يتزامن اليوم الأحد مع الذكرى الـ77 لمجازر 8 ماي 1945، وهي محطة أليمة في تاريخ الجزائر راح ضحيتها أزيد من 45 ألف شهيد قتلوا على يد الاستعمار الفرنسي.
الكثير من الحقائق لا تزال غامضة حول تلك الجريمة التي ارتكبتها فرنسا في حق الإنسانية، وكيف مهدت الطريق لثورة المليون ونصف المليون شهيد (ثورة أول نوفمبر 1954).
يعتبر ملف الذاكرة واحدا من أبرز الورشات الحساسة بين الجزائر وفرنسا، ففي آخر رسالة وجهها الرئيس عبد المجيد تبون بمناسبة إحياء اليوم للذاكرة، الأحد، أشار إلى أن حرصه على ملف التاريخ والذاكرة “ينبع من تقديرِ الدولة لمسؤوليتها تجاه رصيدها التاريخي، باعتبارِه أحد المقومات التي صهرت الهوية الوطنية”.
وأوضح أن هذا الحرص “ينأى عن كل مزايدة أو مساومة لصون ذاكرتنا ويسعى في نفس الوقت إلى التعاطي مع ملف الذاكرة والتاريخ بنزاهة وموضوعية في مسار بناء الثقة وإرساء علاقات تعاون دائمٍ ومثمر يضمن مصالح البلدين (الجزائر وفرنسا) في إطار الاحترام المتبادل”.
واعتبر أن “الفظائع التي عرفتها سطيف وقالمة وخراطة وغيرها من المدن في الثامن من ماي 1945، ستبقى تشهد على مجازر بشعة لا يمكن أن يطويها النسيان، بل ستظل محفورة بمآسيها المروعة في الذاكرة الوطنية وفي المرجعية التاريخية التي أسس لها نضال شعبِنا الأبي ضد ظلمِ الاستعمار”.
هكذا يأتي يوم 8 ماي من كل سنة كمحطة لإعادة تذكير الأجيال ببشاعة الاستعمار الفرنسي، والتي يؤكد المؤرخون أنها واحدة من أفظع الجرائم ضد الإنسانية وضد القيم الحضارية التي لا تسقط بالتقادم رغم المحاولات المتكررة لطمسها.
حلم الاستقلال
في مثل هذا اليوم، دقت الأجراس في فرنسا للإعلان الرسمي عن انتهاء الحرب العالمية الثانية وانتصار باريس على النازية.
إنها الحرب التي استخدمت فيها فرنسا الجزائريون وشعوب الدول المستعمرة كجنود في الصفوف الأولى لهزيمة الألمان (أكثر من 300 ألف رجل مجند في الجيش الفرنسي وفقًا لأرشيف الخدمة التاريخية للدفاع).
وبالتزامن مع إعلان نهاية الحرب العالمية الثانية، استغل المناضلون الجزائريون الفرصة لتنظيم مسيرات تطالب بإطلاق سراح الزعيم الجزائري مصالي الحاج (مؤسس حزب نجم شمال افريقيا عام 1929) والمطالبة بالاستقلال، في مسيرات جابت عدة مدن أبرزها قالمة وسطيف وخراطة.
ويروي المؤرخ بوعلام خلفه جانبا من مجازر 8 مايو 1945، وقال في كتابه عن تاريخ الجزائر الصادر عام 1987: “8 ماي 45 إنها الحقيقة المروعة، مذابح لعشرات الآلاف من الرجال والنساء، ميليشيات أوروبية أعطت نفسها الحق في قتل الجزائريين، حرق للجثث ومقابر جماعية”.
في سطيف، بدا ذلك الصباح عاديا، حيث اعتاد الناس التوجه إلى سوق الثلاثاء، وفجأة تحول الأمر إلى مسيرات حاشدة أمام “مقهى فرنسا” الشهير وسط المدينة، وكان الشاب وعضو الكشافة بوزيد سعال (26 سنة) يتقدم المسيرة.
في البداية، ردد المحتجون أناشيد وطنية أبرزها أنشودة “من جبالنا”، ورفعوا علم الجزائر لأول مرة، وفورا طالب محافظ الشرطة الفرنسي المحتجين بالمغادرة وإنزال الراية، ولكن الكشاف بوزيد رفض الالتزام لأوامره ليوجه المحافظ رصاصة قاتلة، وهكذا سقط أول شهيد في إحدى أبشع المجازر التي ارتكبها المستعمر.
مناخ معقد
ويقول المؤرخ الفرنسي بنجامان ستورا إن المجازر جاءت وسط مناخ معقد، حيث خاف الأوروبيون من أن يتمكن الجزائريون من فك الارتباط مع فرنسا تماشيا مع السياق الدولي الجديد والحصول على الاستقلال، وهو ما يعني بالنسبة للأوروبيين خسارة الكثير من الامتيازات في الجزائر.
ووفق هذا الطرح، يفسر المؤرخون تسارع الأحداث نحو العنف والقتل وكيف تحصل الأوروبيون على أسلحة من الشرطة لإبادة الجزائريين بشكل عشوائي، وقد تشكلت ميليشيات في قالمة بموافقة السلطات الفرنسية ومنحت الأوروبيين حق إطلاق النار على المدنيين الجزائريين العزل.
هذا المشهد الدرامي انتهى بمقتل 45 ألف جزائري بحسب أرقام القنصلية الأمريكية، وهو ما دفع بالجزائريين للاقتناع بأن لا حل مع الاستعمار الفرنسي سوى القيام بثورة للحصول على الاستقلال.
وكما يقول ستورا، فإن تلك المجازر كانت نقطة تحول أساسية في تاريخ الجزائر، فبعد تسع سنوات من أحداث 8 ماي، ظهر جيل جديد من القوميين الجزائريين حملوا مبدأ الكفاح المسلح وقد اعتبروا أن مطلب الحكم الذاتي عفا عليه الزمن لصالح شعار الاستقلال.
واليوم لا تزال الجزائر تطالب فرنسا بالاعتراف بتلك الجرائم، حيث كان عبد الحميد سلاقجي، رئيس جمعية 08 ماي 45، قد أعلن، مؤخرا، عن توجه الجمعية نحو رفع دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية بلاهاي، ضد جنرالات وضباط المستعمر الفرنسي الأحياء والأموات من الذين تلطخت أياديهم بتلك الجرائم.
وتأتي هذه الخطوة، بعدما سجلت الجزائر تحفظا على طريقة تعامل تقرير ستورا الخاص بالذاكرة من موضوع مجازر 8 ماي 1945، حيث لم تتطرق توصياته بالشكل الكافي إلى الجرائم التي اقترفها الجيش الاستعماري.
وكان المؤرخ الفرنسي أوليفييه لوكاور غراندميزون، قد دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للاعتراف بشكل واضح وصريح بجرائم 8 ماي باعتبارها جرائم ضد الإنسانية.
ونقلت وكالة الأنباء الجزائرية عن المؤرخ الفرنسي بمناسبة إحياء ذكرى 8 ماي، قوله: “يجب أن يعترف بشكل واضح وصريح، بأن الجرائم التي ارتكبت كانت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية كما تنص على ذلك المادة 212-1 من قانون العقوبات الفرنسي”.
تقرير “توبير”
ويبقى إلى اليوم تقرير لجنة تحقيق “توبير” المصدر المهم الوحيد حول حقيقة ما جرى خلال هذه المجازر، رغم أن محرري التقرير تأسفوا لعدم تمكن اللجنة من الاضطلاع بمهمتها بشكل فعلي، حيث لم تتم معرفة سوى جزء من الحقيقة التاريخية بالنظر إلى العراقيل التي واجهتها لجنة التحقيق الرسمية التي نصبت من قبل الجنرال شارل ديغول بقيادة جنرال الدرك بول توبير أثناء تنقله إلى الجزائر.
فبعد أن بقي لمدة طويلة طي النسيان، تم قبل بضع سنوات الكشف عن مضمون تقرير لجنة توبير حول هذه الأحداث، كتب مقدمته المؤرخ جان بيار بيرولو.
ويؤكد التقرير أن اللجنة قد خلصت إلى أن العديد من المظاهرات قد جرت في الجزائر ما بين 1 و 8 مايو وطغى على جميعها الدافع السياسي، حيث طالب المتظاهرون بإطلاق سراح مصالي الحاج واستقلال الجزائر.
وقد اعتبر كل من المثقفين الفرنسيين فرانسوا جيز وجيل مونسيرون وفابريس ريسيبوتي وآلان روتشيو، في مقال مشترك أن “مغامرة فرنسا الاستعمارية أفضت إلى غزوات وقمع إجرامي على نطاق واسع تشكل انتهاكا صارخا للقيم”، مضيفين أن السلطات العليا للدولة الفرنسية “لازال لديها الكثير من الأمور لتقولها من أجل الاعتراف مثلا بمجازر مايو ويونيو 1945 بالجزائر”.