دائما يأتي من يصحّح التاريخ ولو بعد خمسين عاما.. غزّة تسُوقُ أعداءَها إلى ثغرة «الدفرسوار»

في مثل هذه الأيام ـ قبل 50 عاما ـ كانت الخطة واسمها “شامل”، تقضي بالإجهاز على القوات الصهيونية التي كان يقودها اللواء «أرييل شارون» بعد أن استدرجته فرق اللواء الثامن المدرع الجزائري، فأوقعته فيما سُمي ثغرة «الدفرسوار»، وكان المقاتلون الجزائريون والمصريون ـ حينذاك ـ متحمسين لتنفيذ العملية وإعلان النصر، لكن، حدث ما لم يكن في الحسبان، إذ تدخلت القيادة السياسية في مصر ومنعت التنفيذ: كيف ولماذا؟.. هذا ما ستتناوله «الأيام نيوز» في هذا الملف الخاص، والذي يتم نشره بينما أبطال المقاومة الفلسطينية يعودون بالتاريخ إلى الوراء ـ عبر عمليات طوفان الأقصى ـ وبالضبط إلى لحظة ظهور شارون وهو يتنقّل بين جحر وآخر مثل جرذ مذعور، هربا من نيران القوات الجزائرية التي خذل بطولاتها الرئيس الراحل أنور السادات، مثلما يخذل التطبيعيون اليوم بطولات الشعب الفلسطيني الحر.

إن وجود الكيان الصهيوني يؤرّخ بالدماء والحروب، وحتى أجياله، التي نبتتْ مثل أشجار الشر على أرض فلسطين، يؤرّخ كلّ جيل منها بالحروب أيْضا. وقد امتدّ التأريخ بالحروب إلى مجال الأدب العبْري، فهناك: أدب 1948، أدب 1967، أدب 1973، أدب حرب «سلام الجليل» في لبنان 1982.. ويأتي شهر أكتوبر لهذه السنة ليجبر فيه الفلسطينيون الكيان الصهيوني أن يضيف تصنيفا أدبيا آخر يمكن تسميّته أدب احتراق الأسطورة الصهيونية.

قدّم الكيان الصهيوني نفسه بأنه القوة العسكرية التي لا تقهر في الشرق الأوسط بامتلاكه للأسلحة النووية، وأكثر التكنولوجيات العسكريّة تطوّرا وتعقيدا، إضافة إلى الدعم الذي يرتكز عليه من القوى الغربية الكبرى، وتصنيعه لأنواع مختلفة من الأسلحة البالغة التطوّر وتصديرها.. غيْر أن كلّ ذلك فقد معناه في الساعات الأولى التي ابتدأتْ فيها المقاومة الفلسطينيّة في «غزّة» عمليّاتها العسكريّة النوعيّة في عمق الكيان الصهيوني، حيث استطاعتْ بإمكاناتها البسيطة، التي بنتْها واكتسبتها رغم الحصار المزمن والمتوحّش، أن “تجتاح” أكثر من خمسين مركزا عسكريّا، وتبسط سيطرتها الكاملة على أكثر من نصفها.. وتشرع البوّابات على مرحلة جديدة في أشْكال المقاومة العسكرية المختلفة جذريّا عمّا سبقها من أشْكال أخرى.

لقد أحرقتْ المقاومة الفلسطينية في «غزّة» الأسطورة الصهيونيّة، وجدّدتْ وهج انتصارات أكتوبر 1973 في الحرب العربية ضدّ الكيان الصهيوني. كما جدّدتْ توحيد الشعور لدى الشعوب العربيّة بأن الانتصار على الاحتلال الصهيوني هو قضية فؤاد وليس قضيّة عتاد.

وأيْضا، أحدثتْ المقاومة الفلسطينية زلزلة تهدم أوهام العرب الذين اختاروا التطبيع مع الكيان الصهيوني للاستقواء به أو الدخول من خلاله إلى عالم الأقوياء.. فبرهنتْ المقاومة الفلسطينيّة بأن هذا الكيان أوْهن من بيت العنكبوت ولا يعوّل عليه لمن يريد مستقْبلا “حقيقيّا” لأجياله خال من الذلّ والتعبيّة وافتقاد السيادة والكرامة.

إن الإنجاز العظيم للمقاومة الفلسطينية، ومهما كانت نتائجه النهائية، سيعيد تصحيح المفاهيم والقناعات المغلوطة في مجالات سياسية واقتصادية.. على الأقل في دائرة الدول العربية. كما أنه سيفتح الأسئلة حول “مستقبل” الكيان الصهيوني ووجوده، مع كل ما يرتبط بهذا الأمر من قضايا ومشاريع كبرى، مثل مشروع “طريق الحرير” أو ما يسمّى أيضا “مبادرة الحزام والطريق” الذي أطلقته الصين سنة 2013 وتبنّتْ تنفيذه فعليّا عاما بعد ذلك، وتتوقّع اكتمال إنجازه في عام 2049، وذلك من أجل ربط قارّات: آسيا، إفريقيا، أوروبا، بشبكة برية: سكك حديدية، طرق معبّدة، محطات طاقة، وطرق بحرية. وقد سارع الكيان الصهيوني ليكون ضمْن “طريق الحرير” استباقا لاحتمالات كثيرة منها احتمال تخلّي الولايات المتحدة الأمريكية عن هذا الكيان وانسحابها من شؤون الشرق الأوسط.

المقاومة الفلسطينية تحدث انقلابا في المعادلة العسكرية

إن أكتوبر هو شهر الفتوحات العربية الكُبرى، وإذْ تستعيدُ الأمة العربية انتصارات أكتوبر 1973 ضد الكيان الصهيوني، فإن الفلسطينيين أرادوا التأكيد على “قدسيّة” هذا الشهر بتجسيد انتصار آخر يؤكّدُ على احتراق الأسطورة الصهيونية، وأن تحرير فلسطين يرتبطُ بعُمْق الإيمان وليس بالتطوُّر التكنولوجي العسكري والدعم الغربي وغيرها من العناصر التي لا يفقهُها المُطبّعون الذين لا يريدون الاعترافَ بأن مَنْ يُفرّط في أرضه يُمكنه أن يبيعَ لحْم أبنائه.

عملية “طوفان الأقصى” التي أطلقتها كتائب “عز الدين القسام” التابعة لحركة المقاومة الإسلامية “حماس” ضد الاحتلال الصهيوني، لم تكشف عن وَهَن الكيان الصهيوني وقابليته للسقوط السريع فقط، بل كشفتْ أيْضا عن ضُعف أجهزته الاستخباراتية في استشعار هذه العملية، بالإضافة إلى ضُعف أجهزة الاستخبارات الأمريكية والغربية عُموما، ومن خلفها مراكز الدراسات والأبحاث الأمنية، التي لم تستطع استشرافَ العمليّة أو كشفها قبل أوانها، ذلك أن “طوفان الأقصى” ليس عملية عسكرية عارضة، بل هي عمليّةٌ لا يُمكن تنفيذها دون الإعداد لها لشهور أو ربما لسنوات طويلة.

من الأمور الأخرى التي يجب تسجيلها أن عمليةَ”طوفان الأقصى” حقّقتْ إنجازا تاريخيا، حيث أن عدد القتلى من الكيان الصهيوني قد تجاوز، في يومه الثاني، سبْعة أضعاف الشهداء الفلسطينيين، وذلك وفق مصادر من الكيان التي قالتْ بأن عدَد القتلى تجاوز السبعمائة قتيل وأكثر من ألفيْ مُصاب.. وهذا مُؤشّرٌ بأنَّ استراتيجية المقاومة الفلسطينية قد أحدثتْ انقلابا في المعادلة العسكرية بين عدوّ يعتمدُ على إمكانيات ماديّة جبّارة، وبين ابن الأرض الذي يعتمدُ على إيمان الإنسان الفلسطيني بقضيّته..

ليس أمام الكيان الصُّهيوني سوى الاعتماد على السّلاح الجوّي وتكثيف الغارات كعادته على البيوت والمدارس والمستشفيات لإرهاب الشعب الفلسطيني، وقد سارعتْ أمريكا بالإعلان عن دعمها العسكري لهذا الكيان، حيث أبْحرتْ حاملة الطائرات “جيرالد فورد”نحو شرق البحر الأبيض المتوسط بهدف “تعزيز جهود الردع الإقليمي”، وقد ذكرتْ شبكة “إن بي سي”أنَّ الجيش الأمريكي كشَف بأنه”يُخطط لنقل سفن حربية وحاملة طائرات إلى مقربة من (إسرائيل)”.

هذا التَّجييش الصهيوني الأمريكي ـ الذي تدعمه بعض الدّول الغربية ـ بقدْر ما يكشفُ عن ضُعف القوى المعادية في مواجهة كتائب “عز الدين القسام”، فإنه يُعدّ بداية لخارطة انتشار عسكريّ غربيّ في شرق المتوسّط، أما عبارةُ “تعزيز جهود الردع الإقليمي” فهي إعلانٌ عن مرحلة جديدة في الصّراع العسكري، ليس بين المقاومة الفلسطينية والكيان الصّهيوني، بل قد يتعدَّى الأمرُ إلى صراع بين قوى دولية أخرى..

حركة المقاومة الإسلامية “حماس” أكّدت على صمودها في وجه أيَّ دعم غربيّ يصل إلى الكيان الصهيوني، وذكرتْ بأنَّ”تحريك حاملة الطائرات الأمريكية لا يُخيفها”.. ومن جانبها، قالتْ “حركة الجهاد الإسلامي” بأن الكيان الصهيوني قد انكسر منذ الساعات الأولى لعملية “طوفان الأقصى” وراح يستنجدُ “بحليفته أمريكا رأس الشر في العالم”.. وهذا الأمر يعني بأنَّ هناك تكامُلا في عمل حركات المقاومة الفلسطينية.. وعملية “طوفان الأقصى” ستكشفُ عن السّبب في اختبار كلمة “طوفان”، ولعلَّ معنى هذه الكلمة سوف يتكشَّفُ في ميدان الحرب، وهناك “مفاجآتٌ” أخرى لن تُحرق الأسطورة الصهيونية فحسب، ولكنها ستُحرقُ الأسطورة الأمريكية أيضا.

لقد استطاع الشَّعبُ الفلسطيني المُحاصَرُ في “غزّة” أن يُحاصر عَدُوَّه في مواقعه العسكرية ومستوطناته، وهذا أعظمُ انتصار حقّقه حتى الآن، فلم يحدث في تاريخ البشرية أن الشَّعبَ المُحاصَر والمعزول والمدعوم من أكبر القوى الدّولية، يُحّققُ المعجزةَ ويصيرُ هو المُحاصر لعدوّه.

دماء جزائرية صنعت نصرا عظيما حوّله السادات إلى هزيمة تفاوضية

“إنكم تذهبون إلى أشرف معركة.. معركة الدفاع عن الأرض والعِرض والحق وعن مصر وفلسطين.. هذه المعركة من أشرف المعارك.. لن نبكي على من يموت فيها، لكننا سنزفّه شهيدا وتزغرد عليه الأمهات”… هكذا خاطب الرئيس الراحل هواري بومدين، الجنود الجزائريين قبل توجّههم إلى جبهة القتال في “حرب أكتوبر” 1973 التي خاضتها الجيوش العربية ضد الاحتلال الصهيوني وحققت فيها نصرا تاريخيا استخدمه الرئيس المصري الأسبق أنور السادات كورقة تفاوض سمح بموجبها للأمريكان أن ينقذوا القوات الصهيونية ـ بقيادة إريل شارون ـ من ثغرة الدفرسوار، مقابل إعلان وقف إطلاق نار “شامل”، مع العلم أن الخطة التي وضعتها القيادة العسكرية العربية ـ وتحمل اسم “شامل” ـ كانت تقضي بتصفية الثغرة وتدميرها بكل من فيها من قوات العدو المتواجدة هناك، وكانت ستتمّ بمشاركة القوة الجزائرية، غير أن هنري كيسنغر ـ وزير الخارجية الأمريكي الأسبق ـ تدخّل لوقف تنفيذ الخطة عبر اتفاق ـ مع الجانب المصري ـ توالت من بعده الاتفاقات وصولا إلى مهزلة “السلام” النهائي عام 1979.

هكذا نجا شارون ـ ومعه القوات الصهيونية ـ من ثغرة الدفرسوار حيث كان سيموت أو يقع أسيرا، وقد كتب بعد نجاته: “أنا عائد من الجحيم وسوف أذيق من أرسلونا طعم الجحيم! وكان يقصد بكلامه هذا الكنيست الصهيوني.

أما رئيس هيئة أركان الكيان المحتل، «دافيد إليعازر» فقد كشفت الوثائق أنه اعترف بأن (إسرائيل) خسرت حرب 1973 نتيجة “استهانة واستهتار اللواء أرييل شارون” الذي وصفه بالمغرور، حيث كان هذا الأخير يصف أسلحة الجزائريين بالبدائية وتوقع فرار الجنود الجزائريين بمجرد أن يروا دباباته.

وقال إليعازر “لقد نصبوا له الفخ”، وهكذا خسر الصهاينة في يوم واحد 900 قتيل وفقدوا 172 دبابة، وهي هزيمة يتفق أغلب المحللين ـ حتى الإسرائيليين منهم ـ أن شارون يتحمل مسؤوليتها الكاملة بعدما كسر الأمر العسكري، واندفع باتجاه القوات الجزائرية، التي استدرجته فأعطته درسا في القتال والاستبسال.

أما ابنة الرئيس السادات كاميليا السادات (1949 – 2019)، فقد سبق لها أن ظهرت عبر إحدى القنوات الفضائية المصرية، مصرّحة أنه بعد الانتصار العربي على العدو الصهيوني، قال والدها الرئيس السادات: “إن جزءا كبيرا من الفضل في الانتصار الذي حققته مصر في حرب أكتوبر – بعد الله عز وجل – يعود إلى رجلين اثنين هما الملك فيصل بن عبد العزيز عاهل السعودية والرئيس الجزائري هواري بومدين .

هذه الحقائق ـ حول حرب أكتوبر ـ ستتعمق أكثر فأكثر، بعد أن أفرجت سلطات الاحتلال الإسرائيلي ـ قبل نحو شهر ـ عن أرشيفها السري المتعلق بها بعد 50 عاما على اندلاعها.

وسبق للأرشيف الإسرائيلي أن نشر في سنوات ماضية وثائق عن الحرب، لكنه أوضح أن المجموعة الجديدة هي المتكاملة، موضحا أن الحرب شهدت مقتل نحو 2656 جنديا إسرائيليا، إضافة إلى أسر المئات وإصابة أكثر من 7200 جندي ومدني.

وعندما اندلعت الحرب كانت «إسرائيل» تحتل شبه جزيرة سيناء في مصر، كما كانت ولا تزال تحتل القطاع الأكبر من مرتفعات الجولان السورية منذ 1967، إضافة إلى احتلالها لفلسطين منذ 1948، وتسمي القاهرة ودمشق هذه الحرب ـ وكل العرب ـ بـ”حرب أكتوبر”، بينما تطلق عليها «تل أبيب» حرب يوم الغفران.

وتوفر المواد الأرشيفية الأمريكية – التي رفعت عنها السرية خلال السنوات الأخيرة، والتي تُقدر بآلاف الوثائق – معلومات مهمة وتفاصيل دقيقة حول السياسات والتصورات والقرارات الأمريكية خلال أيام حرب أكتوبر.

كما تتطرق هذه الوثائق إلى زوايا مهمة على شاكلة الأهداف المصرية والسورية، وعلاقات القوى العظمى مع الأطراف المتحاربة، وإخفاقات الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية، ودور موسكو وواشنطن في تصعيد القتال وتخفيفه، وتأثير شخصيات رئيسية ـ وقتذاك ـ مثل وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنغر والرئيس المصري أنور السادات.

الجزائر دائما في الصفوف الأولى

يقدر الجزائريون جيدا الدعم المصري المشهود للثورة الجزائرية، والذي كان أحد أسباب العدوان الثلاثي، عليها عام 1956″، كما كانت الجزائر”سباقة إلى نصرة مصر في حربي 1967 و1973 “، فالتاريخ يحفظ أن فيالق الجيش الجزائري كانت مع الفيالق المصرية في الصفوف الأولى في ملحمة أكتوبر، حين امتزجت دماء الأبطال الشهداء من جزائريين ومصريين معا على أرض سيناء الطيبة، لتسجل صفحات مجيدة من التضحية والتضامن المشترك.

وشاركت ـ إلى جانب الجيش المصري ـ معظم الدول العربية تقريبا في حرب 1973 طبقا لاتفاقية الدفاع العربي المشترك، لكن مشاركتها وصفت بالرمزية عدا سوريا والعراق والجزائر وهي الدول التي كان جنودها يشاركون بالفعل مع الجنود المصريين في الحرب بحماس وقوة على جبهة القتال.

كانت الجزائر ثاني دولة من حيث الدعم خلال حرب 1973 ـ بعد العراق المساهم على الجبهة السورية ـ فشاركت على الجبهة المصرية بفيلقها المدرع الثامن للمشاة الميكانيكية بـ2115 جنديا و812 ضابط صف و192 ضابطا.

كما أمدت الجزائر مصر بـ96 دبابة و32 آلية مجنزرة و12 مدفع ميدان و16 مدفع مضاد للطيران وما يزيد عن 50 طائرة حديثة من طراز ميغ 21 وميغ 17 وسوخوي 7، حسب تصريحات المستشار علي محمود محمد رئيس المكتب الإعلامي المصري بالجزائر في الاحتفال الذي أقيم ـ العام الماضي ـ في السفارة المصرية بالجزائر احتفالا بنصر أكتوبر.

وصول الشجعان

بدأت الحرب في 6 أكتوبر1973، حيث اندفعت القوات المصرية عبر قناة السويس في عملية عبور اشترك فيها مئة ألف رجل وأكثر من 1000 دبابة و13500 مركبة خفيفة 3 وثقيلة، عبرت جسور أقامتها فوق قناة السويس واستطاعت الاستيلاء على خط بارليف الحصين.

فبعد تحديد موعد الهجوم قررت الجزائر إرسال الدعم إلى مصر فأرسلت 4 أسرابا من طائرات مقاتلة السرب رقم 23، السرب رقم 17، السرب رقم 21، السرب رقم 14، وأرسلت سرب واد MF21 والذي يحتوي على 13 طائرة، وسرب ميغ F17، يحتوي على 23 طائرة وسرب آخر KSU7 BM يضم 12 طائرة.

أما أفواج اللواء، فانطلقت يوم 12 أكتوبر أي بعد 6 أيام من اندلاع الحرب وتطلبت المسافة التي تفصل الأراضي المصرية عن الجزائر والمقدرة بـ4 آلاف كيلومتر، مسيرة أسبوعين تقريبا، عبرت خلالها الأراضي التونسية والليبية ودخول مصر عن طريق السلوم ومرسى مطروح كما تم نقل جزء منها عن طريق الدجر من ميناء طرابلس اتجاه الإسكندرية.

وعند وصول القوات الجزائرية الأراضي المصرية تم دمج اللواء الجزائري في تشكيل الجيش الثالث مع الفرقة الرابعة المدرعة بقيادة الجنرال محمد عبد العزيز، لمحاصرة العدو من اتجاه الغرب حيث قامت القوات الجزائرية في تلك الحرب بأدوار بطولية وحاسمة، جسدت مدى تلاحم الشعوب العربية من أجل نصرة القضية الفلسطينية.

توجّس جزائري من السادات

لكن، قبل كل هذا، يجب العودة إلى ما قبل الحرب بنحو عام (1972) حين أرسل مجلس الدفاع المشترك رئيس أركان الجيش المصري والأمين العام المساعد العسكري لجامعة الدول العربية «سعد الدين الشاذلي»، في زيارة إلى الدول العربية من أجل الحصول على دعم عسكري تنفيذا للتوصيات التي تم الاتفاق عليها في مجلس الدفاع المشترك.

تم عرض الموضوع على السادات الذي وافق على زيارة ليبيا والسعودية، لكنه في الوقت ذاته اعترض على زيارة الجزائر والعراق، قائلا: “إنها مضيعة للوقت ولن تكون هناك أية نتائج مفيدة للزيارة”.. بل تروي بعض الوثائق أن السادات قال لـ «سعد الدين الشاذلي»: “هؤلاء سوف يستفيدون دعائيا من زيارتك لكنهم لن يقدموا شيئا من أجل المعركة”.

بذل الشاذلي جهدا مضنيا حتى تمكن من إقناع السادات أن يوافق على سفره إلى الجزائر، وهذا ما حدث بالفعل، وعلى ما يبدو، فقد جاء رفض السادات زيارة الجزائر والعراق على خلفية معرفته المسبقة أن الجزائر وكذلك العراق يعارضان سياسة السادات الداعية إلى التهدئة وفتح باب الحوار مع الكيان الصهيوني.

وعلى أية حال فقد سافر الشاذلي إلى الجزائر وكان في استقباله الرئيس هواري بومدين وعدد من الوزراء وكبار رجال الدولة، وفي صباح 7 فيفري 1972، قابل سعد الدين الشاذلي الرئيس بومدين، وأخبره عن طبيعة مهمته بخصوص تعبئة المواد العربية للمعركة.

وعبر بومدين عن حماسته للاشتراك بكل قدراته العسكرية، وكل قطعة سلاح تستطيع الجزائر أن تقدمها في المعركة، إذ ذكر بومدين قائلا: “إذا قامت الحرب فيجب أن تتأكد أن الجزائر ستقوم بإرسال كل ما لديها لكي يقاتل الجزائريون جنبا إلى جنب مع إخوانهم المصرين”.

دماء حارّة

وأوضح الشاذلي في مذكراته أن الرئيس بومدين كانت له شكوك في إمكانية أن تكون هناك رغبة جدية في إثارة الحرب من جديد، وهذا ما ظهر واضحا أثناء حديث بومدين، إذ أبدى تساؤلات حول الأعباء والمشكلات التي قد يتسبب فيها إرسال قوات جزائرية إلى مصر، لتبقى عاما أو أكثر في انتظار حرب قد تقوم وقد لا تقوم.

واستطرد قائلا: “نحن الجزائريين دماؤنا ساخنة، إذا كانت هناك حرب فإننا نقاتل. عندما نرسل رجالنا إلى الحرب فإنهم سوف يكونون بمعنويات عالية، وعلى أهبة الاستعداد لها، فإذا طالت المدة دون أن يكون هناك حرب فإنهم يثيرون المشكلات لكم ولنا”.

وأضاف: “سوف تزاد المشكلات الإدارية وسوف يطلبون أن ترحل إليهم عائلاتهم وسيطالبون بإجازات دورية.. إن هذه المشكلات كلها يمكن تلافيها إذا نحن أرسلنا الدعم العسكري الجزائري بعد أن يتحدد ميعاد المعركة” في إشارة واضحة إلى رغبة بومدين في إعلامه بموعد محدد لقيام الحرب، وهو ما رفضه السادات بحجة الحفاظ على سرية الخطة.

قوات عسكرية جزائرية في الجبهة المصرية

بعد أن تأكد بومدين أن الحرب ستقوم فعلا، استعد لها جيدا، متخذا من مشكلة كانت قائمة في خليج سرت مبررا لإرسال قوة عسكرية إلى المعبر الليبي وكان هذا القرار موازيا تماما لزيارة سعد الدين الشاذلي للجزائر، فسافرت (4) قطع بحرية لحراسة الشطوط، فضلا عن سرب (طائرات ميغ) إلى قاعدة بنغازي القريبة من الحدود المصرية يقودها كل من محمد الطاهر بوزغوب والنقيب نور الدين قرطبي، وكان هدف بومدين من ذلك أن يكون قريبا من الحدود المصرية في حالة حدوث أي طارئ جديد على الساحة العربية.

بعد الإعلان عن حرب 6 أكتوبر 1973، عُقدت جلسة طارئة لمجلس الثورة ومجلس الوزراء من أجل إيجاد التدابير اللازمة وسبل دعم جمهورية مصر العربية وسوريا بأقصى ما يمكن، حتى لا تكرر نكسة عام 1967.

وكانت أولى القرارات التي اتُخذت، إرسال قوات عسكرية جزائرية إلى الجبهة المصرية، إلى جانب إرسال ـ وفي اليوم الأول من الحرب ـ العقيد محمد عبد الغني مبعوثا خاصا إلى مصر للاطلاع على الأوضاع من أجل تحديد المساعدات المستعجلة التي يجب أن تصل إلى الجبهة، والعمل على حشد التأييد الشعبي الجزائري والعربي باتجاه المعركة.

بعد اندلاع الحرب حلق سرب طائرات (ميغ 21) يتكون من 16 طائرة جزائرية من مطار طبرقة بعد أن سبقته طائرة ليبية نقلت معدات الهبوط وطاقمه، وكان ذلك صباح يوم 7 أكتوبر، وبذلك فهي أول طائرة نزلت قاعدة (اجنكيز) جنوب الإسكندرية.

كان هذا في الساعة الحادية عشر من ذات اليوم ليوضع هذا المطار العسكري الخطير جدا (لقربه من منطقة شرم الشيخ المحتلة) تحت تصرف القوات الجزائرية، ولحق سرب طائرات (ميغ 21)، وسرب آخر من طائرات (ميغ 17) حطت جميعها في المطار القريب من أهرامات الجيزة، ثم لحقت به طائرات (سوخوي) التي نزلت في قاعدة (بليس) على بعد 40 كيم، وتبعها سرب طائرات ميغ 17 أخرى نزلت في قاعدة (حلوان).

اللواء الثامن في ميدان المعركة

كما أرسلت الجزائر اللواء الثامن المدرع المتواجد بمنطقة تلاغمة شرق الجزائر الذي يقوده (عبد المالك قنايزية)، وهو اللواء الوحيد الذي كانت تعده الجزائر نواة أولى لجيش عصري، وقد قررت التضحية به في سبيل القضية، وإرساله إلى ميدان المعركة بعد أن تم تدعيمه بوحدات إضافية بما فيها سلاح الطيران.

كانت الأجواء مشحونة في مقر القيادة الجزائرية وذلك لصعوبة نقل السلاح، فقد كان هناك نقص كبير في حاملات الدبابات، إذ تم اللجوء إلى الشركات الوطنية والعمومية التي استجابت تلقائيا لتنفيذ المهمة.

بعد أن جاء أمر المشاركة، انطلقت كل أفواج المشاة المدرعة برا في يوم 12 أكتوبر 1973، أي بعد ستة أيام من اندلاع الحرب وتطلبت المسافة التي تفصل الأراضي المصرية عن الجزائر والمقدرة بـ(4) آلف كلم مسيرة 13 يوما تقريبا عبرت خلالها الأراضي التونسية والليبية ودخلت مصر عن طريق السلوم ومرسي مطروح، كما تم نقل جزء منها عن طريق البحر من ميناء طرابلس باتجاه الإسكندرية.

وبعد وصول القوات أخذت مواقعها في الخطوط الأمامية من المعركة، وظلت مرابطة هناك متربصة لحركات العدو، وخاض اللواء الثامن بعض معارك ضدّ العدو الصهيوني لمنع تقدّمه بمنطقة غرب القناة من بحيرة المرة، وهي المعركة التي كلفت القوات الجزائرية عشرين شهيدا.

كما تكررت اشتباكات ومناوشات عديدة مع قوات العدو، حيث كان الراحل عبد المالك قنايزية قائد اللواء قد أكد أنه وبعد الوصول إلى مصر خضعت القوات الجزائرية لعملية اختبار على مستوى مراقبة الوسائل واختبار جهوزيتها، وبعدها تلقت يوم 29 أكتوبر 1973 أمرا بالقيام بمهام استطلاعية للأرض تمهيدا لتنفيذ مهمة قتالية في قطاع الفرقة المدرعة الرابعة التابعة للجيش الثالث الميداني المصري.

بعد مدة من الانتظار تم تكليف القطاع الأول للفرقة الرابعة بجبهة طولها 30 كلم وهي مسافة كبيرة لا يمكن للواء واحد شغلها من الناحية العملية، غير أن القوات الجزائرية كما ذكر قنايزية ـ رحمه الله ـ حاول تغطيتها بما توفر لديه من إمكانات.

تجددت الاشتباكات مع القوات الصهيونية طيلة الأيام من 12 حتى 28 أكتوبر بتبادل الرميات المباشرة للدبابات المسندة بنيران المدفعية، وقد كانت مهام القوات الجزائرية هو منع التوغل الصهيوني أكثر لعبور ثغرة «الدفرسوار» وحماية القاهرة من قوات العدو التي أصبحت في الضفة الغربية من القناة.

اصطياد جيش الاغبياء في عملية الأدبية

صمدت القوات الجزائرية بكل بسالة في وجه الهجوم البري الصهيوني، كما تصدت لطائرات الدعم الأمريكية وأسقطت واحده منها في خليج السوي، فقطعت عن شارون وقواته الإمدادات الصهيونية والأمريكية، وقد حاصرت القوات الجزائرية مدعومة بكتيبة من قوات الصاعقة المصرية وصائدي الدبابات القوات الصهيونية بين الأدبية والكيلو.

إلى جانب الدور الكبير الذي قامت به القوات البرية الجزائرية فان القوات الجوية هي الأخرى كان لها دورٌ مميز في ميدان المعركة، حيث التحمت مع القوات الصهيونية ولم يرتق من الطيارين الجزائريين سوى شهيد واحد وهو (الملازم ظريف)، الذي قيل إن طائرة هذا الضابط كانت من نوع (سوخوي) وإن سقوطها كان مجرد خطأ ارتكبته المدفعية المصرية.

استطاعت القوات الجزائرية على جبهة القتال كسر شوكة القوات الصهيونية في ميدان المعركة وخاصة في الأدبية والزيتية حيث ذكر دافيد اليعازر رئيس أركان الجيش الصهيوني الذي شهد أول هزيمة لكيانه معترفا للمرة الأولى لصحيفة معاريف العبرية بتاريخ 29 أكتوبر 1973:

“لست مسؤولا عن هزيمة ضعف قادة (إسرائيل) الأغبياء.. لقد استهانوا بالقوات العربية المحتشدة على الجبهتين الشمالية والجنوبية، وما حدث لقواتنا في ميناء الأدبية كان نتيجة لاستهانة واستهتار بعدد وعتاد الوحدات الجزائرية، لقد توقع شارون المغرور أن الجزائريين بأسلحتهم البدائية سيفرون بمجرد رؤية دباباتنا”.

ومما يؤكد الدور البطولي للقوات الجزائرية في معركة أكتوبر، ما تم الاعتراف به بعد تشكيل لجنة استماع وتقصي الحقائق والتي عرفت بلجنة (أجرانات) التي وقف أمامها عدد من الضباط والجنود كشهود، حين خرجت لأول مرة في مذكرات أحد القضاة الذين اشرفوا عليها، والتي ظهرت من خلالها الجلسات المتعلقة بشهادة وزير الحرب الصهيوني موشي ديان حينما سئل عن قرار وخطة الهجوم التي أعدها لاجتياح الأدبية.

اعترف موشي ديان قائلا: “المصريون خدعونا وجعلونا نعتقد أن ميناء الأدبية غير محصن، حيث أنهم كلفوا القوات الجزائرية بمهمة حمايته، فبنينا خطتنا على أساس معلومات تؤكد لنا أن تلك النقطة الإستراتيجية في متناولنا، فحاولنا الاستيلاء عليها في الأيام الأولى للحرب من أجل فتح منفذ على الجبهة تمر منه مدرعاتنا والمدرعات الأمريكية لتطبيق خطة التطويق”.

الاستدراج القاتل

لكننا ـ يضيف موشي ديان ـ “وجّهنا قصفا صاروخيا ومدفعيا شديدا ومركزا على المنطقة، ولم نلق مقاومة ولم تطلق قذيفة واحدة من المكان المستهدف، فتأكدنا أن الوضع آمن وأننا دمرنا أسلحة الرد القليلة لدى القوات الجزائرية أو أن هذه الأسلحة سحبها المصريون لاستخدامها في الهجوم”.

وكانت كل المعطيات ـ والكلام على لسان موشي ديان ـ “تدل على أن الجزائريين لا يملكون أسلحة قادرة على عرقلة العملية، وكنا قد جمعنا معلومات أخرى تشير إلى وجود حالة تذمّر داخل تلك القوات، بسبب عدم سماح المصرين لهم بالمشاركة في الهجوم على سيناء، وهكذا تحرك اللواء مدرع 190، لمهاجمة القوات المصرية في منطقة (القنطرة) ليشغل القوات المصرية ويبعد أنظارهم عن السويس وبالتحديد الأدبية”.

ويواصل موشي ديان كلامه أمام لجنة استماع وتقصي الحقائق، قائلا: “أمر اللواء مدرع 178، بقيادة شارون بمهاجمة الميناء والاستيلاء عليه بسرعة فائقة وقبيل وصول اللواء 178 للميناء فوجئنا بخبر إسقاط طائرة أمريكية عملاقة من طراز (5 غلاكسي) بواسطة صاروخ أطلق من مواقع القوات الجزائرية.. وصلتني إشارة عاجلة تفيد بانقلاب الموقف رأسا على عقب، حيث تصدت مضادات الصواريخ الجزائرية المتطورة للطائرات الأمريكية وأمطرتها بعشرات الصواريخ فأسقطت واحدة وأصابت اثنتين”.

ويضيف: “نجحنا لاحقا في الهبوط على إحدى مطارات النقب، ولم تمر خمس دقائق أخرى حتى وصلتني رسالة ثانية مفادها (لقد أطلقت بطاريات الصواريخ والمدفعية الثقيلة للقوات الجزائرية النيران بكثافة على المواقع التي انطلق منها القصف على الأدبية)، وهنا شعرت أننا وقعنا في فخ خطير، وأن الجزائريين نجحوا في استدراجنا بطريقة لم نعهدها في حروبنا السابقة ضد العرب وأن الكارثة على وشك الحدوث”.

بئر الموت

أما معركة (الزيتية) التي بدأت في اليوم الموالي لمعركة (الأدبية) أي في صباح 9 أكتوبر، فقد اعترف الإسرائيليون كذلك بخسارة مذلة أمام القوات الجزائرية، وهذا ما ذكره المؤلفان الصهيونيان، رونين برجمان وجيل مالتر في كتاب حمل عنوان (حرب يوم الغفران) تناول وثائق سرية من أرشيف هيئة الأركان العامة وسلطة الحكومة الصهيونية، تفضح جزءا مما حدث في معركة الزيتية.

الكتاب وصف هذه المعركة بـ(بئر الموت)، إذ تناول اعترافات الجنود والضباط الناجين من معركة الزيتية أمام لجنة الاستماع، تكشف عن وقوع القادة العسكريين الإسرائيليين، وكذلك القيادة السياسية في جملة من الأخطاء القاتلة دفعتها للوقوع فيها حنكة القوات الجزائرية ما أدى إلى هزيمة العدو.

وتعتبر نتيجة معركة الزيتية أكبر فشل تعرض له الجيش الصهيوني، فقد جاءت شهادات المشاركين في المعركة، بالقول “إن (إسرائيل) لم تنهزم فقط عسكريا بل انكسرت انكسارا لا تكفي السنوات لإصلاحه” ووصف الجنود العائدون من المعركة القوات الجزائرية بالشياطين، وقد ذكر أحدهم بالقول: “لم نكن نحارب بشرا بل شياطين تظهر وتختفي وقذائفنا لا تصل إليهم ونيرانهم تحرق كل شيء.

دور حاسم

المتتبع للأحداث يلاحظ أن القوت الجزائرية كان لها مواقف بطولية لا يمكن نكرانها بإمكاناتها العسكرية المتواضعة مقارنة مع ما كان يملكه الإسرائيليون من قوة كبيرة ودعم أمريكي، واستطاعت القوات الجزائرية أن تؤدي دورا حاسما في صميم المواجهات المباشرة مع العدو الصهيوني، غير أن نتائجها لم تُعرف على وجه الدقة والتحديد إلا لاحقا عندما بدأت إسرائيل تقيم نتائج تلك الحرب.

ومن الجدير بالذكر، أن القوات الجزائرية الجوية والبرية بقيت في خط المواجهة مع العدو الصهيوني حتى فيفري 1974 ثم بعد ذلك توجهت الطائرات إلى سوريا التي فضلت استئناف حرب الاستنزاف في الجولان، وانسجم الطيارون الجزائريون مع السوريين إلى درجة كبيرة، على الرغم أن بقاءهم لم يستمر إلا خمسة أشهر، أي، حتى جوان 1974 تاريخ نهاية الحرب رسميا على الجانب السوري.

واجه عملهم في سوريا بعض الصعوبات الفنية ومنها أن جزائريا واحدا كان ملزما بالبقاء على كل برج مراقبة لتسهيل نزول الطائرات الجزائرية التي لم يكن بوسع الذين يقودونها التفاهم مع السوريين في الأبراج، لاستخدامهم الفرنسية والسورين الانكليزية، وظلت الأسراب الجزائرية في الجبهة المصرية والسورية إلى منتصف 1975 من دون طياريها الجزائيين حتى اندلعت الحرب في الصحراء الغربية التي هجم عليها الاحتلال المغربي، وهكذا تم استعادة الطائرات الجزائرية.

معركة على الأرض وأخرى في منابر الدبلوماسية العالمية

فضلا عن الدعم العسكري الذي قدمه الجزائريون، فقد قدموا دعما سياسيا لا يمكن إغفاله، ففي 7 أكتوبر 1973أرسل الرئيس هواري بومدين برقيات مستعجلة إلى كتلة الدول الاشتراكية ودول عدم الانحياز، والى جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي من أجل دعم القضية العربية.

وحث بومدين تلك التكتلات على عدم القبول باحتلال أراضي الدول بالقوة، وإعادة الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني، وقد استجابت مجموعة من الدول الإفريقية لنداء بومدين وأعلنت عن قطع علاقاتها الدبلوماسية مع الكيان الإسرائيلي.

كما أرسل بومدين برقية إلى الولايات المتحدة الأمريكية والتي جاء الرد عليها من قبل الرئيس الأمريكي نيكسون، عبر رسالة تضمنت الآتي: “لقد تلقيت برقيتكم المتعلقة باستئناف المعارك في الشرق الأوسط. إن هذه الأحداث المؤلمة تبرز مرة أخرى ضرورة التعجيل في إيجاد حلّ عادل ودائم للمشاكل الأساسية لهذه المنطقة. وإنني إذ أؤكد لكم أن الولايات المتحدة تعمل بصورة نشطة لاتخاذ الوسائل التي من شأنها أن تقود إلى وقف هذه المعارك… آملا بإخلاص أن تتمكن حكومتي بالاعتماد على حكومتكم وحكومات أخرى في هذا الجهد”.

كما أن وزير الخارجية عبد العزيز بوتفليقة ندد في 11 أكتوبر 1973 بجرائم (إسرائيل) أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، مكثفا الاتصالات مع كل الدول الصديقة، مطالبا إياها باتخاذ موقف من العدوان الإسرائيلي ضد العرب وقطع العلاقات معه، كما نشطت جمعيات المجتمع المدني هي الأخرى في شرح القضية العربية لنظيراتها في العالم، وقد استمر ذلك النشاط حتى نهاية الحرب.

الدعوة إلى الوقوف صفّا واحدا

ثم تحركت الدبلوماسية الجزائرية في 13 أكتوبر، إذ قام بومدين بسلسلة اتصالات مع الدول العربية شملت بغداد والكويت والسعودية، لجمع الدعم والمساندة لجهورية مصر العربية وسوريا، وحثهم على الوقوف صفا واحدا، والعمل على عزل (إسرائيل) وحليفتها الولايات المتحدة الأمريكية.

كما سعى بومدين إلى إعادة العلاقات الجزائرية الأردنية بعد قطيعة دامت لعدة سنوات، وتحديدا بعد أحداث أيلول الأسود عام 1970، وخلال زيارته إلى تلك الدول دعا إلى التضامن العربي وتجنب ظهور ثغرات في الصف العربي في الوقت الذي يجب فيه مواجهة اللعبة الخطيرة التي يجري إعدادها من قبل الكيان الصهيوني، وأكد قائلا: “ما يشغلنا هو الحفاظ على التضامن العربي، والتضامن العربي – الإفريقي اللذان ظهرا بشكل ساطع منذ تأسيس منظمة دول عدم الانحياز”.

كما أن الرئيس بومدين سافر إلى موسكو من 14 إلى 15 أكتوبر 1973 في زيارة رسمية، بعدما بدا الاتحاد السوفيتي أنه يميل إلى التريث في توجيه المساعدات العسكرية إلى مصر، فعدّه بومدين ضعفا أمام القوة الأمريكية التي استطاعت أن تفرض كلمتها على السوفييت.

(200) مليون دولار دعما للحرب

وأجرى بومدين محادثات مع الاتحاد السوفيتي استمرت أكثر من خمس ساعات جرت من خلالها مناقشات سياسية طويلة، هاجم فيها الاتحاد السوفيتي سياسة الرئيس السادات، وهنا قال بومدين “إنني لم أحضر إلى موسكو، لكي أدخل في مناقشات سياسية… نرجو أن ننحي السياسة جانبا، مصر وسوريا الآن في حرب.. وقد جئت إليكم اشتري سلاحا للبلدين الشقيقين… فهل توافقون”، وحصل على الموافقة، ودفع لهم مبلغ (200) مليون دولار ثمنا لدبابات طلب بومدين توريدها على الفور إلى كل من مصر وسوريا.

وبعد إنهاء محادثاته مع الاتحاد السوفيتي توجه بشكل مباشر إلى يوغسلافيا مساء 15 أكتوبر، وفور وصوله بدأ بومدين محادثات ثنائية مع الرئيس اليوغسلافي جوزيف بروز تيتو حيث عقد الرئيسان اجتماعا مغلقا بحثا فيه آخر التطورات بمنطقة الشرق الأوسط، والدور الذي يجب أن تقوم به حركة عدم الانحياز لدعم الجبهة العربية، في صد الهجمات الامبريالية، خاصة وأن مصر هي إحدى الأعضاء المؤسسين لهذه الحركة، ليخرج الطرفان ببيان مشترك، أكدا فيه وقوفهما وتضامنهما مع مصر وسوريا في تلك الحرب الدائرة، وطالبا باقي دول حركة عدم الانحياز بالتضامن مع الدولتين.

في حين استقبل الرئيس بومدين في 22 أكتوبر 1973، السفير السوفيتي في الجزائر الذي أطلعه على تفاصيل المحادثات التي جرت في موسكو بين القادة السوفييت ووزير الخارجية الأمريكي، والتي انتهت بقرار وقف إطلاق النار في الشرق الأوسط، وهو القرار الذي وافق عليه السادات وكانت ترفضه الجزائر المؤمنة بأن الحرب يجب أن تستمر حتى تحرير الأرض العربية من العدو نهائيا.

الجزائر في خدمة المعركة ضد العدو

نشطت الدبلوماسية الجزائرية بشكل واسع، حين أوفد الرئيس الجزائري بومدين وزير خارجيته بوتفليقة في 26 أكتوبر من العام ذاته إلى القاهرة لإجراء محادثات مع المسؤولين المصريين، كما أوفد شريف بلقاسم ـ عضو مجلس الثورة الجزائرية إلى دمشق ـ في 28 أكتوبر، وكانت مهمة بلقاسم تستهدف مواصلة الحوار الذي بدأ بين الرئيسين الجزائري والسوري من خلال الاتصالات الهاتفية التي تمت بينهما خلال أيام القتال، وحث الجانب السوري على مواصلة القتال حتى تحقيق النصر واسترجاع الأراضي المحتلة معلنا تأييد الجزائر لسوريا ومصر في نضالهما ضد العدو الصهيوني.

كما أصدر مجلس قيادة الثورة الجزائري بيانا في 31 أكتوبر 1973 أكد فيه مجددا تأييده التام لمصر وسوريا في نضالهما لاستعادة الأراضي العربية المحتلة، إذ أكد البيان على وضع الجزائر جميع مصادر ثروتها وطاقتها في خدمة المعركة ضد العدو الإسرائيلي.

في السياق ذاته، قام الرئيس بومدين في مطلع شهر نوفمبر 1973 بزيارة عدد من العواصم العربية، فقد وصل إلى القاهرة في 2 نوفمبر، حيث أجرى محادثات مع الرئيس السادات، ثم تابع جولته فوصل إلى دمشق يوم 3 نوفمبر كما شملت رحلته جولة سريعة إلى كل من بغداد والكويت والرياض، طرح من خلالها وجهة نظر الجزائر وأبلغ جميع الرؤساء والملوك العرب الذين قابلهم استعداد الجزائر لتقديم جميع إمكاناتها لخدمة الانتصار العربي.

كما دعا إلى عقد مؤتمر قمة عربية من أجل توحيد الصف العربي في المرحلة المقبلة ـ تلك التي ستسبق اتفاق سلام الجبناء ـ وحصل الرئيس بومدين على موافقة كل من القاهرة ودمشق لحضور مثل هذا المؤتمر، والذي حاول أيضا إقناع القادة العراقيين بالاشتراك في أعماله.

يظهر بوضوح ـ مما سبق ـ الجهد والدعم الذي قدمته الجزائر ممثله برئيسها وشعبها لمصر وسوريا في حربها حرصا منها على رد الصاع لـ(إسرائيل) واسترجاع الهيبة العربية، وأن هذا الدعم لم يقتصر على الدعم العسكري، وإنما كان سياسيا وماديا ومعنويا وإعلاميا، أي أنه شمل جميع المجالات، ولم يقتصر على مجال واحد، لأن الجزائر رأت في هذه الحرب الفرصة الأخيرة لطرد (إسرائيل) من الأراضي العربية التي احتلتها عام 1967.

رجل جزائري تكرهه باريس والرباط وتل أبيب

منذ الإعلان عن تولّي الفريق أول سعيد شنقريحة في 2019، مهام رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي ـ بقرار من رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون ـ ثارت ثائرة ثلاثة أطراف أظهرت كراهية حادّة لهذا الرجل: لماذا؟

أولا: تكرهه باريس، لأنه خلال سنوات عمله الأولى، انخرط ـ وهو في سن مبكرة ـ ضمن الثورة التحريرية الكبرى ضد الاستعمار الفرنسي، وعُرف عنه في تلك الفترة بأنه “خبير الدبابات”، وتلقى شنقريحة ـ بعد الاستقلال ـ دورات تدريبية في الجزائر وروسيا، وحصل على شهادات عسكرية عديدة في سلاح المدرعات وقيادة الأركان.

ثانيا: يكرهه نظام المخزن، لأن من ضمن سيرته الذاتية تبرز مشاركته في ما يُسمى بـ”حرب الرمال” ضد قطعان الجيش المغربي التي حاولت الاعتداء على الجزائر عام 1963، فجاءها الرد من أبطال حرب الاستقلال ـ “جنود جيش التحرير الوطني” ـ ومن بينهم المجاهد سعيد شنقريحة.

ثالثا: تكرهه (إسرائيل)، فخبرة شنقريحة العسكرية أهلته ليكون أحد قيادات الجيش الجزائري، التي ساعدت مصر في حرب الاستنزاف بعد نكسة 1967، ثم شارك مع القوات الجزائرية إلى جانب قوات الجيش المصري في حرب 1973.

وسبق لـ”اللواء نصر سالم” قائد جهاز الاستطلاع الأسبق في الجيش المصري، أن كشف عن الدور الذي لعبه سعيد شنقريحة قائد الجيش الجزائري في حرب أكتوبر، حين قال لقناة تلفزيونية: إن المشاركة الجزائرية في الحرب ضد (إسرائيل) كانت من خلال اللواء الثامن مدرع، وهو لواء قتالي قوي يضم نحو 5 آلاف مقاتل من أكفأ المقاتلين في حروب الدبابات والمدرعات، وكان مزودا بكافة العتاد والأسلحة اللازمة، ويضم جنودا وضباطا مشاة، ووسائل إسناد وإشارة ودعم، مضيفا أنه فور وصول اللواء المدرع إلى القاهرة تم نقله برا وبحرا وجوا إلى السويس لدعم الجيش المصري في المعركة ضد العدو على الأرض، وكان من بين خبراء الحرب هناك سعيد شنقريحة.

ويضيف قائد جهاز الاستطلاع الأسبق أن القوة الجزائرية شاركت في محاصرة جيش الاحتلال الصهيوني في ثغرة الدفرسوار، وكانت تمثل دعما وتجمعا قتاليا قويا للجيش المصري في حصار قوات العدو ـ بقيادة إريل شارون ـ في الثغرة، مشيرا إلى أن الخطة “شامل” التي وضعتها القيادة العسكرية لتصفية الثغرة وتدميرها وتصفية كافة القوات الصهيونية المتواجدة بها كانت ستتم بمشاركة القوة الجزائرية لولا تدخل هنري كيسنغر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق لوقف تنفيذها.

وأضاف “نصر سالم” أن كيسنغر توعد الرئيس الراحل أنور السادات بخوض الجيش الأمريكي للمعركة إلى جانب (إسرائيل) ضد مصر، لو قرر تصفية هذه الثغرة، متعهدا بأن (إسرائيل) ستقبل بوقف إطلاق النار واللجوء إلى المفاوضات لإعادة الأراضي المحتلة، وهو ما كان يريده السادات ورفضته الجزائر التي حارب شبابها الأبطال من أجل تحرير كل الأراضي العربية وليس من أجل التفاوض.

وقال المسؤول العسكري المصري الأسبق إن (إسرائيل) وبعد إظهار قوة الردع المصرية والجزائرية رضخت وقبلت بوقف النار مقابل عدم تصفية الثغرة، مضيفا أنه وعلى الفور أمر الرئيس السادات بوقف تنفيذ الخطة شامل، ووقف إطلاق النار، وبدء إطلاق عملية تفاوضية لفصل القوات عرفت فيما بعد بمفاوضات الكيلو 101.

الكلمة الأخيرة

وبينما كان الجنود الجزائريون مع إخوانهم المصريين يستعدون لإنهاء خرافة (إسرائيل) قال السادات: لن نكمل الحرب، وسنذهب إلى التفاوض، وهي العبارة التي نزلت كالصاعقة على أبطال الحرب فعاودوا إلى الوطن بعد مدة طويلة وفي قلوبهم ألم سببته لحظة النصر التي لم تكتمل، وكانت على مرمى نيران الجزائريين في ثغرة الدفرسوار حيث كان شارون يتنقل بين جحر وآخر مثل جرذ مذعور.

علي مغازي - الجزائر

علي مغازي - الجزائر

كاتب صحفي في موقع الأيام نيوز

اقرأ أيضا