية سابق في الجيش البريطاني: «إن استخدام أي ذخيرة، حتى بهذا الحجم، في منطقة مكتظة بالسكان، سيؤدي بالتأكيد إلى مخاطر كبيرة».
ومن جهته، أكد تريفور بول – وهو عضو كبير سابق في فريق التخلص من الذخائر المتفجرة بالجيش الأمريكي – أنّ الشظية هي قنبلة «جي بي يو 39»؛ مشيراً إلى أن هذه القنبلة مميزة وفريدة للغاية من نوعها، وأنه حين رأى الذيل تأكد أنها تابعة لهذا الطراز الأمريكي الصنع.
إهمال المدنيين
بدورها، نقلت صحيفة نيويورك تايمز عن ضابط أمريكي متقاعد قوله إنّ استخدام قوات الاحتلال الصهيوني هذا النوع من القنابل يشير إلى استمرار إهمالها حماية المدنيين. كما نقلت الصحيفة عن مستشار سابق في البنتاغون ووزارة الخارجية قوله إنّ قرار الضربة الصهيونية على رفح في ذلك الوقت يثير تساؤلات بشأن ما إذا كان الجيش الصهيوني قد علم بوجود خسائر بشرية محتملة أو أنه فشل في رصد المدنيين، وبالتالي يشير إلى مشاكل محتملة في إجراءاته الاحترازية.
وأودت المجزرة التي ارتكبها الاحتلال في منطقة كان قد صنفها “إنسانية آمنة” بحياة 45 فلسطينيا – معظمهم من النساء والأطفال – قضى أغلبهم حرقا، فيما أصيب العشرات بحروق شديدة وحالات بتر، وسط عدم قدرة المستشفيات على تقديم العلاج.
وفي موقعها الإلكتروني توضّح شركة بوينغ أنّ قنابل “جي بي يو-39” من طراز “سي دي بي” تستخدم ضد أهداف دقيقة وثابتة، مثل مخابئ القيادة والسيطرة والاتصالات وأصول الدفاع الجوي والمطارات ومواقع البترول والصواريخ والمدفعيات. كما تقول الشركة إن هذا النوع من القنابل فعال أكثر بـ4 مرات في “تحقيق الأهداف” من القنابل الأخرى.
يشار إلى أنّ الولايات المتحدة تعد المورد الرئيسي والأكبر للأسلحة للكيان، وفي أفريل الماضي وقّع الرئيس جو بايدن على قانون يمنح تل أبيب 15 مليار دولار من المساعدات العسكرية.
وحول تعليق منسق اتصالات مجلس الأمن القومي الأمريكي جون كيربي على مجزرة رفح جنوبا، قال الدويري، إنّ هذا المسؤول كان يتحدث بلسان صهيوني ويبرّر بأنّ تل أبيب لم تتجاوز الخط الأحمر متبنيا بالكامل رواية الناطق باسم جيش الاحتلال دانيال هاغاري.
استقالة مدوية
وبسبب خلافات بشأن تقرير الحكومة الذي نشر مؤخرا، والذي ادعى أن قوات الاحتلال الصهيوني لا تعرقل المساعدات الإنسانية لغزة، استقالت يوم الثلاثاء مسؤولة رفيعة في وزارة الخارجية الأمريكية حسبما قال مسؤولان لصحيفة واشنطن بوست.
وقالت ستايسي غيلبرت – التي تعمل في مكتب السكان واللاجئين والهجرة التابع لوزارة الخارجية – إنّ الوزارة كانت مخطئة في استنتاجها أن قوات الاحتلال الصهيوني لم تعرقل المساعدات الإنسانية لغزة، بحسب المسؤوليْن اللذين قرآ رسالتها.
وأشارت واشنطن بوست إلى أنّ سبب الاستقالة غير عادي، لأنه يتحدث عن معارضة داخلية بشأن تقرير مثير للجدل بشدة اعتمدت عليه إدارة الرئيس جو بايدن لتبرير الاستمرار في إرسال أسلحة بمليارات الدولارات إلى الكيان. وعندما سُئل عن استقالتها قال متحدث باسم وزارة الخارجية “لقد أوضحنا أننا نرحب بوجهات النظر المتنوعة، ونعتقد أن ذلك يجعلنا أقوى”.
تجنّب الحقيقة
وبهذا الصدد، كتب جوش بول -وهو أول مسؤول في وزارة الخارجية يستقيل بسبب غزة- في حسابه على منصة “لينكد إن” “في اليوم الذي أعلن فيه البيت الأبيض أن الفظائع الأخيرة في رفح لم تتجاوز خطه الأحمر تُظهر هذه الاستقالة أن إدارة بايدن ستفعل أي شيء لتجنب الحقيقة”.
والتقرير محل الجدل – الذي كان نتاج أسابيع من المناقشات داخل وزارتي الخارجية والدفاع – وجد أنه في حين أن “المساعدات لا تزال غير كافية” فإن الولايات المتحدة لا “تقيّم حاليا أن الحكومة الصهيونية تحظر أو تقيد بشكل آخر نقل أو توصيل المساعدات الإنسانية الأمريكية”.
وقالت غيلبرت – التي تردد آراءها الأغلبية العظمى من منظمات الإغاثة والمنظمات الإنسانية – إنّ قوات الاحتلال الصهيوني تعرقل وصول المساعدات إلى المدنيين في غزة، واستمر تقلص تدفقات المساعدات في الأسابيع التي تلت صدور التقرير، لكن مع ذلك فإن التقرير لم يجد أسبابا كافية لوقف المساعدات للكيان.
يذكر أنه إلى جانب غيلبرت وبول استقال عدد من مسؤولي إدارة بايدن منذ بدء الحرب على غزة في الماضي، بمن في ذلك أنيل شيلين التي عملت في قضايا حقوق الإنسان، وهالة راريت وهي أحد المتحدثين باسم الوزارة باللغة العربية.
ومع ذلك، أعرب عدد أكبر من الموظفين في الإدارة الأمريكية عن عدم رضاهم عن سياسة الإدارة من خلال إرسال البرقيات عبر قناة المعارضة الداخلية، وهي عملية تهدف إلى السماح للدبلوماسيين بالتعبير عن الخلاف دون خوف من الانتقام.
وبعد استقالة راريت، قالت إنه مع تقدّم أشهر الحرب أصبح من الواضح أنّ النقاش الداخلي بشأن السياسة الأمريكية الصهيونية غير مرحب به، على عكس كل المواضيع الأخرى تقريبا خلال حياتها المهنية التي استمرت 18 عاما في وزارة الخارجية.
يشار إلى أنّ إدارة بايدن أوقفت مؤقتا نقل بعض القنابل ومعدات التوجيه الدقيق إلى “إسرائيل” للتعبير عن مخاوفها بشأن غزو محتمل واسع النطاق لرفح، لكنها تركت معظم تدفقات الأسلحة دون تغيير، وقالت إنّ تصرفات قوات الاحتلال الصهيوني في المدينة الحدودية المكتظة باللاجئين لم تتجاوز بعد “الخط الأحمر” الذي وضعه الرئيس على الرغم من ارتفاع عدد الضحايا وتصاعد الهجمات الصهيونية.