ظلت العديد من الطوائف اليهودية ـ وعلى مدى قرون طويلة ـ ترفع شعارا مفاده: “العام المقبل في بيت المقدس”، وتسعى ـ باستماتة كبيرة ـ إلى تحقيقه، قبل ظهور الحركة الصهيونية التي حولت هذا الشعار إلى “تعويذة” مقدّسة تهدف إلى جمع الشتات اليهودي، وهو الهدف الذي تحقّق على حساب الدم الفلسطيني بعد “نكسة” حرب الستة أيام (يونيو/ جوان 1967) وما تلا ذلك من صراعات.
حين خلا الأمر للصهاينة المحتلّين ببيت المقدس، عمدوا إلى إصدار قانون أساسي تمّ بموجبه اعتبار القدس “عاصمة موّحدة وأبدية” للكيان المسمّى «إسرائيل»، وذلك منذ عام 1980م، كتحدٍ صارخ للقرار الأممي رقم 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي من خلاله كان قد تقرّر وضع القدس بصفة كيان مستقل بحاله “corpus separatum” تحت السيادة العالمية، على اعتبار أن المدينة المقدّسة كانت دائما مفترق طرق للديانات التوحيدية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام.
ورغم قرار الضمّ الإسرائيلي، إلا أن دول العالم التي تعترف بالكيان الإسرائيلي لم تنجر وراء القرار، ولم تحول مقرات سفاراتها أو قنصلياتها إلى القدس، في رفض صريح للاعتراف بها كعاصمة لسلطة الاحتلال، ورغم الرفض الدولي، فإن هذا لم يلجم الرغبة الجامحة لليهود المتدينين المتطرفين، في سعيهم لاحتلال جبل الهيكل الذي هو في الأصل وقف إسلامي منذ مئات السنين، حيث يرتفع الآن مسجد الصخرة والمسجد الأقصى والساحات المحيطة.
كان هدف اليهود من وراء ذلك إعادة بناء الهيكل الثالث في هذا الموقع، وبالتالي تهديم الأوقاف الإسلامية ومحوها، على اعتبار أن الهيكل الأول كان قد هدمه الملك البابلي، «نبوخذ نصر»، وأما الثاني فدمره الإمبراطور الروماني تيتوس حيث يمكن رؤية «الماكيت» الجديدة في الحي اليهودي بالمدينة العتيقة.
ويبقى حائط المبكى ـ في الوقت الراهن ـ هو المعبد ومكان الصلاة، والذي أوجدوا له مداخل جديدة للوصول إليه بعد احتلال المدينة، بينما الجدار في الأصل هو حائط دعم لساحات المسجد الأقصى، وقد قام قطعان الصهاينة بإزالة كل المباني التي كانت تسمى بحي المغاربة منذ قرون.
منذ عام 1967م، ظلت سلطات الاحتلال الإسرائيلي تعمل على السيطرة على القدس الشرقية ومحيطها بالكامل، وكانت قد بدأت مشروعها الاستيطاني منذ العام 1948م، وذلك من خلال مصادرة منازل الفلسطينيين الواقعة في الجزء الغربي للمدينة، وتحويلها ـ بحسب «قانون أملاك الغائبين» المفصّل على المقاس ـ إلى ملكية اليهود الوافدين من خارج فلسطين.
هذا القانون الجائر الذي برّر أعمال الاستحواذ على الممتلكات الفلسطينية من خلال تصنيفها كـ”ملكيات شاغرة” نهبا وعدوانا، إذ اعتبرت موادُه كل أولئك الذين غادروا بالفعل، أو تم طردهم بين نوفمبر 1947 وسبتمبر 1948م، أعداء تتم مصادرة أملاكهم، وكان هذا هو الحال بالنسبة للسكان اللاجئين في القدس الشرقية أو في الضفة الغربية، والذين وضِعوا تحت سلطة المملكة الأردنية، وإلى اليوم لا يزال الفلسطينيون الذين نُهِبوا يطالبون بحق العودة.
مؤامرة لمحو الماضي
في 11 أيار/ماي 2008م، تظاهر “المنهوبون” في شوارع الطالبية والمستعمرة الألمانية ـ وهما حيان ثريان في القدس الغربية ـ تحت شعار “حتى لا ننسى”، أن “73.000 فلسطيني أُجبروا على المغادرة، وأن ما لا يقل عن 5.000 منزل قد تم تغيير ملكيته”، كما لا تزال بعض المباني تحمل على الجدران الأحرف الأولى لسكانها الأصليين، بينما أعلام الاحتلال أصبحت اليوم ترفرف على شرفاتها، وقد كانت هذه نقطة البداية للغارة الكبرى التي تم شنها بهدف تقسيم المدينة المقدّسة إلى ثلاث جهات وقطعها عن الأراضي المحيطة بها.
كانت عملية التقسيم والفصل قد بدأت عام 1967م، حيث أن البلدة القديمة لا تغطي أكثر من واحد كلم²، وخلال الوجود الأردني كانت القدس تضمّ بحد أقصى 6 كلم²، وأما بعد حرب الأيام الستة، ضمت الاحتلال الإسرائيلي 64 كلم²، بما في ذلك 28 قرية عربية، لإنشاء “القدس الكبرى”.
وعندما يتم الانتهاء من جدار الفصل ـ حسب الخطة الصهيونية ـ سوف يشمل المستوطنات التي بُنيت داخل قوس عريض من دائرة كبرى تضمّ كل ما حول المدينة، وهي المساحة التي تبلغ 164 كلم²، والتي يخطّط الاحتلال ـ بهذه الطريقة ـ لتهويدها مرة واحدة مع المدينة المقدسة.
وبدأ هذا «الهلال» بضم سبع مستعمرات كانت قد زرعت من الشمال إلى الجنوب، والتي تمت إلحاقها على مر السنين بمستوطنات جديدة تقوم سلطات الاحتلال بتوسيعها باستمرار، مع محاولة إنشاء مستوطنات أخرى مثل «جفعات هاماتوس» القريبة من بيت لحم، وذلك من أجل تطويق المدينة التاريخية وعزلها تماما عن الضفة الغربية وثني الفلسطينيين عن المطالبة بها كعاصمة لهم.
عندما حاول «بيل كلينتون» الرئيس الأمريكي الأسبق ـ عام 2000م ـ انتزاع اتفاق سلام، كان قد شدّد على أن ما هو يهودي سيبقى يهوديا، وأن ما كان عربيًا سيبقى فلسطينيًا، لكن الوضع المطلوب ذاك، أصبح من الماضي.
الآن، تبقى البلدات العربية محاصرة داخل شبكات استيطانية أنشئت خصيصا بهدف خلق نسق عمراني ميداني مصمّم لعزل التجمعات الفلسطينية، فالخط الأخضر المتفق عليه قد تم خرقه من جميع الجهات.
وعندما وافق المتطرف «بنيامين نتنياهو» ـ عام 2010م ـ على تجميد عملية الاستيطان لمدة عشرة أشهر، ترتيبا لإعادة إطلاق محادثات السلام، كان قد رفض تطبيق ذلك الشرط بالنسبة للقدس، قائلا: إنه “منذ 44 عامًا، تم توحيد المدينة، ونحن عدنا إلى أرض أجدادنا، وحدة المدينة هي أساس وحدة شعب «إسرائيل»..”، ليثبت «نتنياهو» عنجهيته مرة أخرى ـ شهر أيار/ماي 2011م ـ من خلال ممارسات تهدف إلى محو كل الماضي المتعدّد الثقافات لمدينة تأسست ما بين 3.000 و2.600 سنة قبل ميلاد المسيح!.
لقد تم الأمر، وبقي على ما هو عليه، وسيأتي اليوم الذي يصبح فيه الـ”284.000” فلسطيني، الذين يعيشون في هذا القطاع، مفصولين تمامًا عن بقية الفلسطينيين الذين ـ ولسوء حظهم ـ يعيشون على الجانب الآخر من جدار الفصل.
سقوط الأقنعة
عندما يكتمل المشروع بضم المستوطنة الضخمة لـ«معاليه أدوميم» التي بها 39.000 ساكن وتقع شرق المدينة، تكون الحلقة قد أغلقت بالكامل تقريبا، وكل ما تبقى هو بناء مجمعات سكنية جديدة في الجهة الغربية من هذا المركب، وتمثل إقليما من 12 كلم²، وهو عبارة عن أرض فارغة تمامًا تقريبًا، وعندها سيكون قفلًا حقيقيًا يحيط بالقدس، من «جفعات زئيف» شمالاً، إلى «غوش عتسيون» جنوباً.
الفيتو الأمريكي الذي منع «إسرائيل»، حتى الآن، من السيطرة على الأرض المحرمة في «أو1»، كان يمكن تقييمه على أنه قرار شجاع، لولا فندق الشرطة الضخم الذي تم تشييده على ربوة هناك، وهو قائم منذ سنوات، كما تم إعادة تنشيط مشاريع البناء الراكدة الأخرى على ذات الأرض المحرمة، كإجراءات انتقامية ضد قبول فلسطين كدولة غير عضو في الأمم المتحدة.
هذا يعني أن الضفة الغربية ستقسم إلى قسمين، والقدس ستصبح معزولة عن محيطها الخارجي، وبذلك يكون تأسيس دولة فلسطينية قابلة للحياة مجرّد وهم لا أكثر، لتسقط الأقنعة مرة واحدة وإلى الأبد، كما إن مشروع طريق سريع بأربعة ممرات، تم شقه بالفعل ـ على حدود مستعمرة «معاليه أدوميم» نزولا إلى ضفاف نهر الأردن باتجاه البحر الميت ـ ليكون بمثابة طعنة أخرى في خاصرة الدولة الفلسطينية المحتملة.
مستقبلا، سيتم ربط هذه المستوطنة العملاقة بمثيلاتها من المستوطنات الأخرى المحيطة بالقدس، لتصبح المدينة المقدسة داخل سلسلة محكمة من المستوطنات اليهودية، لأن «أو1» هي الحلقة المتبقية لتطويق بيت المقدس، وفي الشمال، تم بناء خط ترام بطول 14 كيلومترًا من قبل الشركات الفرنسية، وافتُتح في أغسطس 2011م.
الخط يربط مستعمرة «بسغات زئيف» في جبل هرتسل، إلى الجنوب حيث الأسوار العالية بارتفاع ثمانية أمتار تحيط بـ«بيت لحم»، وقد تم التخطيط لطريق التفافي للسماح للفلسطينيين من جنوب الضفة الغربية، بالسفر شمالاً والعكس، دون المرور عبر القدس، بينما الضفة الغربية لن تكون إلا عبارة عن أرض ممزقة وخليط مفكك، وطرق خاصة بالمستوطنين يسمح لهم من خلالها بالسفر إلى القدس دون استخدام الطرق المستخدمة من قبل الفلسطينيين.
أسفل جبل الزيتون إلى الشمال الشرقي، تم فصل طريق بالفعل إلى قسمين بواسطة جدار، للسماح بذلك للفلسطينيين والإسرائيليين بالمرور دون رؤية بعضهم البعض (الطريق 45)، هذا دون الحديث عن الطريق رقم 443، المحور الرابط بين القدس وتل أبيب، والذي يأتي على امتداد نحو عشرين كيلومترا، وهو محرّم على الفلسطينيين، كما تم تشييد جسور وشق أنفاق لا لشيء إلا لعزل مركبات الفلسطينيين عن مركبات الإسرائيليين، في مشهد سلك قائم على نزعة الفصل العنصري.
حرب استنزاف
الاستيطان يجري في البلدة القديمة، على قدم وساق، من بيت إلى بيت، منزل تلو الآخر، وذلك من خلال شركات واجهة وأموال أمريكية لمنظمات مثل Ateret Cohanim عن طريق قطب Irving Moskowitz، حيث تقوم مجموعات لمستوطنين متطرفين مثل «إلعاد» بعمليات استحواذ، وفي كل مرة تتم فيها عملية الشراء، يتم تحويل المباني المشتراة إلى مخابئ لا تلبث أن ترفع على شرفاتها الأعلام الإسرائيلية.
إنها حرب استنزاف، كما تشير إلى ذلك منظمة حقوق الإنسان «بتسيلم»، الهدف هو تطويق باحات المساجد من أجل تهويد المدينة بصورة نهائية، وإعادة بناء الهيكل الثالث، وهكذا فإن الصراع قائم على أشُده بين الوافدين الجدد والسكان الأصليين، فيا تستمر مشاريع الاحتلال بلا هوادة.
لقد قارب عدد المستوطنين الـ”2000″ داخل البلدة القديمة، ذلك أن المحتلين يريدون الاستحواذ على جبل الزيتون، ثم حي الشيخ جراح، بالجهة الجنوبية للمدينة العتيقة تبدو الأمور أسوأ، في سلوان والبستان يعتبر الصهاينة الحوض المقدس كمقر لمملكة «داود» القديمة، ورغم أن عدد الفلسطينيين يبلغ الـ”40.000″ نسمة، إلا إن سلطات الاحتلال لا توفر أي جهد لتهديم المنازل وطرد أصحابها، تحت ذريعة البحث والتنقيب عن حفريات تاريخية هامة، على مستوى وادي الأرز عند سفح جبل الزيتون.
في فبراير 2012م، قررت وزارة داخلية الكيان الإسرائيلي إنشاء موقع سياحي بالمنطقة، تبلغ مساحته 5.000 متر²، بما في ذلك قاعات عرض لحفريات المواقع الأثرية، ومحلات بيع التذكارات وكافيتريا، ومركن للسيارات بدأ بناؤه، إضافة إلى حديقة مخطط لها، وقد قدرت سلطات الكيان عدد الزوار بأكثر من مليون ونصف مليون زائر كل عام.
وقد كلف المشروع تهديم أكثر من 83 منزلا في حي سلوان، و55 آخر في حي البستان ، فيما قام الصهيوني «نير بركات» عمدة سلطة بلدية القدس بطرد أصحابها، ، مدعيا أن المساكن غير قانونية، لتستمر المقاومة والرفض من قبل الفلسطينيين، مع أنه ـ في جانب آخر ـ قد صار من الصعب جدا، إن لم يكن مستحيلا، على الفلسطينيين الحصول على رخصة بناء، رغم حاجتهم الماسة لمنازل وسكنات جديدة.
فبحسب الأرقام التي قدمها مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية، من خلال التقرير الدوري لشهر آذار/مارس 2011م، يمكن للفلسطينيين امتلاك 13٪ فقط من الأوعية العقارية المعدة للبناء، وذلك على الرغم من أن عدد السكان قد تضاعف أربع مرات منذ العام 1967م، من 70.000 إلى 284.000 نسمة، إذ لم يتحصل على رخص البناء سوى 14.000 فلسطيني منذ أكثر من 40 عامًا، وهذا رقم لا يلبي حتى الحاجة السنوية للسكان.
قطع الجذور
في المقابل، يتم تخصيص أكثر من 35٪ من الأراضي للمستوطنين الذين لم يتبق لهم أي هامش للمناورة إلا باللجوء إلى البناء من دون رخص، وهو الوضع الذي يعرض أكثر من 93.000 نسمة إلى التهجير القسري، وقد تم إلى الآن تهديم 2.800 مسكن فلسطيني، منها 800 منها العشرية الأخيرة، في مشاهد مرعبة حيث تتوغل جرافات الهدم معززة بقوات الشرطة، لتدمر كل شيء وتلقي بعائلات بأكملها في العراء، ثم تعود من حيث أتت، بأوامر من طرف الإدارة الإسرائيلية المحتلة.
“يجب علينا، وبأي ثمن، منع السكان العرب من التقدم، يجب علينا فعل أي شيء لحثهم على المغادرة، وتهجير ما تبقى منهم بالعزل والحصار، خاصة المقدسيين منهم..”، بهذا الحقد القاتل، يتعاطى الإسرائيليون مع المسألة، في خطابهم الرسمي.
ووفقًا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، لا يزال 55.000 فلسطيني معزولين عن المناطق الحضرية بسبب جدار الفصل العنصري، وأما البقية فعليهم سلك مسالك طويلة جدا للوصول، مع المرور عبر نقاط تفتيش صارمة، ليحظى فقط 4 من أصل 16 بالوصول إلى المناطق الحضرية.
لقد تسبّبت الحواجز الأمنية في تحويل حياة الفلسطينيين إلى جحيم متواصل، ففي كل عيد يهودي، يتم تطويق الأراضي الفلسطينية ومحاصرة أهلها، في خرق صريح للمعاهدات والمواثيق الإنسانية القاضية بضرورة ضمان حرية الوصول إلى الأماكن المقدسة، حيث يتم التضييق على الفلسطينيين وعدم السماح بالمرور إلى باحات المسجد الأقصى إلا لمن يفوق سنهم الـ55 عامًا بالنسبة للرجال، و45 سنة بالنسبة للنساء، والأطفال الذين تقل أعمارهم عن 12 سنة.
مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية يؤكد بأن 40٪ من سكان الضفة الغربية ليس في وسعهم إمكانية الصلاة في المسجد الأقصى أو قبة الصخرة وباحاتهما الواقعة فوق الربوة المقدسة، كما لا يمكن للفلسطينيين استخدام مطار «بن غوريون» في تل أبيب، فهم لا يملكون جواز سفر إسرائيلي، ولذلك عليهم السفر إلى عمان بالأردن، حتى يتمكنوا من السفر إلى بقية دول العالم.
وحتى وقبل الوصول إلى عمان عليهم اجتياز النقاط الحدودية التي تضع من العوائق والتعقيدات ما يجبر الكثير من الفلسطينيين على العودة من حيث أتوا، لتتحول فلسطين بذلك إلى مجرد سجن مفتوح لا أكثر.
“يتمتع” عرب القدس بوضع إقامة دائمة، وذلك من خلال منحهم بطاقة هوية زرقاء، تمكنهم من الاستفادة من الخدمات الاجتماعية، لكن لا يسمح لهم بالتصويت في انتخابات السلطة الإسرائيلية، وأما أطفالهم فلا يحصلون على الإقامة الدائمة إلا وفق شروط معينة ومحددة مسبقا.
إذا كان أحد الزوجين لا يملك وضع الإقامة الدائمة، فلا يمكنهما العيش معًا إلا بعد الحصول على وثيقة “تصريح لم شمل أسرة”، وهو شرط في الغالب بات شبه مستحيل التنفيذ، وبحسب إشارة «بتسيلم» فإنهم يعاملون مثل المهاجرين حتى ولو كانوا قد ولدوا في القدس وعاشوا هناك لأجيال متعاقبة.
ويزداد الوضع تعقيدا وهشاشة، باعتبار أن السلطات الإسرائيلية تملك حق سحب تصريح الإقامة ذاك، بسهولة وفي أي لحظة، إذ يجب على كل عربي مقدسي، أن يثبت فعلا بأنه يعيش في المدينة، من خلال تقديم الأوراق المناسبة كشهادة إثبات الحياة مثلا، ثم إنه إذا سجل غيابه لمدة سبع سنوات، فإن حق الإقامة يسقط آليا، كما كان الشأن بالنسبة لـ14.561 مقدسيا منذ العام 1967م، من بينهم 4.672 حالة إسقاط حق الإقامة للعام 2008م فقط، بمعنى أن معدل الطرد في هذه السنة يعادل عشرين مرة المعدل العام لحالات الطرد التعسفي المسجلة في السنوات الماضية.
تحت خط الفقر
عملية الاستبعاد تتسارع، وإجراءات إدارية معقدة قد وضعت لتجنب أي تراجع في المسألة، ويبدو مركز الحقوق الاجتماعية والشؤون الاقتصادية في القدس،غارق في مفرغة من الملفات الفلسطينية المطالبة باستعادة الحقوق الشرعية، كما يوضح ذلك «زياد حموري» مدير المركز، قائلا: “إنه على الفلسطيني أن يقاتل كل يوم ضد الإسرائيليين، حتى يحافظ على حق العيش في القدس الشرقية..”.
وأما في القدس الغربية، فإنه من المستحيل على أي فلسطيني أن يعيش هناك أو يشتري عقارا أو أي ممتلكات أخرى، وهذا المستحيل ينسحب على بقية الكيان، حيث 93٪ من الأراضي نقلت ملكيتها لسلطة الاحتلال، تديرها ما تسمى بـ«دائرة أراضي إسرائيل» (ILA) والصندوق القومي اليهودي، وقد خصصت للمهاجرين الجدد، بموجب قانون العودة الإسرائيلي.
أضف إلى هول الفجوة الفاصلة بين الطائفتين، العربية والإسرائيلية، من خلال الفرق في مستويات الحياة وعدم المساواة في حق الصحة والتعليم والاستفادة من البنى التحتية والخدمات العامة. 37٪ من السكان عرب، من بينهم 78٪ يعيشون تحت خط الفقر، وترتفع هذه النسبة إلى 83٪ عند الأطفال، وهذا بحسب إحصاءات مؤسسة الحقوق المدنيين في الكيان (جمعية حقوق المواطن)، وللوقوف على هذه الحقائق، يكفي مجرد القيام بجولة بسيطة حول ضواحي المدينة القديمة، ليتضح كل شيء وينفضح.
مدن مكتظة بالسكان بصورة فوضوية، وطرق مهترئة ومدارس مختنقة، وعبر كل لذلك، ظل الشغل الشاغل للإسرائيليين هذا التزايد المتواصل في عدد السكان، وكيف لهذه الفئة السكانية المحرومة من كل شيء، أن تستمر في النمو لتصل إلى 40٪ من مجموع السكان، رغم أنها لم تكن تتجاوز الـ”25٪” عام 1967م، كما أنه في عام 1973م عمدت لجنة تسمى “Gavni” إلى نشر تقرير يحدّد النسبة الديمغرافية الواجب الحفاظ عليها، وهي 70٪ بالنسبة لليهود، مقابل 30٪ للفلسطينيين، حتى لا يختل التوازن وتميل الكفة لغير الإسرائيليين.
وفعلا فقد بدأت الكفة في الميلان، وهو الشيء الذي جعل سلطات الاحتلال الإسرائيلي تعمد إلى ارتكاب المحرمات بكل عنوة وإصرار، حيث جعلت الـ40.000 نسمة من سكان مخيم «الشوافات» للاجئين، غير قادرين على الوصول إلى القدس، بعدما حاصرتهم خلف الجدار العازل، وذلك منذ ديسمبر 2011م، أضف إلى ذلك بناء محطة عملاقة بأسلاك شائكة وكاميرات، كل ذلك حتى يتسنى لقوات الأمن السيطرة على مداخل ومخارج المخيم وحركة السكان.
وأمام هذا التعسف المتزايد، يدرك الفلسطينيون بأن الهدف هو عزل مخيمهم عن القدس، وأن لن يكون تابعا لبيت المقدس مستقبلا، وأنهم سيضمونه إلى الضفة الغربية وسيجعلونه تحت السيطرة العسكرية الدائمة.
حقيقة الميدان
إن القواعد الأساسية المنتهجة من قبل إدارة الاحتلال، ترمي في أهدافها إلى تغيير التوازن الديموغرافي على مستوى كل القطاع، وهذا هو السبب الذي جعل عدد تصاريح البناء خلال العام 2011م لوحده، والممنوحة للإسرائيليين في القدس، قد سجلت رقما قياسيا بلغ 3.690، وهو أعلى رقم يسجل منذ عشر سنوات، وفقًا لمنظمة «السلام» غير الحكومية.
وتتواصل عملية منح التصاريح للمستوطنين الإسرائيليين بوتيرة متسارعة لبناء أكبر عدد من السكنات وشغل أوسع مساحة ممكنة من الأراضي الفلسطينية، ليس في القدس فقط، وإنما في الضفّة الغربية كذلك، حيث تضاعفت عملية البناء بنسبة 20٪، في عام 2011 مقارنة بالعام السابق.
لا شك أن هذه الحملة “الإسكانية” الهائلة سيكون لها تبعات كارثية على الفلسطينيين، فهي تزيد من إجراءات التمييز العنصري، وتضاعف من عمليات التهجير القسري، وتجريد الناس من أملاكهم، ومواصلة القمع الهمجي لتنفيذ كل ذلك، فهي مشروع استعماري مركز باسم الصهيونية وباسم التوراة الكتاب المقدس.
“(إسرائيل) تواصل عملية ضم القدس الشرقية عن طريق إضعاف ممنهج للوجود الفلسطيني في المدينة، وذلك من خلال التوسع الاستيطاني، والتخطيط غير الإنساني لخنق حركة الفلسطينيين، واستمرار عمليات الإخلاء والهدم، والبرامج التربوية والتعليمية غير العادلة، وصعوبة الحصول على الرعاية الصحية والطبية، والإهمال والتسيب فيما تعلق بالبنية والمنشآت القاعدية الضرورية، كلها مآلات للإخلال المتواصل بالالتزامات الواردة في لائحة الإقامة الشرعية والبطاقة الزرقاء..”.
هذه شهادة مقتضبة من تقرير طويل عريض أعده مجموعة من 27 قنصلا لدول الاتحاد الأوروبي، نهاية عام 2011م، وهذا ليس أول التقارير السوداء ولن يكون آخرها، ورغم ذلك لا يزال العدوان مستمرا.
في مقال نشر بتاريخ 16 أبريل 2010م، من قبل «انترناشيونال هيرالد تريبيون»، يقول ـ بشكل عنيف وشنيع ضد حقيقة الواقع والميدان ـ «إيلي ويزل» الحائز على جائزة نوبل للسلام: “القدس فوق السياسة، ولذلك فلأول مرة في التاريخ، يمكن لليهود والمسيحيين والمسلمين أداء شعائرهم الدينية بحرية”، لكن الصحفي «يوسي ساريد» من صحيفة هآرتس الإسرائيلية، ردّ عليه قائلا:
“يلعب بعض اليهود المتطرفين على حبل ضيق المساحة في القدس، ليعمدوا إلى دس مساكنهم وحشرها داخل الأحياء العربية عنوة، (لتطهيرها) وتهويدها بمساعدة المحسنين الأمريكيين الأثرياء الذين يعرف العديد منهم..”.