رفقاءُ على درب الريشة والكلمة والصورة والشهادة.. إنهم يخرجون من غزّة فقط ليرتقوا إلى السّماء

الشاعر “عمر فارس أبو شاويش”، الشاعرة هبة أبو ندى”، الرسامة “هبة زقوت”، فنان الجداريات “محمد سامى قريقة”، المصور الصحافي “رشدي السراج”.. خمسة أسماء تلتقي في الريشة وسحر الكلمة وبلاغة الصورة وحب الدفاع عن الأرض وتراث فلسطين العريق، كما أنها أسماء تلتقي في حمل فخر الشهادة ـ فداء للوطن ـ فهؤلاء جميعا من بين الآلاف الذين استشهدوا تحت وطأة العدوان الصهيوني المتوحش على قطاع غزة.

“لن نرحل.. وسنخرج من غزة إلى السماء، وإلى السماء فقط”!

هكذا كتب المصور الصحافي رشدي السراج ـ عبر حسابه على منصة “فيسبوك” ـ قبل استشهاده بأيام، معلنا رفضه محاولات الاحتلال الصهيوني تهجير أهالي القطاع من أرضهم عبر حرب الإبادة التي يشنها منذ السابع من شهر أكتوبر الجاري.

وأعاد صحافيون وإعلاميون نشر تدوينة سراج على نطاق واسع، ناعين المصور الصحافي الذي دأب على توثيق جرائم الاحتلال وهول الدمار الذي تخلفه المقاتلات الصهيونية في قطاع غزة، وقد استهدف القصف الصهيوني منزل سراج الواقع في حي تل الهوى غربي مدينة غزة، ما أسفر عن ارتقائه في اليوم السادس عشر من عدوان الاحتلال الوحشي على القطاع، ليرتفع عدد الصحافيين الذين استشهدوا منذ بداية الحرب في 7 أكتوبر الجاري إلى 18 صحافيا.

وقالت “شروق العيلة” لمراسل الأناضول: “زوجي المصوّر الصحافي رشدي السراج استُشهد في قصف إسرائيلي على حي تل الهوا بمدينة غزة”، ويعمل السراج مديرا لشركة عين ميديا الإعلامية.

وقبل استشهاد رشدي السراج كانت وزارة الصحة الفلسطينية قد أعلنت عن استشهاد فنان الجداريات “محمد سامى قريقة” والفنانة التشكيلية الفلسطينية هبة زقوت (39 عاما)، والتي كانت قد نشرت قبل أسبوعين من استشهادها مقطعا مصورا عبر موقع «يوتيوب» تحدثت فيه عن رسالتها الفنية مع استعراض نماذج من لوحاتها.

وفى هذا المقطع، قالت: “أتعامل مع الفن كرسالة أقدمها إلى العالم الخارجي، من خلال التعبير عن القضية والهوية الفلسطينية»، وأضافت الفنانة التي استشهدت بصحبة طفليها: «أحاول أيضا التعبير في لوحاتي عن مدى القلق والمشاعر السلبية التي تعم داخل قطاع غزة”.

لكن، هذه المساعي لم تمنع لوحات زقوت من التحلي بالألوان الزاهية العاكسة للطبيعة الفلسطينية الفاتنة، فضلا عن تجسيدها سيدات وفتيات فلسطين وهن يرتدين «الأثواب» الوطنية بتطريزها المثالي والدقيق.

وقد ضمّنت زقوت ـ التي درست الفنون التشكيلية بجامعة الأقصى في غزة وعملت كمدرسة ـ لوحاتها روح الطبيعة الفلسطينية ومشاهد من معالم وطنها مثل «المسجد الأقصى» و«قبة الصخرة» ورسمت الحزن والفرح، الحواجز والجدران التي تمنع وصولها إلى عاصمة بلادها.

رسمت زقوت القصف الّذي يطال غزّة في أكثر من لوحة ورسمت جل الرموز الفلسطينيّة: الصبّار، والزيتون، والورود، والكوفية ودموع الأرامل وبهجة الأطفال وهم يلعبون في الساحات، بينما آلة القتل الصهيوني تراقبهم من بعيد وتترصد اللحظة الفاصلة لتصوب باتجاههم وهكذا تنتهي قصصهم قبل أن تبدأ.

وإلى جانب هبة زقوت، كان الفنان محمد سامى قريقة قد استشهد هو الآخر، وأعلن «مركز دار كلمة للفنون» أن قريقة ـ فنان الجداريات المتمكن ـ معروف بزياراته المتكرّرة إلى المواقع المكتظة بالمصابين منذ اندلاع العدوان على غزة، وخلال إحدى زياراته استشهد قريقة، الذي كان يحلم بافتتاح «غاليرى» للفنون في غزة.

لقد أراد منح الأطفال لحظة أمل بمساعدتهم على تحمل أصوات القصف والمشاهد الدموية، كان يوزع عليهم الأوراق وأدوات الرسم، ويوجههم إلى التعبير عن أنفسهم بالريشة والألوان، وبينما كان يفعل ذلك، تهاوى «مستشفى الأهلي المعمدانى» حيث كان الفنان يلهو مع الأطفال، ليمتزج دمه بدمائهم في مساء جنائزي ـ يوم 17 أكتوبر الجاري ـ سيخلده التاريخ في قصص أكثر الجرائم بشاعة في تاريخ الإنسانية.

في الجنة.. توجد غزة جديدة!

مساء السبت الماضي نعت وزيرة الدولة للتعاون الدولي بوزارة الخارجية القطرية “لولوة الخاطر” الشاعرة الفلسطينية هبة أبو ندى، التي استشهدت في قطاع غزة على أثر قصف جيش الاحتلال الصهيوني الوحشي لسكان القطاع.

وكتبت “الخاطر” في تغريدة على حسابها بمنصة “أكس”، مستعيرة عبارة كتبتها الشاعرة الفلسطينية على حسابها في “فيسبوك”: “في الجنة توجد غزة جديدة بلا حصار تتشكل الآن!”، وأضافت الخاطر: “الأديبة والشاعرة الفلسطينية هبة أبو ندى.. إلى جنات الخلود يا هبة، هنيئا لكِ الاستشهاد، وتعسا لنا وللعالم الذي فرّط في دمائك الطاهرة”.

في روايتها “الأكسجين ليس للموتى” (2017) ـ وهو العمل السردي الأول والأخير أيضا ـ كتبت الشهيدة هبة هذه الكلمات:

“هنا ستجدُ نفسكَ تبحثُ مع آدم عن قاتلٍ هُلامي، وتعيشُ مع والدتهِ وهي تفكُّ ألغاز الحبّ المرسومة على البذلة العسكرية، وتحبو مع عزيز نحوَ النور في آخرِ نفق أحلامه، وستتناولُ جوعكَ مع أولئكَ الذينَ يعدُّون موائدَ أرواحهم على حوافِّ المدن، وستهتف للجموع، ستُغنّي معها كأنك اكتشفتَ فمكَ قبلَ ثانية، واحذر لأنك ستُحبّ وتشعر بالأمل”.

الشهيدة كانت قد شاركت في عدد من الإصدارات الشعرية المُشتركة، منها: “أبجدية القيد الأخير”، و”العصف المأكول”، و”شاعر غزة”، متناولةً قضايا تستنزف الإنسان المُحاصَر في غزّة منذ سبعة عشر عاما، مازجة في أسلوبها مقاربات مختلفة عن الحبّ والحرب والتفاصيل اليومية.

وُلدت الشاعرة والمدوِّنة الفلسطينية عام 1991، لعائلة تنحدر من قرية بيت جرجا المُحتلّة، وحازت إجازة في الكيمياء الحيوية من “جامعة الأزهر” في غزّة، قبل أن تنشط في المجال التربوي، حيث عملت في مركز “رُسُل” التعليمي، فكانت قريبة من الأطفال وعوالمهم. لكنّ اهتمامها اللافت بالكتابة الإبداعية، وتوزُّع الأجناس الأدبية التي جرَّبتها، هو ما أضاء اسمها وموهبتها حقا.

انشغلت أبو ندى في روايتها (300 صفحة) بقضية العدالة، في محاولة منها للمَزج بين الواقع الفلسطيني تحت الاحتلال، وما شهدته البلدان العربية من انتفاضات بعد عام 2011. يُصوّر العمل إرادة الشعوب ورغبتها في العيش الحرّ الكريم، وما ارتكبته الأنظمة الاستبدادية من فظاعات في سبيل أن تبقى في السُّلطة. وتلجأ أبو ندى، لعرض هذه الفكرة، إلى “آدم”؛ بطل روايتها الذي تكتب عنه: “بزغَ آدم في أدَمة هذه الرواية من ذنْبٍ قديم مَنسيٍّ”، وكأننا نعود معه إلى زمنٍ بِكْر، لننطلق منه للبحث عن الحرية والعدالة و”قاتلٍ هُلامي”، لكنه معروف تماما.

مع صبيحة السابع من أكتوبر الجاري، تحوّل حساب أبو ندى على فيسبوك إلى ما وصفَته بـ”بيت عزاء”، سواء للأصدقاء الذين يقضون تحت القصف، أو للأهل والجيران وعموم أهالي غزة، تكتب:

بُعيد ساعات من انطلاقة عملية “طوفان الأقصى”: “أيُّ كاتب مجنون هذا الذي وضعَ كلّ الأحداث الصادمة في حلقة واحدة، لكنَّ شبابنا لا يُجيدون كتابة المسلسلات الخيالية. يُجيدون كتابة الواقع بالدم والنار! أيّتها الحلقة المهيبة لا تنتهي، كلّنا شهود الدهشة”.

أبو ندى ودّعت، عبر فيسبوك، صديقتها الكاتبةَ الغزاوية مريم سمير التي استشهدت هي الأخرى في قصف صهيوني، وقالت إنها قد تلحق رفيقتها قريبا في رحلتها الأبدية، فكانت هذه الكلمات آخر ما خطّته: “نحنُ في غزّة عند الله بين شهيد وشاهد على التحرير، وكلّنا ننتظر أين سنكون. كلّنا ننتظر اللهمّ وعدَك الحقّ”.

يُشار إلى أن من جملة الشهداء في غزة كُتّاب وفنانون وشعراء شباب، كالتشكيلية هبة زقوت، والكاتب والفنان الشاب يوسف دواس، والمصوّر رشدي السراج، والفنان والناشط علي نسمان، والشاعر عمر فارس أبو شاويش هذا الأخير الذي استشهد في اليوم الأول من عملية “طوفان الأقصى”.

الشهيد أبو شاويش ناشط مجتمعي بارز من مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، وله إسهامات مختلفة على الصعيد المجتمعي والشبابي والثقافي والفكري، وقد شارك في تأسيس العديد من الجمعيات والهيئات الشبابية، وقدم مبادرات متميزة في مجال الثقافة والأدب والعمل المجتمعي.

ويعتبر أبو شاويش من القيادات الشبابية أصحاب الخبرات في القيادة والتخطيط وبناء القدرات والعمل الإبداعي، وشارك في العديد من المؤتمرات الدولية والعربية والمحلية، وحصل على الجائزة في مجال الثقافة والأدب، منها جائزة الشباب العربي المتميز على مستوى الوطن العربي من قبل مجلس الشباب العربي للتنمية المتكاملة التابع لجامعة الدول العربية.

حميد سعدون

حميد سعدون

اقرأ أيضا