الكتابة الإبداعيّة قبل غزو الأنترنت وبعده.. إلى أين يتوجّه الأدب العربي؟

مع مطلع القرن الواحد والعشرين، شهد العالم العربي انتشارًا واسعًا للأنترنت، مُعلنًا عن “تقسيم” جديد للزّمن المُجتمعي: زمن ما قبل الأنترنت، وزمن ما بعده. وما كاد العقد الثاني ينقضي من هذا القرن حتى كان الأنترنت قد “غزا” معظم البيوت العربيّة، حيث تفيد إحدى الدراسات أنّه “بلغ عدد مستخدمي الأنترنت في جميع أنحاء العالم سنة 2018 قرابة 4 مليارات نسمة، من بينهم 164 مليونًا في الشرق الأوسط، و121 مليونًا في شمال إفريقيا”. وقد كان لهذا “الغزو” تأثيراته على العادات اليوميّة للفرد والمُجتمع على حدّ السّواء، وتجلّى ذلك التأثير خلال جائحة “كورونا”.

ومثلما أثّر الأنترنت في مجالات حيويّة كثيرة، فقد أثّر في مجال الثقافة والأدب، حيث تجلّى ذلك التأثير في العادات القرائيّة، و”الانفجار” المذهل في الكتابة على اختلاف أجناسها.. ويُفترض أن يكون أدباء اليوم أكثر ثقافة عُمقًا ووعيًّا وإيمانًا بالرسالة الأدبيّة، لأنّ الإنترنت وفّر لهم ما لا يُحصى من الكتب الإلكترونية المجانيّة، وأمّن لهم فضاءات النشر البالغ السّرعة وألغى كثيرًا من قيوده ولزومياته، وأوجد لهم برامج “خياليّة” للتواصل اللّحظي بين الكُتّاب والقرّاء على حدّ السواء، وأنتج لهم أدوات التّرجمة وغيرها من الأمور التي لم يكن أدباء الأمس (قبل ظهور وشيوع الأنترنت) يتخيّلون أنّها يُمكن أن توجَد..

فهل الأدوات والبرامج والوسائل التقنية صنعت الفارق بين أدباء اليوم وأدباء الأمس، لا سيما فيما يتعلّق بالتذوّق اللغوي والأدبي، وشغف القراءة، وتنوّع منابع المعرفة ومصادر المعلومات؟ وهل ارتقى الأدب العربي في زمن الأنترنت إلى سماوات إبداعيّة أخرى كانت مُنغلقة أمام الأدباء في زمن ما قبل الأنترنت، أم أنّه “تراجع” وانحدر إلى مجاهيل تُثير التخوّف حول مستقبله؟ وهل يُمكن الحديث عن جيل أدبي من المُخضرمين يُمثّلون – بشكلٍ ما – حمَلةً لقيم وتقاليد في الكتابة، وعادات في التعامل مع الكِتاب الورقي.. قد تختفي في مهبّ هذا “الانفجار” في الكتابة الذي لم يُصاحبه “هوسٌ” بالقراءة، وقد تنتهي بانتهاء ذلك الجيل المُخضرم؟

ربّما يحتاج الجواب إلى بعض الجرأة والشجاعة ومصارحة الذات.. لاستخلاص الفَرق وأسبابه ومظاهره بين أدباء الزمن الورقي قبل الأنترنت، وأدباء الزمن المعلوماتي بعد انتشار وشُيوع الأنترنت! وقد توجّهت جريدة “الأيام نيوز” إلى نخبة من الأدباء والكُتّاب العرب ليُدلوا بآرائهم حول تلك التساؤلات – التي ذكرناه سابقا – من منطلق تجاربهم الأدبيّة الخّاصة، وأيضًا حول تقييمهم للأدب العربي قبل الإنترنت وبعد انتشاره وغزوه لكل بيت عربي.

 

رانيا محيو الخليلي
رانيا محيو الخليلي – أديبة وروائية من لبنان

حضارة الأدب الهزيل..

الأديب المخضرم عالق بين زمنين!

بقلم: رانيا محيو الخليلي (أديبة وروائية من لبنان)

أن تكون أديبًا في هذا العصر، عصر الحضارة والتطوّر الإليكتروني والتكنولوجي يعني أن تُصارع الرياح، وتُحارب طواحين الذائقة الأدبية، وتقتلع الجهل من براثن مُدّعي الثقافة.

أن تكون أديبًا في هذا العصر والزمان يعني أن تجتهد وتُجاهد أضعاف ما اجتهد وجاهد أدباء الأزمنة الغابرة. قد يعتقد البعض أنّ هذا الرأي مُبالغ فيه لا سيما أننا نعيش في زمن التطور الذي أتاح منصّات الكتابة ومنابر الظهور للجميع دون استثناء. وهنا تقع الكارثة!

قديمًا كان الأديب ليُصنَّف أديبًا يخضع إلى فحص أهل الخبرة في هذا المجال، فالصحف لم تكن متاحة إلاّ لمن يمتلك اللغة والأسلوب. ومع تطوّر وازدياد عدد الصحف ودور النشر أصبحت الكتابة حكرًا على فئة معينة مع إقصاء من لا يمتلك مرجعًا يوصله لمتزعِّمي المشهديّة الأدبية. وفي تلك المرحلة الإنتقالية، أي ما قبل عصر التكنولوجيا، أصبح الأديب الكفوء يبذل جهدًا مُضاعفًا لإثبات حضوره، وفي الغالب كان ينجح حتى لو تأخّر في الوصول، لأنّ قدراته الأدبية كانت هي التي ترفعه على الرغم من كل العوائق التي منعته من النجاح والانتشار. أمّا مع وصولنا اليوم لمرحلة الصفحات المُتاحة ودور النشر الاستهلاكية أصبح لدينا أدباء مِمّا هبّ ودبّ، وهنا تجدّدت معاناة الأديب الأصلي ليُجاهد في سبيل اختراقهم. مع الوقت، الأمر بدأ يتفاقم فالذائقة الأدبية أصبحت تتأثّر بما هو متاح ولا تميُّز بين النص الجيد والنص السيء. يكفي أن يكون لأيّ أديب مستحدث بعضًا من نفوذ، وبعضًا من علاقات، وكثيرًا من متابعين ليتربّع على عرش الأدباء مع إقصاء كلّي لدور الناقد.

وحده “الأديب المخضرم” العالق بين زمنين من يعلم حقيقة ما يحصل، لأنّ “الأديب المُخضرم” لم تتأثّر ذائقته بالانحطاط الأدبي الحاصل لأنّها تأسّست على أمجاد أدباء الزمن الجميل. هذا الأديب، الذي قد تكون كتاباته آخر أثر من زمن الأدب العريق، يدفع أثمانًا باهظة كلفة هذا الانحدار. فالانحدار الأدبي تحوّل ليُصبح انحدارًا أخلاقيًّا عزّز التفاهة والسرقة الأدبية.

هؤلاء “الدّخلاء” على المشهديّة الأدبية حوّلوا الأدب إلى سلعة رخيصة حتى بِتّ حين تُعرّف عن نفسك أنك روائي” أو “أديب” لا يأخذك أحد على محمل الجدّ، بل أصبحتّ مُضطرًا لتتحدث عن نفسك وإنجازاتك في مجال الأدب لتُبرهن أنّ ما تقدّمه هو شغف جديّ وليس مجرد مكمّلات لزوم المظهر. واقعُ الأديب لم يكن كذلك يومًا في عصور النهضة والازدهار، ولم يكن كذلك يومًا في أوطان الغرب الذي لا يزال يكرم أدباءه ويُحيي ذكراهم. الأوطانُ المُتحضِّرة لا تنسى فضل أدبائها وعلمائها ومفكّريها في تأسيس هذه الحضارة. بينما لجأت بعض المجتمعات العربية لترسيخ مبدأ هدم التراث والأثر واللغة. وأمام ما يحدث، لم يجرؤ أحد على الصراخ عاليًا لمنع ما يحدث باستثناء قلّة لم تحتمل هذا التعدّي.

أصبحت مخالفة القطيع أمرًا مُستعصيًا، وكلمة الحق أمست تتطلب فوق الجرأة “النّخوة”.

لا يمكن بناء حضارة وثقافة الهدم هي السائدة، قد نعترض على بعض المؤلَّفات، أو قد ننصرف عن مؤلَّفات لا تناسبنا، لكن الدعوة لطمسها وتحطيمها أمرٌ ليس من الحضارة ولا من الثقافة ولا من الأدب في شيء. بلوغ رتبة الأديب لا تخوّل أحدًا لهدم فكر وجهد من سبقوه من علماء، لا سيما أنّ الدعوة إلى هذا الهدم مقتصرة على علماء الفكر والدين والفلسفة العرب. لا أتّوقع أنّ يقوم اليونانيون بهدم تراث “أفلاطون” و”سقراط”، أو أن يقوم الفرنسيون بهدم تراث “رابليه” و”باسكال”… لاسيما أنّه ليس هناك من بديل يعوّض فراغ من سبق في حال مسحهم. وهنا يُطرح سؤال وجودي: “هل بمقدور أحد أن يلغي أحدًا؟”.

أيُّ عملية إلغاء أو إقصاء لن تؤتي ثمارها لأنّ الله سبحانه لم يخلق الكون حكرًا لفئة محدَّدة. بمشيئة الله وقدرته، الكون يتَّسع للجميع، وليس على أصحاب العقل إلاّ الاختيار والتمييز.

الواقع الأدبي يعاني من حالة انهيار في الأسس وفي القيم حتى أصبح واقعًا هزيلاً ونحيلاً تنقصه جرعات من المواجهة والعمل الجاد.

الأمر المُحبط أن لا أحد يعلم ما ستؤول إليه هذه الظاهرة وإلى متى ستستمر؟ كيف سينجلي الليل السرمدي الذي لوّن سواده الباطل؟ هل ستأتي موجة تسونامي تُطهّر الفضاء الأدبي من كل ملوثاته وتعيد إليه صفاءه وإشراقه؟ كيف سننجو نحن، والمسيء أصبح يمتلك السطوة؟

أسئلة تحمل في طيّاتها إجابات مُحبطة، لكن يبقى الأمل طالما لا يزال هناك بقعة ضوء ولو ضئيلة تحمل شعلة الأصالة، وتؤمن بأنّه بعد ظلام الليل سيحلّ نور الفجر.

 

مروى فتحي منصور 1
مروى فتحي منصور (روائية وكاتبة من جنين – فلسطين)

الكتابة عن العشق في زمن “الموت الفلسطيني”!

ماذا تبقّى من مسؤولية الأديب العربي في عصر الأنترنت؟

بقلم: مروى فتحي منصور (روائية وكاتبة من جنين – فلسطين)

الأديب في معاجم اللغة ومعارك الحياة

الأَديب في المعجم: فاعل من أَدُبَ، من يُبدِع في مجال الأدب من شعر ونثر، وهو الحاذق بالأَدب وفنونه، والآداب: مصطلح يُطلق على جملة المعارف الإنسانيّة وبخاصّة على الأدب الإنشائيّ والأدب الوصفيّ والتَّاريخ والجغرافية وعلم اللغة والفلسفة وغيرها من العلوم الاجتماعيّة، ويقال: تَأَدَّبَ الْمُتَعَلِّمُ: تَثَقَّفَ، تَعَلَّمَ، كَانَ مُهَذَّبًا. فالأديب هو مثقف ومتعلِّم بالضرورة، ويقع على عاتقه المعرفة الشمولية، وسعة الاضطلاع، وتقع على مسؤوليته رفع مستوى الوعي في المجتمع، وهذا ما عمل عليه أدباء ومفكرو القرن العشرين، فأثاروا الرأي العام وشكّلوا اتجاهاته، واستطاع الأديب أن يصل إلى الجماهير وأن ينطق باسمهم وأن يعبّر عن مكنوناتهم ورغبتهم في التمرد السياسي والثورة على المحتلّ.

وقد حافظ الأديب على تلك الروح الصادقة الغاضبة الثائرة والتي جعلت له قاعدة جماهيرية وأُثارت الجدل لدى نقّاد عصره، وبوصولنا إلى الألفية الثالثة استطاع الأديب مجاراة رغبات القرّاء بالتحوّل النّوعي إلى النثر، فكتب قصيدة النثر وكتب الرواية، وكان العام 2003 الذي شهد عشرات الروايات التي لاقت قبولاً واسعًا، وأطلقت جريدة “أخبار الأدب” على تلك الظاهرة، مصطلح “الانفجار الروائي”، ليدرك الأديب فيما بعد أن القارئ ينجذب لمن يحكي له عن الواقع المباشر، وكذلك يتناول ذلك الواقع في لغة بسيطة، بعيدا عن الفلسفة والتقعّر اللغوي والتقنيات الفنيّة الأصيلة، فالأديب ينحاز لنصّه الذي يقرأ، وليس الذي يوضع على رفّ مكتبته.

أديب الفضاءات التكنولوجية

والأديب المعاصر يسبح كغيره في فضاء لجيٍّ رحب في الفضاءات التكنولوجية أهمّها مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تلقى رواجا كبيرا وتلقِّيا مثاليا، فكم من الكتابات المتسلسلة على تلك المدونات تحوّلت إلى كتب وروايات وأعمال سينمائية ودرامية تلفزيونية!

كثير من الكتابات في عصرنا الحالي تعبِّر عن سِيَر ذاتية أو غيريّة، دون الاهتمام لتقنيات الفن الذي تُكتب فيه، فلم تعد القضية كما القرن الماضي حين تحررت القصيدة العربية من قيود الوزن والقافية بمقابل أن تحمل على عاتقها ملاحقة حرة للومضة الشعورية وحمل رسالة إنسانية ووطنية وامتطاء كلمات رشيقة، يستطيع القارئ التّعامل معها وتذوُّقها، وترتَّب على ذلك انتشار الظاهرة في مدارس متعدّدة واتجاهات مختلفة، لكنها في النهاية استوعبت رغبات القرّاء وحاجات العصر وإمكانات البيئة التي يكتب منها الكاتب أو الشاعر، واليوم تعدّى الأمر ذلك التجديد، لتذوب الفروق بين النصوص الأدبية، وتصبح الملاحقة ليس للومضة الشعورية والوجدانية بل الملاحقة للقضية السياسية والاجتماعية والعاطفية.. فأحيانا نجد أنفسنا أمام نصوص فيها قضية تفهمها فقط من العنوان والعتبات، ولا تترك في وجدانك أيّ أثر انفعالي أو شعوري حيالها.

هل ضاعت مسؤولية الأديب في “الانفتاح الثقافي”؟

لقد تربّى الجيل العربي في القرن الماضي ثقافيا ونما على أدب مقروء ورقيا، وكان يواظب على زيارة المكتبات العامة ويقتني الكتب بشكل سنوي، أو شهري، وكان لا يسمع عن أديب إلّا حين يصدر له كتاب ورقي أو يكتب عنه في مجلة أو صحيفة مشهورة، ومن الصعب تصديق نبوغ كاتب في سن صغيرة، ودون إصدارات متعدِّدة ومتميّزة، وكانت عوامل النجاح صعبة للغاية، فبين مطرقة الحالة الاقتصادية وبين نوعية الكتب التي تُشترى، على القارئ أن يقرأ ما يقرأه الذّوق العام ليكون مواكبا للحركة الثقافية، قادرا على المشاركة فيها، كل تلك العوامل اختلفت اليوم، فأصبح بإمكانك التواصل مع أديبك أو كاتبك المفضّل عبر قنوات تواصل مفتوحة ليل نهار، وأصبح بإمكان المثقف أن يعرض هواجسه وانطباعاته ومواقفه في كل لحظة دون الحاجة إلى وساطة إعلامية أو دُور نشر أو إمكانات مادية باهظة، وأصبح بإمكان أيّ أديب أن يثبت ملكته في ذلك الفضاء المعلوماتي الرّحب والخصب الذي يتّسع للجميع دون إذن من طبقة شعراء أو كُتّاب في لجان تحكيم، وقد يجد القارئ ضالّته الوجدانية وومضته الشعورية مع كاتب لم يتعدّ عمر العشرين، وقد لا يجدها مع من يكتب الموزون منذ خمسين عاما، ومن هنا نجد أنّ الإمكانات الفضائية والرقمية قدمت للأدباء فسحة من أملٍ لإثبات حضورهم الجماهيري في الساحة العربية، فهل من مسؤولية تقع عليهم في ظل هذا الانفتاح؟

هل عدنا إلى نظرية “الفن للفن”؟

واليوم في عصر العولمة والانفتاح التواصلي، أصبح العالم العربي على صفحة واحدة ينضوي على الكثير من التعددية والاختلاف في الرؤى والتوجّهات والمنطلقات والمعتقدات، وتعدّدت القضايا المصيرية التي تجمع الشعوب العربية، وتدعوهم إلى الوقوف على مسؤولياتهم، ورغم ذلك نجد الأديب أو الأديبة العربي/ة يلهثون وراء الألفاظ الهجينة والغريبة، والعبارات غير المتناسقة، ويتناول موضوعات العشق والهوى، وقد تمرّ على قصيدته أو نثريته وأنت لا تعرف مُراده، وحتى لا يحدث فرقا في مشاعرك أو موقفك من الحياة، فهو يسكب ومضاته الشعورية بقالب لغوي، وهذه اللغة هي الوسيلة الوحيدة كي يتواصل مع القرّاء، لكنها مستغلقة غير مترابطة، وكأنّها همسات من عالم الخفاء أو الغيب، فلا تؤتي ثمارها، في التغيير والإصلاح والمشاركة الوجدانية، ولا يمكن لأيّ فن أو أدب أو رياضة أن تكون مجرَّدة من الهدف، وأن تخلص بهدفها للمتعة فقط، حتى المباريات الرياضية يكون لها هدف الحصول على الكأس والفوز، والفن التشكيلي له أهدافه في تسويق اللوحات التي لها جمهورها العريض وتعبّر عن شخصية المتلقّي الجامع لها، فما بال الأدب ينحرف عن هدفه، ويدّعي أنّ الفن للفن، وللمتعة، ونرى الأدباء يتهافتون إلى صُنّاع المحتوى لاستغلال شهرتهم وأصواتهم في تسجيل نصوص أنتجوها وما تفاعل معها أحد، لإضفاء بعض النّبرات الشعورية والموسيقى التي غالبا ما تكون ليس لها علاقة بالنص ومرماه، لإثارة تفاعل المتلقّي معها وترويجها إعلاميا ورقميا، لكن كل ذلك يجعل من الأدب ضربا من العبث اللغوي الذي لا يسير إلى هدف جمالي تفاعلي أو معنوي تحوُّلي في الذات والوعي الجمعي..

المسؤولية التاريخية للأدباء في الانتصار لفلسطين

الأديب في يومنا هذا وفي ظروفنا الأمنية المتسارعة وخصوصا في فلسطين، تقع على عاتقه مهمة إيصال صوت المكلومين والثكالى واليتامى والذين أُخرِجوا من ديارهم أول مرة وعاشر مرة في “غزّة” وغيرها من المناطق الفلسطينية، ولكن المشهد الأدبي العربي والفلسطيني سلبي إلى أبعد الحدود، فأيّ منطق أن تقع أوزار حرب إبادة جماعية وتطهير عرقي بأقذر الأساليب الحربية واللاإنسانية من قبل جيش العدو الصهيو-أمريكي، ونجد شعراء وأدباء فلسطينيين ملتزمين الصمت حيالها، وحيال تلك الأوجاع التي بلغت بأنينها عنان السماء، وأسمعت عبر عدسات أهل “غزّة” المغلوبين على أمرهم أقصى الشرق والغرب الحقيقة المرة، بينما نجد كاتبا أو كاتبة يحصدون جوائز فخرية على مستوى فلسطين لم يُبدعوا منشورا واحدا على مواقع التواصل الاجتماعي أو قصيدة كاملة ومتكاملة أو أي نص آخر يحكي الوجع ويصدره استحقاقا إلى بقية شعوب العالم لتكون شاهدا على ما حل بالفلسطينيين من أسى وأذى وما حملوا على عاتقهم من تجلد.

والأمر يتعدّى ذلك إلى نشر كتبٍ عتباتُها وثيماتها عن العشق والهوى، فهل هذا موقف يسجِّله أولئك الأدباء الذين يُفترَض أن يحملوا على عاتقهم رفع الوعي والقيم الأخلاقية والإنسانية لدى الشعوب! وهذا لا يعني مطلقا عدم وجود أدباء عرب وفلسطينيين رفعوا راية الوطنية والقومية والإنسانية في أدبهم وكانوا على قدرٍ من المسؤولية التي تتطلبها المرحلة، لا يتّسع المقام لذكرهم هنا، لكن الشيء يبرزه نقيضه لكي نهتدي إلى الطريق الأسلم لنا جميعا، وهو أن نتفق بأنّ الشعوب المكلومة والتي يضيع حقها دوليا بين الأمم تحتاج إلى أن يتكاثف أدباؤها وفنّانوها ومشاهيرها ونُقّادها وكُتّابها وأصحاب الشهادات العليا فيها وإعلاميّوها ومصوِّروها وأصحاب المحتوى الإعلامي الرقمي.. في رفع مستوى الوعي بالحقيقة وإيصال صوت المجروحين المهددين بطي صفحاتهم من الوجود كل ثانية.

الأديب العربي والفلسطيني يجب أن يقف عند مسؤولياته، وأن يتنازل عن الترف اللغوي والموسيقي إلى التكثيف الشعوري والوعي النهضوي والثوري، وأن يوظف الإمكانات الرقمية وإمكانات الترجمة والاتصال والتواصل والانفتاح العلمي والثقافي والاجتماعي والموسيقي لصالح نصوصه الثورية التوعوية، حتى لو تحوّلت النصوص المكتوبة إلى الطابع الجنائزي لتنسجم مع أجواء الإبادة الجماعية التي استهدفت شعبا بأكمله وأزالت عائلات بأكملها من السجل المدني في “غزة”..

ما المطلوب من الأديب العربي؟

وعليه أن يستغل مواقع التواصل الاجتماعي في نشر نصوصه وأن يسعى إلى توثيقها كي يحفظها من الضياع أو التخريب المتعمّد، ومن الاستهداف الصهيوني الأحمق الحاقد. وعلى دُور النشر أن تستقطب هذه النصوص التي تحمل رسالة إلى العالم، وتحمل وجع الشعوب بأسعار رمزية، وأن تُعطيها الأولوية عن غيرها من الموضوعات.

ناهيك عن ضرورة ممارسة الأديب لدوره ثقافيا من خلال عقد الندوات والمؤتمرات الدولية والمحلية والتي تتلقّف النص الغزي والفلسطيني الخارج من رحم المعاناة لتحليله وتنقيحه وتقديمه إلى النشر كمشاركة في نقل الرواية الشفويّة وتوثيقها، وغيرها الكثير من الفعاليات التي يمكن تنفيذها في سياق رفع الوعي الوطني والنهضوي والتنوير بما يتناسب مع تداعيات المرحلة ومستجداتها.

مطلوب من الأديب في العصر الحديث، في ظل التّداعيات المتسارعة، أن يركِّز اهتمامه على القضايا السياسية والوطنية والقومية والاجتماعية لكن بتفعيل الفكر والوجدان، وحاجة القرّاء، وليس القفز فوق الألفاظ والتراكيب الغامضة، واستعراض المعجم ودسّه في تراكيب وأسطر ليس بينها ترابط.

 

بسيم عبد العظيم عبد القادر 1
د. بسيم عبد العظيم عبد القادر (شاعر وناقد أكاديمي، رئيس لجنة العلاقات العربية باتحاد كتاب مصر)

الأدباء بين الأمس واليوم..

“مكتبة المنزل”.. هل تنتهي إلى الزّوال؟

بقلم: د. بسيم عبد العظيم عبد القادر (شاعر وناقد أكاديمي، رئيس لجنة العلاقات العربية باتحاد كتاب مصر)

يُفترض أن يكون أدباء اليوم أكثر ثقافة وعُمقًا ووعيًّا وإيمانًا بالرسالة الأدبيّة.. لأنّ الإنترنت وفّر لهم الكتب، وفضاءات النشر وسهولته، وسرعة التواصل بين الأدباء والقرّاء على حدّ السواء، وأدوات الترجمة وغيرها من الأمور التي لم يكن أدباء الأمس (قبل ظهور وشيوع الإنترنت) يتخيّلون حتى وجودها.. فهل الأدوات والوسائل التقنية صنعت الفارق بين أدباء اليوم وأدباء الأمس، لا سيما في العلاقة باللغة العربية وشغف القراءة للكتب ولأدباء الجيل الواحد؟ ربّما يحتاج الجواب إلى بعض الجرأة والشجاعة ومصارحة الذات.. لاستخلاص الفرق وأسبابه.

من منطلق تجربتي الأدبية الخاصة، أتّفق مع وجود ذلك الفرق؟ ولكنني أجد هذا الفرق لصالح الأدب العربي قبل عصر الإنترنت، حيث كان تحصيل العلم والمعرفة والثقافة يحتاج إلى جهد ووقت ومثابرة، لا يقدر عليها ولا يصبر على مشقّاتها إلّا من أوتوا قدرات خاصة من الأدباء والمثقفين والمفكّرين، أمّا اليوم فإنّه للأسف الشديد نجد متأدّبي اليوم – ولا أقول أدباء اليوم – ذوي ثقافة ضحلة ومحصِّلة علمية وأدبية هشّة لا تسعفهم على الكتابة الجادة ولا على الإبداع الأدبي الراقي الأصيل.

فلو نظرنا إلى أدباء العرب الذين أسهموا في بناء النهضة الأدبية العربية من أمثال: العقاد، المازني، عبد الرحمن شكري أصحاب “مدرسة الديوان” لوجدنا ثقافة عربية أصيلة من جهة، وثقافة غربية مكتسبة أثّرت في نتاجهم الأدبي والنقدي من جهة أخرى.

وقبلهم كان: البارودي أحمد تيمور، محمود تيمور، أحمد شوقي، حافظ إبراهيم.. ذوي ثقافة عربية أصيلة حصّلوها من خلال الكتب فضلا عن المخطوطات العربية، ومن نال جانبا من الثقافة الغربية رأيناه يبدع ألوانا جديدة في الأدب العربي كما فعل أمير الشعراء “أحمد شوقي” في المسرح الشعري وفي كتابة الشعر للأطفال متأثِّرا بالأدب الفرنسي.

كما نجد التّزاوج والامتزاج بين الثقافة العربية الأصيلة والثقافة الغربية متمثِّلة في نتاج عميد الأدب العربي الدكتور “طه حسين” الأدبي والنقدي على حدٍّ سواء، وكذلك الدكاترة: زكي مبارك، محمد وحسين هيكل صاحب رواية “زينب”، أول رواية عربية، ويحيى حقي صاحب “قنديل أمّ هاشم” وغيرهم من كبار الأدباء الذين جمعوا بين الثقافتين العربية والغربية فأنتجوا لنا أدبا راقيا ما زلنا نقتات عليه في ثقافتنا الأدبية وتشكيل وعينا الأدبي، كما أسهموا في تطوير اللغة العربية والأسلوب الأدبي.

وهناك أدباء تضلّعوا من الثقافة العربية وضربوا فيها بسهم وافر مثل “مصطفى صادق الرافعي” الذي كان شاعرا وكاتبا مبدعا ترك بصمة واضحة في النّثر الفني العربي بأسلوبه الفريد، ومثله “مصطفى لطفي المنفلوطي” في أدبه القصصي الفريد سواء منه المعرب والإنشائي، ومنهم من وقف أمام دُعاة التغريب في الثقافة والأدب العربي مثل الشيخ “محمود شاكر”، وقد نال جائزة “الملك فيصل” العالمية قبل وفاته عن كتابه الرائد عن “المتنبي”.

هذا فضلا عن الأجيال اللاّحقة من الأساتذة الذين أسهموا في النهضة الأدبية والنقدية مثل “محمد غنيمي هلال” رائد الدراسات الأدبية المقارنة في مصر، وأستاذي الدكتور الطاهر “أحمد مكي”، وأستاذي الدكتور “محمود علي مكي”، والدكتور “أحمد هيكل”، والدكتور “عز الدين إسماعيل”، والدكتور “فتحي أبو عيسى” والدكتور “محمد أبو موسى”، والأخيران من علماء الأزهر الشريف ومن النُّقاد الأصُلاء.

ومن علماء الدين الإسلامي واللغة العربية ذوي الأساليب الراقية الذين أسهموا في ميادين التفسير والعلوم اللغوية، نلتقي بالشيخ “محمد متولي الشعراوي” والشيخ “محمد الغزالي” والدكتور “محمد عمارة” والدكتور “رمضان عبد التواب” والدكتور “عبد الصبور شاهين” وغيرهم مِمّن تركوا لنا تراثا دينيا وأدبيا ولغويا ترك بصماته على جيلنا، وما تزال الأجيال اللاّحقة تنهل من علومهم وتستقي من نميرهم العذب.

وقد درج جيلنا على خُطى هؤلاء العلماء والأدباء والنُّقاد، واقتدى بهم واقتفى آثارهم ونهل من معينهم الثرّ، فقلَّ أن تجد من جيلنا من لا يقتني مكتبة ورقية في مختلف العلوم والمعارف والفنون وألوان الأدب والثقافة العربية والأجنبية، وقد كنّا نتنافس في اقتناء الكتب منذ أيام الطلب.. وبعد تخرّجنا والتحاقنا بالجامعة وذلك على مدار العام، فيّخبر بعضنا بعضا بالجديد من كتب التراث العربي المُحقّقة التي يطبعها مجمع اللغة العربية بـ “القاهرة” أو كبرى المكتبات المصرية، ويزداد نشاطنا في اقتناء الكتب والتنافس في ذلك أيام “معرض القاهرة الدولي للكتاب”، حيث نتسابق إلى أجنحة دول المغرب العربي بصفة خاصة فنقتني الجديد من إصداراتها في ليبيا وتونس والجزائر والمغرب، بالإضافة إلى أجنحة الدول العربية الأخرى كالعراق وسوريا ولبنان ودول الخليج العربي وبخاصة السعودية والكويت وعمان، مِمّا لا يتيّسر لنا طوال العام.

وأذكر أنّ أستاذي المرحوم الدكتور “الطاهر مكي” زارني في منزلي منذ حوالي أربعين عاما فأثنى على مكتبتي وقال لي: إنّني أزور بعض الأساتذة فلا أجد عندهم مثل هذه المكتبة، وقد تكرّر الأمر نفسه مع أستاذي الدكتور “إبراهيم عوض”.

ويرحم الله أخي الحبيب الدكتور “إبراهيم محمود سليمان” الذي كان يشجعني على اقتناء الكتب في شتّى فنون اللغة العربية وعلومها وفي الثقافة العربية والإسلامية إيمانا منّا بشمولية الثقافة العربية والإسلامية وموسوعيّتها، فقد كنا نتابع السلاسل الأدبية والثقافية مثل: عالم المعرفة، المسرح العالمي، والمجلاّت الأدبية والثقافية مثل: الفيصل، المجلة العربية، العربي، الهلال وغيرها، إضافة إلى المجلات النقدية المحكمة مثل مجلة: فصول المصرية، عالم الفكر الكويتية.

أمّا اليوم وبعد شيوع ثقافة الإنترنت فقد قلّ اعتماد الأدباء والكتاب والمثقفين، بل والنقاد والباحثين على الكتب الورقية وشاع استخدامهم للكتب الإلكترونية، مِمّا أثّر على مستواهم الأدبي والنقدي، فصرنا نجد باحثين يحصلون على الماجستير والدكتوراه وبضاعتهم من الكتب مزجاة، بل إنّ بعضهم لا يمتلك من الكتب سوى ما درسه في الجامعة من كتب ومذكّرات جامعيّة لا تسمن ولا تغني من جوع، وهذا مِمّا يبعث على الرّثاء والشفقة على هؤلاء وعلى مستقبلنا الثقافي وبخاصة في الجامعات العربية.

الشكر كل الشكر لمجلة الأيام الجزائرية على تبنّيها مثل هذه الموضوعات المهمّة في ملفاتها الثقافية، حرصا منها على نشر الوعي وتبنّي الثقافة الجادة التي تسهم في الارتقاء بالثقافة العربية والأدب العربي.

 

جنان الحسن
جنان الحسن (كاتبة من سورية)

العصر الورقي أنجب أدباء عظماء.. فماذا عن العصر الرّقمي؟

بقلم: جنان الحسن (كاتبة من سورية)

لطالما كان الأدب هو انعكاس لمرئيات الحياة بتفاصيلها الدقيقة كائنة كانت أم كما يجب لها أن تكون.. ولطالما اختلفت الآراء حول معاناة الأدباء والكتّاب سابقا، وبين سهولة ما يمرّون به اليوم في إيصال الفكرة والكتاب والإنتاج الأدبي إلى القارئ في ظل الثورة العلمية التي حوّلت الكتاب والفكرة من مطبوع ورقي إلى مقروء رقمي.. هذه المقارنة بالدرجة الأولى تقع على عاتق القارئ ما بين الإيجابيات والسلبيات، كونه المتلقّي للحدث…

للكتاب قديما مكانة مُصانة جدا وكذا حال الأديب لأنّه لا يصل إلى مرحلة الشّهرة والانتشار بهذه السهولة التي يحصل عليها الكثيرون اليوم في عالم الميديا.. كان الكتّاب قديما يحتاجون إلى توصيات من شخصيات معروفة كي يتمّ النشر لهم في الصحف والمجلات.. في إحدى مقابلاته التلفزيونية التي أجراها يوماً عن أول مقالة كتبها في حياته، يقول الأديب الكبير “نجيب محفوظ”: أرسلت مقالاً إلى جريدة معروفة وأرفقتها برسالة تقول بأنّني من طرف فلان حتى تُقبل وتُنشر في جريدتهم” (التصريح مأخوذ من دراسة أدبية على الإنترنت عن الأديب الكبير نجيب محفوظ). تُرى لو كان الأديب الرّاحل حيًّا اليوم، هل كان سيحتاج إلى مثل هذه التوصية؟

كما عانى الأدباء قديما من صعوبة التّواصل مع دور النشر القليلة نوعا ما آنذاك، وصعوبة إيصال مخطوطاتهم إليها لكثرة الموانع التي تبدأ بالحدود المرسومة بين الدول، لتنتهي عند العوائق المادية عند الغالبية العظمى منهم والكثير غيرها هذه الأمور.. وتبقى الصعوبة الأهمّ لديهم أيضا كقرّاء هؤلاء الأدباء أنفسهم، في صعوبة الحصول على الكتب التي تغذّي الأفكار لديهم، تنزع الشك منها أو تضع اليقين.. ورغم كل هذه الصعوبات خُلِّدت أسماء كثير من الأدباء..

وأعود هنا لأؤكد فكرة أنّ للكتاب الورقي قديما قيمة مصانة ومكانة كبيرة ساعدت على ذلك.. أمّا حاليا، فقد فتحت ثورة الإنترنت الباب واسعا أمام كلّ من يملك موهبة الكتابة بغضّ النظر عند إمكانياته الأدبية من عدمها، ومكنّت الجميع من التواصل مع ما يكتبه الأخرون، وجعلت الكتاب الرقمي في متناول الأيادي..

وهذا الإنتاج الكبير فتح الأبواب لإنشاء الكثير من منصّات النشر في عالمنا العربي التي أعطت المزيد من الحريات في التعبير الفكري والأدبي، وهذه الميزة تُحسب لها، فقد افتقدها أدباء الزمن الفائت بسبب الرقابة الصارمة والقيود الأخلاقية الكبيرة على نتاجهم الأدبي، حيث كانوا يلامسون الواقع من بعيد وبشكل مجازي..

في حين يرى بعض الأدباء بأنّ هذه التكنولوجيا، التي يتحكّم بها أشخاص مُحدّدين، هي أشدّ خطرا على حرية الأديب من قيود المجتمع الذي يرضخ لتلك القيود هو أيضا.. ومنهم الأديب الإنكليزي الأمريكي “ألدوس هكسلي” الذي تطرّق بعمق لهذه الفكرة في كتابه “عالم جديد رائع من منظور جديد”.

لكن بالمقابل أيضا، فإنّ سهولة هذا النشر وكثافته قد خلطت الأوراق تماما ومنحت الكثير من الأقلام المتواضعة صفة كاتب أو شاعر، وأصبح الكاتب يُقيّم بحسب عدد مشاركات أعماله وبعدد المتابعين له.. إضافة إلى أنّ هذا الزخم في الإنتاج قد أفرغ الكثير من الأعمال الأدبية من محتواها بتغير القيم الجمالية والأخلاقية في المجتمعات.. ما جعل كثير من الأعمال السطحية تطفو على حساب القيمة والعمق.. وربّما كان هذا بسبب اختلاف الجيل ومشاكله واختلاف طرق التّعاطي معها..

بالمُحصّلة يبقى لكليهما إيجابيات وسلبيات، ونبقى نحن لا نملك إيقاف عجلة العلم عن تقديم خدماتها في كل المجالات، ويبقى القارئ هنا هو سيّد الموقف، ومن يحدّد البقاء لمن سيكون…؟

ربما لهذا خُلِّدت أسماء كثيرة من الماضي في حين لا تحتفظ ذاكرة اليوم سوى بقلة من الحاضر.. ولكن يبقى هنا السؤال الأهمّ: هل أصبح الناس اليوم أكثر إقبالا على القراءة من ذي قبل، بعد أن توفّر الكتاب الرقمي بين أيدي الجميع؟ … ربما هو أمر سوف يحدده الزمن القادم؟

 

حسن عطية جلنبو
حسن عطية جلنبو (شاعر وكاتب وناقد من الأردن)

كارثة أدبية توشك أن تعصف بحاضرنا الأدبي!

بقلم: حسن عطية جلنبو (شاعر وكاتب وناقد من الأردن)

لعلّ البون شاسعٌ جدا بين أدباء الأمس وأدباء اليوم، فليس خافيا على أحد مستوى الانحدار الثقافي الذي يعتري الساحة الثقافية اليوم، على نحو أسهَم في زيادة الغثِّ، وتفوقه على السّمين في كثير من الأحيان، وبخاصة في ظلِّ غياب “حركة نقدية إلكترونية” إذا جاز التعبير، حيث أصبح الفضاء الإلكتروني هو الوسيلة الأولى والأسرع لنشر الأدب وتلقّيه على نحو سواء، في وقت صار الهدف من النشر هو الاستعراض الأدائي والمهاري وجمع أكبر عدد من التعليقات، و”الإعجابات” على حساب تجويد القطعة الأدبية (شعرا ونثرا) وتنقيحها وتدقيقها، وإخراجها على نحو يليق بالناشر والمتلقّي والمشهد الثقافي معا.

كان الأدب قديما علامة تميّز واقتدار، ولم تكن لفظة (أديب) تُطلق إلّا على من يستحقها مكانةً ونتاجا ودُربةً وأداءً، في حين أتاح لنا الفضاء الإلكتروني أن نُسمّي أنفسنا كما نشاء، ونتقنع بأيّ قناع نريده، بلا حسيب ولا رقيب.

أعود إلى غياب “النقد الإلكتروني” الحقيقي بسبب انشغال النقّاد الحقيقيين بأبحاثهم ودراساتهم وطلبتهم وأدائهم الأكاديمي في الجامعات والمؤسسات الأدبية، وقيامهم بدراسة وتحليل أداء كُتّاب وأدباء وشعراء في الغالب ليسوا مِمّن ينشرون نتاجهم في الفضاء الإلكتروني، من أدباء الطبقة الأولى التي ما تزال تعتمد على النشر الورقي، بعيدا عن الظهور الإلكتروني، الأمر الذي أسهم في تشكيل ظاهرة “شبه نقدية” تقوم على المجاملات الشخصية والعلاقات الخاصة، والمصالح المشتركة، بحيث أصبح الشاعر أو القاصّ والروائي يرسل نتاجه إلى بعض النقاد ليقوموا بدراسته وتحليله (مدحا وتمجيدا) مع عدم قبول أيّ نوع من النقد الحقيقي أو تحديد مواضع الضعف والخلل وإبراز السّقطات والعيوب أو الأخطاء النحوية والعروضية والصياغية وما إلى ذلك، وقد تنشب عداوة بين الطرفين في حال كان الناقد واعيا وصريحا يتعامل مع القطعة الأدبية وليس مع صاحبها.

إنّ بروز هذا الضرب من النقد المُشوَّه غير العلمي أدّى بالضرورة إلى وجود “أشباه أدباء” يتسيَّدون المشهد الثقافي، ويسيطرون عليه في مختلف المحافل، وهذا بالضرورة أدّى إلى انخفاض جودة العمل الأدبي، والذي بدوره سوف يسهم في رسم ملامح انطباع عام سلبي في حال الاتّكاء عليه في تحديد الصورة الأدبية لهذه المرحلة مستقبلا، حين يصبح نتاجنا الحالي جزءا من التاريخ يضاف إلى تاريخ الأدب في العصور السابقة، وقد يجد الجيل القادم مئات الدواوين الشعرية التي تُسمّى شعرا وما هي بالشِّعر، أو تلك التي يقع فيها صاحبها بأخطاء عروضية ونحوية ولغوية وصياغيّة، تحت ذريعة الحداثة والتجديد اللذين لا يعنيان ذلك بكلّ حال.

نحن حقيقة أمام واقع أدبي غير مبشّر بخير إذا استمرّ الأمر على هذه الشاكلة، وما دام المبدع المعاصر يرفض كافّة أشكال النقد والتصويب والتعديل، ويتعامل مع الآخرين على أنه “يجيءُ بما لم تستطعه الأوائل”.

وعطفا على الشق الثاني والمتعلق بالأدب قبل التكنولوجيا وبعدها، فأؤكد على أنّ التكنولوجيا والإنترنت لهما دور كبير في تسهيل النشر الأدبي، وتيسير الوصول إلى المعلومة التي كان من الصعب الحصول عليها سابقا دون اقتناء أو استعارة، لم تكن متاحة للجميع سابقا، فلم يكن بمقدور الجميع أن يصل إلى أيّ كتاب بسهولة والاطلاع عليه، إمّا بسبب عدم القدرة على اقتنائه، أو بسبب جغرافية المكان وقربه من مراكز المدن الثقافية أو بعده عنها، في حين أصبح بالمقدور الآن الاطلاع على كامل النتاج الأدبي عربيا وعالميا منذ بداية التدوين التاريخي والأدبي إلى اليوم.. بكبسة زر صغيرة، الأمر الذي كان من المفروض أن ينعكس إيجابا على النتاج الأدبي المعاصر ليجيء مُطعَّما بثقافة الأوّلين ومدعَّما بنتاجهم التاريخي الذي وصل إلينا، إلّا أن واقع الأمر يقول إنّ التكنولوجيا كانت وبالا علينا وعلى الأدب بالمعنى الدّقيق، حيث أصبح الكثيرون يستسهلون الوصول إلى المعلومة ونسخها دون تمحيص منهم وتدقيق، وتحليل ودراسة واستنتاج وغير ذلك من متطلبات الدرس الأدبي الواعي، إضافة إلى ما مُنيت به الساحة الثقافية من بروز الكثير من المتطفلين على الأدب الذين أتاحت لهم التكنولوجيا ادّعاء الأدب، وعرض نتاج لا يرقى إلى مستوى الأدب ولا يلبّي أدنى متطلباته.

إننا إزاء كارثة أدبية توشك أن تعصف بحاضرنا الأدبي، وتعكس مشهدا ثقافيا أدبيا متدنِّيا، سيكون مَثارا لخجلة الأجيال، حين يصبح إطارا عاما لهذا العصر يُعرض على الجيل القادم على أنه واقع عصرنا الحالي وأثرُنا في المشهد الثقافي التاريخي العام.

 

طلعت قديح
طلعت قديح (شاعر وناقد فلسطيني من غزَّة)

“فن الحياة” صنع الاختلاف في الأدب..

هل خان الورثة آباءهم؟

بقلم: طلعت قديح (شاعر وناقد فلسطيني من غزَّة)

الافتراض كلمة احتماليّة المسار والتأرجح بين القبول والرفض أو الصحة من عدمها. لذا فإنّ القول: “يُفترض أن يكون أدباء اليوم أكثر ثقافة عُمقًا ووعيًّا وإيمانًا بالرسالة الأدبيّة.. لأنّ الإنترنت وفّر لهم الكتب، وفضاءات النشر وسهولته، وسرعة التواصل بين الأدباء والقرّاء على حدّ السواء، وأدوات الترجمة وغيرها من الأمور التي لم يكن أدباء الأمس (قبل ظهور وشيوع الأنترنت) يتخيّلون حتى وجودها.. فهل الأدوات والوسائل التقنية صنعت الفارق بين أدباء اليوم وأدباء الأمس، لا سيما في العلاقة باللغة العربية وشغف القراءة للكتب ولأدباء الجيل الواحد؟”. هذا القول يفتح العديد من الجوانب في رؤية هذه القضية، ولي وجهة نظر أراها قريبة من أفكار تحاول تلمس الطريق:

الثقافة وإن يتم اكتسابها إلّا أنّ التّأطير الحقيقي لها يأتي ضمن الشخصية الفكرية لذات الأديب، وهذا الأمر لا يتأتّى إلّا من خلال التركيبة العميقة لكينونة الأديب، قد تجود الأزمان بأدباء أجلّ وأجود لكنها لا تعمل ذلك وفقا لتعداد زمني فقط.

إنّني على قناعة أن الشرط الوحيد للكتابة الأدبية هو الاقتدار والتمكُّن ضمن المشروع الكتابي، فلا مكان لأنصاف المواهب، لأنّ الحال لم يكن يحتملها، فقد كان التّجويد سمة مرحلة ذهبيّة، أخرجت لنا آباء حقيقيين للأدب، فلم يكن على سبيل المثال أحد يتقدّم لنشر كتابته إلّا حين يعلم في ذاته أنّه شيء يستحق النّشر، ليس كِبرا أو مزاجية، بل لأنّه يعي ثقل أمانة الكلمة بفكره وعلو لغته، ليصبح حبره العلامة المسجَّلة ولا شيء غيره.

إنّني أعتقد أنّ التواصل مع القرّاء (من خلال النشر) ليس من مهام الأديب، هذا إن أردنا مشهدا حقيقيا، فالعلاقة مع القرّاء تكون مع الورق، أو في مناسبات حقيقية وليست مجرد “برستيج” كتوقيع الكتب! هذا التواصل تكون رعايته في المشهد الأدبي الصحي من خلال مؤسسات حقيقية راعية للأدب كدُور النشر أو مؤسسات متخصّصة، حيث تتعدّد المهام من النشر إلى الترجمة إلى كثير من محدّدات الرؤية الصحيحة للعمل الأدبي.

هناك سؤال يطرح نفسه: هل يصدر أدباء اليوم حُكما نقديًّا غير مهني على نتاج أدباء الأمس؟ إنني أرى أنّ الإجابة هنا هي التي تحدِّد مقدار الاتساع والانغلاق بين الأجيال، إن لم يكن تضعه في نقطة فاصلة!

علينا أن ندرك أنّ مُسمّى “الأديب” يعني القدرة على إتيان الفعل الفكري والثقافي دون هيبة الكتابة، الأمر عندي يتعلّق بمدى توفّر الأطروحة لمناقشة موضوع الكتابة.

وإن أردتُ تشبيه ما يحدث أو ما نناقشه في عالم الأدب بين اليوم والأمس، فإنني أقترب في تشبيهي بالطرب الأصيل وأغاني المهرجانات، الأمس: عتاده الصوت والكلمة واللّحن، واليوم: عتاده الصورة والصوت والحركة والإعلام التقني، وهذا يوسّع الفجوة بين المرحلتين أو الحالين.

ولنطرق التفاتة أخرى؛ إنّني أعتقد أنّ مجرد انتقال الأديب من الورق إلى استخدام الحاسوب، يُعدّ مراوغة رغم ما يتضمن ذلك من فوائد تقنية، إلّا أنّ المَلمح التاريخي يُحدِث شرخا في ذهنيّة التعامل مع الورق والحاسوب، فبعض العلاقات تأثيرها لا يكون ظاهرا إلّا في مكنون العمل، لن يحسّه إلا الأديب نفسه.

إنني مدرك لشيء في هذا المجال؛ أنّ الاختلاف بين أدباء الأمس واليوم هو اختلاف في إجابة سؤال مفصلي: كيف نحيا؟

من يعتبر الأدب معركة حياتية ضمن عملية الخلق الأدبي، يندرج في حقيقته التكوينية في الحياة.

أمّا من يجعل الأدب ضمن دوائر الحياة دون أن تكون هي الدائرة الأساس، فهذا مجرد مقلِّد مُتّبع لا مبدعا أصيلا، وهنا ندخل في التّرف الفكري والأصالة الفكرية.

إذًا؛ الأساس هو الوعي، الباعث الحقيقي للمسيرة الأدبية، وثانيها هي الرقابة الذاتية التي تصبح المِقوَد الموجّه لطريقة العمل ومسارها ومبتغاها. وما ينتج من الشغف الداخلي المحفّز للإنتاج الكتابي.

ولا ننسى أنّ النظرة الخاصة للأديب عن توصيفه لمعنى الحياة، هي من تُصوِّب بوصلته في طريقه الكتابي، ومن خلال ذلك يكتشف ذاته، دون تفلُّتٍ لاكتشافات غير أصيلة في حياة الأديب.

 

سامر المعاني e1714003808863
بقلم: سامر المعاني (كاتب من الأردن)

بوصلة الإبداع انحرفت عن اتّجاه الأصالة!

بقلم: سامر المعاني (كاتب من الأردن)

إنّ الحديث عن الفرق بين أدب الأمس وأدب اليوم ودور الكتاب الورقي في عصر الأنترنت.. بحاجة الى أن نعترف بأنّنا في أزمة حقيقية بسطوة واحد على الأخر.

لقد كان الكتاب المرجع الأول للبحث والمراجع والمطالعة، ولقد كان الكتاب ثروة حقيقيّة، فكان يتمثّل بثقافة الفرد والمجتمع، وكان صاحب مقام رفيع يتغنّى به الكُتّاب والقرّاء.

بينما من جهة أخرى، تراجع حضور الكتاب في حضرة العولمة والإنترنت، وأصبح بديلا للورق والقلم والكتاب، من خلال سهولة الحصول عليه وبدون تكلفة وجهد كبير.

رغم صعوبة التّواصل والانتقال في زمن ما قبل الأنترنت، غير أنّ الكاتب الحقيقي كان ساطعا كالشمس ولديه فرص كبيرة للتّواجد في المعارض الدولية والمكتبات العامة.. وحتى يأخذ نصيبه في النقد والإشادة، كان مرتبطا بالصحافة والسينما والترجمة.. بينما في الوقت الحالي ورغم سهولة الوصول للأشخاص والمؤسسات اختلط الحابل بالنابل كما يقال.

لهذا فإنّ الأدب في العصر الحديث أصبح يُروّج له من خلال العالم الأزرق، ومن خلال التطبيقات التكنولوجية في غياب الرقابة والمتابعة والنقد الحصيف، فاختلط على القُرّاء وجمهور المتلقّين مفاهيم لها علاقة بالتّجنيس الأدبي، مِمّا أتعب النقاد تماما كما أتعب القارئ الذي يبحث عن العمل الجيّد.. وظهرت هناك أعمال أدبية سطحية ميّعت المشهد الثقافي الذي اختلّت موازين تقييمه فأصبح عدد “الإعجابات” والتعليقات والمتابعين.. ركيزة لتقييم الكاتب والعمل الأدبي.

الأديب والأدب ليس بعيدا عن التناقضات والمقارنات وانحياز العامّة إلى التكنولوجيا، وأصبح الكِتاب قليل الحضور ومختصَرا على طبقة المبدعين والكُتّاب، وقد ظهرت أعمال حرّفت بوصلة الإبداع والفروق بين الكاتب وتسويق الكتاب..

 

سماهر السيايده
سماهر السيايده (كاتبة وروائية من الأردن)

رغم افتقادنا لرائحة الحبر..

المسيرة الأدبية العربية ما زالت بخير

بقلم: سماهر السيايده (كاتبة وروائية من الأردن)

إنّ الأدب هو جوهر الأمم وروحها، بل قلبها الدّافق خلال مسيرتها عبر الأجيال، فهو لكل أمّة مرآة تعكس واقعها، وقلم يؤرّخ لمسيرتها ودورها في الحياة على هذه البسيطة.

إنّ دور الأدب ومدى فاعليّته في النّماء والرّقي لأيّة أمّة مُتغيّر بتغيّر الظروف والأحداث التي تمرّ بها، وكذلك إدراك أفرادها بأهميته، ودوره الفاعل في بث الوعي، وتغيير نظرتهم إلى الحياة.

ولا بد من الإشارة إلى دور صُنّاع الأدب والثقافة الذين هم الأساس، والمحور الرئيس في عملية التنمية الثقافية، ورفع القيمة الحضارية للمجتمع، فقد برز في كل حقبة مجموعة من الأدباء الذين كان لهم دور هام، وفعل له التأثير الأكبر على أرض الواقع، لذلك خلدَت أسماؤهم وما تزال في ذاكرة الوجود بما قدّموا من أعمال أدبية من شعر ونثر ساهمت ترسيخ هويّة الأمّة بأداة اللغة، وجماليّات مفرداتها، وما يزال صوت “حافظ إبراهيم” صادحا حين قال:

أنا البحر في أحشائه الدر كامن — فهل سألوا الغواص عن صدفاتي

فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسني — ومنكم وإن عز الدواء أساتي

وها هي روايات “نجيب محفوظ” التي أعود إليها كلما أحسست بتعثُّر كلماتي على واقع الحياة العسير، لأنني وبكل بساطة أتوق إلى تلك الكلمات التي تبحر بي في عالم الإبداع، وكأنّني كلما قرأتها أعود إلى أصالة اللغة وسحرها، وأستذكر أحداث روايات: زقاق المدق، بين القصرين، اللص والكلاب، وغيرها الكثير من الروايات التي أصبحت أفلاما ومسلسلاتٍ درامية تابعناها بشغف.. فقد نجحت لأنّها كانت محاكاة لما يمرّ به مجتمعنا، وعرضا تفصيليًّا لواقعه المتذبذب ما بين شدّ وجذب.

وما زال “أنيس منصور” يحرّك بي كل ساكن حينما أعود إلى “أرواح وأشباح”، بينما أتأمّل إبداع وسحر كلماته حين يقول: “القلب لا عقل له، والعقل لا قلب له، هى لديها عقل لا يدق، وهو لديه قلب لا يرى، وهذه المأساة الأبدية”. أو قوله: “إذا فاتك شيء فقد يذهب إلى غيرك ويحمل له السعادة، فلتفرح لفرحه، ولا تحزن على مافاتك، فهل يعيد الحزن ما فقدت؟”.

إنّه تاريخنا الأدبي المليء بالحكمة، والكلمات المضيئة منذ العصر الجاهلي الزّاخر بالشعر، والمعلّقات التي ما زلنا نردّدها ونحفظ بعضا منها، إلى ما تبع ذلك من فجر الإسلام، وما جاء به قرآننا الكريم من هداية للبشرية، وإعجاز بلاغي لا موضع مقارنة له مع أيّ ضرب من ضروب الأدب، فهو الأسمى والأرفع مكانة في العقول والقلوب.

وما تلا ذلك من عصور مختلفة، لكل عصر ما يمتاز به من هوية أدبية، حتى عصرنا الحديث الذي جمع بين الإثنين؛ سطوة التكنولوجيا التي لها من الإيجابيات كما لها من السلبيات، والأعمال الأدبية الزاخرة لكتّاب على شاكلة واحدة يقلِّدون بعضهم بعضا، إلّا ما ندر مِمّن تميّز منهم فكان رافدًا للحركة الأدبية التي ذاع شأنها للخاصة من رُوّاد الأدب.

فهناك فروق عديدة بين أدباء الأمس وأدبائنا اليوم مع ظهور الإنترنت ووسائل التواصل، حيث كان الإعتماد على الكتاب الورقي الذي زخرت به مكتباتنا العربية أساسا ومرجعا للأدباء والباحثين والقرّاء على اختلاف أطيافهم، حيث حرص الأدباء حينها على تقديم كل ما له قيمة أدبية، فلا نجد ما هو دون ذلك في المؤلَّفات القديمة، فكان الأدب للأدب.

أمّا في عصرنا ومع انتشار الوسائل الحديثة فقد أصبح الانترنت مرجعا، ووسيلة نشر للأعمال الأدبية المختلفة، حيث فقدنا رونق الكتاب، ورائحة الحبر إبّان المجد الكتابي.

وكذلك أسهم الانترنت بانتشار الكثير من المُتشاعرين، وأنصاف الأدباء وسط متلقّين أضاعوا الذوق الأدبي في خضمّ الترفيه التكنولوجي، فلم يميّزوا بين غث وسمين، فاختلط الحابل بالنابل، في حين لم يكن هذا الأمر شائعا في العصور القديمة والذّوق سليم، والسليقة بخير وعافية لدى العامة، فلم يجرؤ من هو ليس أهلٌ للأدب أن يسمّي نفسه أديبا.

وكذلك انتشرت ظاهرة السرقات الأدبية، وعمليات القصّ واللصق، وما أصبح الأدب خالصا للأدب، فقد طغى هدف الربح المادي على القيمة الأدبية للكتاب.

ربّما لا أكون مبالغة في وصف الحقيقة، ومع ذلك لا أنفي وجود من لهم الفضل في الإبقاء على شيء من هويتنا الثقافية والأدبية، وتقديم نصوص إبداعية، ومنشورات لها الفضل في تعزيز المسيرة الأدبية العربية التي ما زالت بخير مهما حاولت التكنولوجيا، وتقنيات الغرب طمسها.

 

رولا خالد غانم
د. رولا خالد غانم (روائية وكاتبة من طولكرم – فلسطين)

رسالة من تحت القصف في “غزّة”..

أدب برائحة الدم

بقلم: د. رولا خالد غانم (روائية وكاتبة من طولكرم – فلسطين)

غزّة التي تسكب المهج والأرواح وتنام على هدير الدبابات والطائرات تجد متّسعا للكتابة والإبداع، فالأدب والفن هما الجسران الأقوى والأمتن والأهم لتوصيل رسائل الشعوب، مرآة المجتمع والمسرح الذي يستطيع الكاتب أن يسكب من خلاله مهجة روحه وما يجيش في صدره ويعتري شعبه من هموم.. والكاتب ابن بيئته ومن الطبيعي أن يعبّر عمّا يعتري شعبه من هموم وأن يكون لسان حاله، كما أنّ الأدب ملاذ آمن وتخدير لذيذ حين تكون الحياة مستحيلة..

أدب المدوّنات لتوثيق الحرب على غزّة

ولا شك بأنّ للأدب أهميّة كبيرة في التّعبير عن أبعاد الإنسان والمجتمع النفسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وقد كُتِبت أعمال كثيرة.. وتأثّر “أدب غزة” في الحرب، وكان في مجمله أدبا إنسانيا، وربّما يكون من الصّعب الآن إحصاء الأعمال الأدبية التي كُتِبت عن الحرب؛ نظرا لصعوبة المرحلة، لكن ما لفت انتباهي ظهور طُرق جديدة في التعبير عن الحرب منها: أدب المذكِّرات أو المدوّنات، فهذه الحرب المدمِّرة حرّكت مشاعر الشباب فراحوا يجسّدون المأساة على صفحاتهم الشخصية.

محمود جودة.. سأغادر مدينتي

فمثلا كتب الكاتب الشاب “محمود جودة” على صفحته الفيس بوك بعد أن قرّر مغادرة “غزّة”: “سأُغادر هذه المدينة، مثل تعبٍ ينساب عن الجسد بعد اغتسال ساخن، سوف أتسحّب من شوارعها وحدائقها مثل أسورة واسعة في معصم فتاة، في سهوةِ رقصةِ حزنٍ مفاجئ.

مُجبرون نحن على التّمايل مع الريح، كشجرِ الحقول لا مشورة له ولا حق في الاعتراض على جفاف حلقه سوى بالذبول المميت، وإن فعل ومات، قصوه بمنجلٍ حادٍ ليمحوا أثره.

سأغادر وكلّي أسف على الهزيمة، فلم أكن أريد سوى أن تصدح الحناجر بالحق، وأن تعلو أعناق الفقراء دون ذلّ منتصف الشهر، وأن يصحو العنب في ماء النبيذ، فتختنق أعناق الزجاجات، رافضة فكرة أن يتحوّل عرق العمال إلى قهقهاتٍ في سهرات الأغنياء.

كل أشياء المدينة تشعر بالتّعب إلّا الأغبياء، وجارتنا التي ما انفكّت تصرخ على الأبناء، تحضّهم على حفظ نشيد “موطني”، وتتودّد لزوجها أن يجلب لها غسّالة مُستعملة.

سأغادر هذه المدينة التي تسابق الريح في طريق مفتوح، وفي مطار الوداع، سأشتهي العودة، وكأس القهوة فوق الأرصفة الصامتة، وربما أبكي، وفي مطار التّيه، في لحظة الهبوط سأسكر كثيرًا كي أنسى، لكنني أخشى من نصيحة صديق سِكّير قال لي في نشوةِ سُكرٍ: احذر الشُّرب في لحظاتِ الحنين، فإن الخمر مفتاح الذكريات!

إلى لقاءٍ بعيد، يا مدينة تخاف من ضحكات نسائها، وتنوح في أحضانهن من تعب الأنين!”.

آلاء قطراي.. أيّها الفلسطيني لا تمت بهدوء!

وكتبت الدكتورة “آلاء قطراي”، والتي فقدت عائلتها وأولادها في الحرب، واصفة أهوال الحرب على صفحتها الفيس بوك: “عبر صاروخٌ من أمامي، وأضاء زجاج النافذة المكسور، ولم يتحرك جسدي من هول الضوء، اكتشفت أنّني تيبّست أمام ذلك الإشعاع الهائل، لم يكن لونه أحمرا، أعرف تماما لون الدم الطازج على الطرقات وفوق الجدران، ولم يكن برتقاليا فإني أدرك لون الغروب الذي كنتُ أحبّ رؤيته من شرفتي المطلّة على البحر، إنّه مزيجٌ من الأحمر والبرتقاليّ، لون غريب لا يشبه الضوء في انعكاسه، لون يتّكئ علينا وهو يقول لنا: لا تمُت أيها الفلسطيني بهدوء، مُت بصَخَبْ.

نموتُ بصخب عالٍ يشبه هذه الانفجارات العالية تحت أقدامنا، لا تشهد الأرواح الصاعدة إلى السماء ذلك النزاع أثناء انقباض الروح، لا يلتف المحبّون حول الذين تخرج أرواحهم في نزعها الأخير، صاروخ واحد كالذي أضاء الآن أمامي كفيل بإنهاء أيّ عراك لنزاع روحيّ، أدرك الآن ماهية الضوء الأخير!

(يخبرني الكثيرون أنّ الذين يستشهدون لا يشعرون بالصاروخ، ولا يسمعون صوته)، يخفّفون عني بقولهم هذا، أعيد استرجاع مقولتهم تلك في ذهني المذهول، أنا تلك التي لا تستطيع الحراك للهرب، وأقول في نفسي لا بأس (آلاء) لقد رأيتِ الصاروخ وهو يعبر من أمامكِ، إذًا أنت لازلتِ على قيد الحياة! يبدو حوارًا مؤلمًا في قلبي المفجوع! لكنّه حصل..

كنت سأخبر أمّي بأنّ عيوني أصبحت تؤلمني، لكنني تراجعت، خفت أن تخاف عليّ، هذه المرّة كنت سأخبرها أنني لم أعد أستطيع الهرب عند سماع انفجارٍ قريب، أصبح جسدي لا يطاوعني في الخوف، أو ربّما صدقا لم أعد أخاف، وهل هذه مسألة مخيفة؟ إنِّني لم أعد أستطيع الخوف، أو ربما لم يعد هنالك شيءٌ أخاف عليه!

بعد قليل أقرأ خبرا عبر “التليجرام”: قصف منزل قريب مليءٌ بالسكان والنازحين وهنالك عشرات الشهداء تحت الأنقاض..

أقول لنفسي: “اهدئي لا بأس هم لم يشاهدوا الصاروخ ولم يسمعوا صوته، أنت فقط شاهدتِ ضوءا مزعجا، ثم سمعتُ انفجارا مدويًّا جعل آخر قطعة زجاجٍ متماسكةٍ في زاوية النافذة تسقط، وجعلك تشعرين بحرارةٍ عالية في رئتيكِ بينما دموعك تسيل فجأة وذاكرتكِ ترتجف أمام حزنك القارص، وسؤال يعضّ قلبكِ أكثر من كلّ مرّة: هل أحسّ يامن وكنان وأوركيدا وكرمل بالصاروخ؟

وأدركتِ أخيرا أنّه أصبح لديك قلب فارغ، تعبر الصواريخ من أمامه ولا يخاف!”

مريم قوش.. يا عصفوري لا تفقد رغبتك في الطيران!

وتجسّدت الإنسانية في أسمى الصوَر بين سطور الشاعرة “مريم قوش” حين عبّرت عن خوفها على عصفورها من الشظايا، فالحرب في “غزّة” لم ترحم حتى الطير والشجر، تقول “قوش”: “أقف بعدما وقعتُ والغبار يفوح من ثوبي.. أتأمل حولي: أين أذهب، أركض حافية خطوةً، خطوتين، ثم التفتُ خلفي مرة أخرى؛ لألتقّف العصفور الذي وقع من يدي لحظة القصف. اختطفَت يدي الطائرَ بسرعةٍ عن الأرض، ثم أخذتُ أركض حافيةً عكس اتجاه الدخّان والموت..

لم أشعر بشظايا الزّجاج الناعمة الساخنة وهي تخترق قدمَي، لم أدرك الكدمات التي أصابت يديّ وقدميّ، لم أشعر بصفعات اللهيب وهي تلفح وجهي، لم أشعر بدقّات قلبي المتعب وأنا أركض حافيةً، كل ما شغلني هذا العصفور الصغير الذي كنت قد حملته عن الأرض قبل القصف بلحظة واحدة. لا أريد لك أن تموت أيها الطائر، لا أريد لجناحيك اليأس، لا أريد لزغبك الناعم أن يفقد رغبته في الطيران..

وصلت البيت شاحبةَ الوجه، ترتجف يداي، تسألني أختي: الغارة حدثت بعد خروجك مباشرة.. حاولتُ الاتّصال بك مرارا.. لمَاذا لم تجيبي؟ فأجبتها: لم أسمع الجوّال، لقد غمر المخيَّمَ الضجيجُ، لم أسمع سوى صوت هذا الطائر الذي يريد الحياة.

عبد الرحيم الهبيل.. سأكتب لأقهر الموت والقلق

أمّا الدكتور والناقد “عبد الرحيم الهبيل” فقد عبّر عن حالته النفسية وعن تردّده في الكتابة في بداية الحرب، ومن ثم اللجوء إليها رغبة في البقاء، فقال: “الصدمة في البداية كبيرة وازدادت قسوة بمرور الأيام، فلم بخطر ببالي الكتابة ولا القراءة، وقلت في نفسي: لقد عدنا إلى زمن الماضي، زمن الحكاية والمشافهة.. سيذكرنا صحفي أنّنا كنّا هنا، ومِتنا هنا في تمام ساعة الموت، ولكن حين تشابهت الأخبار وضجَّت النساء من الميلاد في ساحات المستشفيات، وبكى الصغار من فقدان السكَّر، وصارت النقود تُشترى بالنقود، والبيوت لا تأمِّن العابرين من شدة الجوع والطمع والشعور بالنهايات، وحين امتلأت العقول بالكوابيس، والقلوب بالخوف، والبطون بالجوع، وجدتُ نفسي أقوم سعيا وراء الكتابة لأطرد القلق والهموم، بل رغبة منّي في الحياة والبقاء”.

وكتب “الهبيل” ثلاث قصص قصيرة الأولى بعنوان (انتظار عاشق) وفيها تخيُّلٌ للعلاقات والحالة الاجتماعية بعد انتهاء الحرب. والقصة الثانية كانت بعنوان (رحلة لا تنتهي) تعبيرًا عن طول أمد الحرب وتصويرًا لإيقاعها السريع؛ ولذلك تدفَّق فيها الفعل المضارع بوضوح. وأمّا الثالثة فكانت بعنوان (تماثيل التراب)، تعبيرًا عن التشظي في نفس المرأة وشوُّقها إلى الدفء الأسري حين رأت النكبة تتجدّد في الخيام والأزقّة.   أمّا الآن فهو يحاول صناعة عمل يقوى على حمل معاناة الفلسطيني في هذه الحرب التي تمتدّ جذورها إلى النكبة الأولى، هذا العمل سيكون بعنوان (خيام البحر).

ناصر عطا الله.. الحرب ليست نزهة في ممرّات الحياة

وعبّر الكاتب “ناصر عطا الله” عن استدراجهم للحرب دون دراية قائلا: “لم تكن نزهة في ممرّات الحياة، هذه ليست حربًا، ولم تكن! سرقت أضلاعنا من شجر الحدائق، وأنفاسنا من سُحب البيوت الآمنة، وخطواتنا من قصائدنا العاشقة، أخذتنا إلى نارها دون استشارة، ولا رغبة، ولا موعدة، فوجدنا أنفسنا في حنجرة نارها، وحجرتها الجحيم.

حاولت أن أصدق ما تقوله الطائرة، وما تثرثر به جرّافة المدن الخمس، وما تحكيه مدفعية العميان، وما ينزل من السماء سيولاً من الدماء، حاولت أن أنعي الأغاني، ورقصات الطيور في أعشاشها، لكنني فشلت بمجاراة المَقتلة، كانت أكبر بكثير من لغتي، ومعاجمي، ومن خيالي.

لا الخيال ولا التخيُّل ولا المِخيال نجحوا بحملي على أجنحة التّعبير عمّا يجري في “غزّة”.. سقطتُ عند أول محاولة، وجدتُني مجرد صارخٍ مستصرخ الأسماع في أحياء الضجيج، كل سامع مثلي في محراب العجز: ليس لدينا سوى الصراخ، والكلام المبتور، ما أصعب أن تقطع كلمة الحياة إلى محاولة ومقبرة.

لم أفعل شيئًا في هذا الموت سوى أنني فقدت قدرتي على النوم، وحرمت الهواء النقي، والسباحة مع ابتسامة صادقة.

حاولت الكتابة وفشلت

حاولت القراءة وفشلت

حاولت التّعايش وفشلت

وبقيت مثل أول يوم من العدوان واقفًا كمسمار في عين الخلاص، أو دودة منسأة “سليمان” وأنا المنسأة.. لا شيء أكبر من الحزن إن كان الظلم صانعه، والضمائر قتيلة.

“غزّة” التي تُباد، نركض خلفها لتبقى على ركبتيها أمام البحر، لنطرد حمَلة نعشها ساعة الظهيرة، لعلّنا نغلق المقبرة على بعض أطرافها، ونسهر على معافاتها، ربما نستطيع.. “غزّة” رغم وجعها أجمل من لغتي، وأكبر من ليلةٍ أحشرها فيها داخل قصيدتي”.

ناهض زقوت.. كتابة خلف الخطوط

أمّا الكاتب والناقد “ناهض زقوت”، الذي شارك في كتاب يندرج تحت تصنيف “أدب السجون” وقد طبعته وزارة الثقافة، مع كتابين آخرين، بعنوان “كتابة خلف الخطوط”.. يقدِّم وصفا دقيقا للحرب، قائلا: “رائحة البارود تملأ الجو، وصوت الطائرات الحربية التي تهتزّ لها جدران البيت ترمي حِممها القاتلة في كل الاتجاهات، ودبّابات على الحدود متمركزة تطلق بشكل عنيف ومتواصل قذائفها باتجاه بيوت المواطنين الخائفين الذين يحتضنون أطفالهم على أمل حمايتهم من قذيفة أو شظايا قذيفة”.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا