صديقُ الجزائر “بول بالطا”.. لماذا لا تُريد أوروبا فَهمَ العرب؟ (الجزء الأول)

“بول بالطا” (1929 – 2019) كاتبٌ وصحفيٌّ فرنسيٌّ مُختصٌّ في الشُّؤون العربية المعاصرة، وُلِد سنة 1929 بمدينة “الإسكندرية” في مصر، وتوفي سنة 2019 في “باريس”. قِيل أنَّه كان مُقرَّبًا من الرئيس الرَّاحل “هواري بومدين”، وارتدى “البرنوس” الجزائري في لقاءٍ معه.  وفقد كشفَت وكالة الأنباء الجزائرية بأنَّ “بالطا”: “كان صديقا كبيرًا للجزائر، استقبله الرئيس بومدين بصفته مراسلاً لصحيفة لوموند لمدة 50 ساعة من اللقاءات، امتدَّت من سنة 1973 إلى غاية 1978، بحسب أقوال بالطا نفسه”.

ألقى “بالطا” مُداخلةً في الجزائر سنة 1973، ودار موضوعُها حول “الحواجز التي منعَت أوروبا من فهمِ العرب”، ورأى أنَّ “مسألةَ التَّلاقي بين الثقافة العربية والثقافة الأوروبية” تعترِضها مجموعةٌ من الحواجز التي تنتمي إلى ثلاثة محاور: تاريخي، اجتماعي، سياسي.

وما يُفهَم من كلام “بالطا” أنَّ أوروبا لا تُريد أن تفهم العربَ، لأنَّها أبقَت الحقائق التاريخيَّة التي يُمكنها تحقيق التَّلاقي بين الثقافة العربية والثقافة الأوروبية، بعيدةً عن الإنسان الأوروبي، والكُتب المدرسيَّة، والإعلام الجماهيري.. وفي المقابل، روَّجَت لـ “التَّعصُّب الإسلامي”، ولتاريخ الحروب “الدينيَّة” بين أوروبا العرب، رغم أنَّ “الصَّليبيين في حربهم، كانت لهم أسبابٌ لا علاقة لها بالدِّين ولا بالآخرة إطلاقًا”، كما قال “بالطا”.

في الغالب، مُداخلة “بالطا” كانت في مُلتقى الفكر الإسلامي – لعله الملتقى الذي احتضنته مدينة تلمسان سنة 1973 – الذي تميَّزت به الجزائر عالميًّا، وأسهمَت به في مدِّ جُسور التَّلاقي الفكري والثَّقافي بين قارَّات العالم. وفيما يلي، تُقدِّم جريدة “الأيام نيوز” مداخلةَ “بول بالطا” نقلاً عن مجلة “الأصالة” الجزائرية الصادرة في شهر جانفي 1973.

“ديغول”.. يقول في الخفاء ما لا يقوله في العلَن

حدَّثني الجنرال “ديغول” يومًا عن علاقات فرنسا مع العالم العربي فقال: “إنَّ التجارة والاقتصاد والثقافة، كلُّها أمورٌ مهمَّة، ويجب أن نتكلَّم عمَّا يجري فيه العمل من هذه الأمور، لأنَّها هي التي تهيئ المستقبلَ. يجب أن ننظر إلى البعيد. انظروا مثلاً إلى الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، تجدون بلدانًا في طريق النمو. ولكن توجد عند أهلها حضارة أيضًا، وثقافة وإنسانية وحسٌّ بالعلاقات الإنسانية لا نجدها في مجتمعاتنا نحن المُصنِّعة. ولعله يسعدنا يوما أن نجدها عندهم.

إنَّنا وإيَّاهم جميعًا نتقدَّم، بحسب سرعتنا وإمكانياتنا وعبقريتنا نحو حضارة صناعِيَّة. ولكن إذا أردنا أن نكوِّن حضارةً حول البحر الأبيض المتوسط مهدَ الحضارات، وإذا أردنا ألاَّ تكون هذه الحضارة على الطراز الأمريكي حتى يكون فيها الإنسان غايةً لا وسيلة – إذا أردنا كل ذلك – فيجب أن تنفتح ثقافتانا انفتاحًا واسعًا – نحو بعضهما البعض”.

وعند ما سألته لماذا لا يقول مثل هذا الكلام أمام العُموم في مؤتمر صحفي مثلاً، أجابني بقوله: “كنت أخشى أن يُسيء فهمي الناسُ”. ثم رفَع رأسه، وأضاف: “وأخشى الآن أنَّ اليومَ الذي يحسن الناسُ فيه فهمَ هذا الكلام، يكون قد فات أوان فائدته”.

صحفِيٌّ يريد أن يفهَم نفسِيَّة الشُّعوب

إنَّ في هذا الكلام مَسحةٌ من التَّشاؤم لا محالة، ولكننا لا نجد مَناصًا من الاعتراف بأنَّه يوجد فيه نصيبٌ من الحقيقة، إذا لم نقل كل الحقيقة. ومن المؤكَّد أنَّ الجنرال “ديغول”، في هذا القول، كان يفكِّر في مصلحة فرنسا، ولكن الوضعِيَّة القائمة في فرنسا لا تبدو لي في هذا الميدان مختلفةً عمَّا عليه في الأقطار الأوروبية الأخرى. إنَّ من المحتمل أن يرى الاختصاصيون وأساتذة اللغة العربية والأدب العربي والمؤرخون وعلماء الاجتماع والباحثون، وباختصار كل المُهتمِّين بالعالم العربي والإسلام أن يروا الأمورَ بمنظارٍ أكثر اعتدالاً، في الحدود التي تسمح لهم فيها أعمالهم بالمحافظة على الاتِّصال المستمر مع رجال العالم العربي والإسلامي، ومع ماضيه وحاضره وآثاره.

أما بالنسبة إلى صحفي مُختصٍّ في الشُّؤون العربية المعاصرة، ولكنه لا يريد أن يقصر اهتمامه على جانب الحوادث والحقائق والتواريخ التي تجري حاليًّا، بل يريد أن يفهم نفسِيَّة الشعوب، ويوسِّع ميدان نشاطه إلى علم الاجتماع، لأنَّ هذا العِلم يساعده أكثر على فهمِ الظَّواهر الاقتصادية والسياسية. إنَّ صحفِيًّا كهذا تبدو له الوضعِيَّةُ مخيِّبة للأمل من عدة جوانب.

إنَّ هذا المُلتقى قد اتَّخذ كموضوعٍ له مسألةَ التَّلاقي بين الثقافة العربية والثقافة الأوروبية. وأودُّ من ناحيتي أن انكبَّ بالخصوص على الحواجز التي تشكِّل عرقلةً في طريق هذا التَّلاقي. والبحث في هذه العراقيل، أليس هو مِن نوعِ البحث عن أسباب المرض لإيجاد أنجع الأدوية؟ وهذه الحواجز منها ما هو مِن نوعٍ تاريخيٍّ، وآخر اجتماعيٍّ، ونوعٍ أخيرٍ سياسيٍّ.

الحواجزُ التاريخِيَّة

في المجتمع الأوروبي، كثيرًا ما نثير ذكريات الحروب الصليبية والغزو العربي إلى “بواتيي”، والنِّزاع التقليدي بين الصَّليب والهلال وما نسمِّيه بـ “التَّعصب الإسلامي”، كل ذلك نفسِّر به موقف التحرُّز، إن لم يكن موقف العداء – كما لو كان العداء هو دائما القاعدة – وفي كثير من الأحيان نستعمل هذه الكليشيهات لنبرز بها الصعوبات القائمة بين الثقافتين.

أمَّا أن يكون العالَمان الأوروبي والعربي قد تحاربَا فهذا ما لا يستطيع إنكاره أحدٌ. ولكن هل نستطيع أن ننسى أنَّ المسيحِيَّة والإسلام قد تعايشا أربعة قرون: إذ توفي “محمد” (ص) سنة 632، والحرب الصليبية الأولى وقعَت سنة 1095. وفي هذه القرون الأربعة، فإنَّ وجود المسلمين في الأرض المُقدَّسة، لم يُثِر أيَّ نزاعٍ خطيرٍ بين الكنيسة والخلفاء المسلمين، كما لم يمنع الحُجَّاج المسيحيين من التوجُّه إلى “القدس”. فهل نقول هذا في كُتبنا المدرسِيَّة؟ وهل يمكننا أن ننسى أن الصَّليبيين في حربهم كانت لهم أسبابٌ لا علاقة لها بالدِّين ولا بالآخرة إطلاقًا؟ وهل ننسى أنَّ “صقلِّيَة” في عهد “روجي الثاني” و”فريدريك الثاني”، في القرون الوسطى، كانت مهدًا للثقافة الإسلامية المسيحية والتي كان يفتخر فيها الأوروبيون بأنَّهم يتكلمون اللغةَ العربية؟

قاموس “لاروس” يُزيِّف التَّاريخَ

لننظر الآن كيف كتَبنا نحن هذا التاريخ، ولنفتح قاموس “لاروس” الكبير الذي يستغرقُ عشرةَ أجزاءٍ، إنَّنا لا نجد فيه أيَّ ذكرٍ لـ “روجي الثاني”، ولا لـ “فريدريك الثاني”، وإنَّنا نجد في كلمة “صقلِّيَة” هذه المعلومات: تعرَّضَت صقلِّيَة للغزو العربي، ولكن اللغة اليونانية واللغة اللاتينية لم تُمحَيَا منها.. وازدهرَت في هذه الفترة الآدابُ والهندسة المعمارية.. وقد هزَم “هوتفيل” العربَ، وحرَّر الجزيرةَ من سيطرتهم، وجعل صقلِّيَة مركزًا لمملكةٍ مزدهرةٍ قويةٍ… وقد احترم “النُّورمان” شعائرَ الإسلام وتقاليد أهله”.

ونلاحظ في هذا النصِّ اختيار الكلمات والتعابير بعنايةٍ. ولكن ما هو الشُّعورُ الذي نخرج به من قراءته، إلاَّ أنَّ الغزو النورماندي كان أكثر حضارةً وأكثر تسامُحًا من حضارةً وتسامُح العرب؟ ومع هذا، يكفي أن يزور المرءُ هذه الجزيرة الجميلة، ويستنطق الهندسةَ المِعمارية فيها وحدها ليعرف أنَّها كانت مُلتقى رائعًا لتعاون الحضارتَين: النورماندِيَّة والعربية.

من ينسى فضلَ المُسلمين على أوروبا؟!

وهل يمكننا أن ننسى أنَّ إسبانيا نادرًا ما بلغَت في تاريخها مستوى الرَّخاء الذي بلغته في أيام مملكة قرطبة وغرناطة (739 – 1492)، وأنَّها لم تستطع أن تنفلِتَ من قبضة محاكم التفتيش التي أعقبَت تاريخَ الإسلام؟

وهل يمكننا أن نجهل ذكرى “بواتي”، وذِكر الحروب الصليبية لم تمنع “فرانسوا الأول” من الاستنجاد بالخليفة العثماني “سليمان الثاني” في القرن السادس عشر ليواجه سيطرة “شارل كان” على البحر الأبيض المتوسط؟

وهل يمكننا أن ننسى أنَّ فرنسا الجمهورية قد تابعَت باستمراريةٍ رائعة سياسةَ التعاون، التي كان يسير عليها النظامُ الملكي قبلها مع العالم العربي الإسلامي؟ وهل يمكننا أن ننسى أخيرًا أنَّ كُتَّابَ “دائرة المعارف الفرنسية” أنفسهم كانوا يعطون المُفكِّرين والفلاسفة المسلمين كمثالٍ على التَّسامح؟ وأنَّ “التعصُّب”، الذي كثُرَ عنه الحديث هو ظاهرةٌ متأخِّرةٌ نسبِيًّا، ارتبطَت بظاهرة أخرى هي الاستعمار، فكان في الحقيقة عبارة عن ردِّ فعلٍ دفاعيٍّ قام به جسمُ المجتمع.

ماذا قال المُؤرِّخ “میشلي”؟

وأريدُ بعد هذه التَّحلِيقة التاريخِيَّة القصيرة أن استشهد بأحد كُتَّاب القرن التاسع عشر، وهو “میشلي”، لأنَّه صوَّر لنا بأقصى ما يمكن من الدقَّة والعُمق المستوى الفكري الذي كانت عليه أوروبا في القرن السادس عشر. إنَّ نظرةَ هذا الكاتب ما تزال بالنسبة إلينا نحن أبناء القرن العشرين غنِيَّة بالمعلومات. يقول “ميشلي”: “باستثناء البندقية وبعض الفرنسيين، لا نجد رجلاً في أوروبا يعرف شيئًا عن الشرق. وعند ما أفَل نجم البندقية، ورثت عنها فرنسا دور الوساطة بين الإسلام والمسيحية، أي بدور إنقاذ أوروبا. لقد أصبحت فرنسا بعد البندقية، وبإعانة الأتراك، هي المُدافع عن المسيحية حتى لا تقضي على نفسها، فحفظتها من أن تقضي عليها إسبانيا ومحاكم تفتيشها. لهذا يجب أن نحيِّي الرجالَ الأحرار، ذوي الأفكار والشجاعة الذين كانوا من باريس والبندقية من ناحية، ومن إسطنبول من ناحية أخرى. يمدُّون أيديهم بعضهم إلى بعض عبر القارة الأوروبية لينقذوها. فلتقشعِرَّ الأرضُ، ولترعد السماءُ.. فإنَّ ما حصل، بفضل الجرأة اللاَّدينية، والعمل المُقدَّس، الذي تمَّ من خلال التَّصالح بين أوروبا وآسيا، هو الذي خلق التَّوازن الجديد والنِّظام الأعظم للعصر الحديث، وهو كونُ الانسجام المسيحي قد تُرِك واختفى، وترَك المكان للانسجام الإنساني”. (ميشلي: هو المؤرِّخ الفرنسي “جول ميشلي” (1798 – 1874) اشتهر بكراهيَّته للعصور الوُسطى في أوروبا، ومحاولته لإنتاج مفهوم “عالمي” للإنسانيَّة).

“الكليشيهات” المُعادية للعرب

إنَّ هذه النزعة الإنسانية هي التي يجب علينا نحن اليوم أن نوليها الصدارةَ من اهتمامنا. ولكن بالرَّغم من وجود بعض الرُّواد في هذا المجال، فإنَّه يُخيَّل إليَّ أنَّنا ما زلنا بعيدين عن هذه الغاية. ذلك أنَّه – بعد الحاجز التاريخي الذي نكتبه ونقرؤه – يقوم في طريقنا الحاجزُ المجتمعي، و”الكليشيهات” المُعادية للعرب، والضَّارِبة بعرُوقها في أعماق الكثيرين منا. يرجع تاريخها إلى حد بعيد، إلى العهد الاستعماري، إنَّ الاستعمارَ لكي يبرِّر وجوده من الناحية الأخلاقية، عمَد إلى التَّنقيص، أو التشويه، بل إلى إنكار القيم العربية الإسلامية إطلاقًا. ولنأخذ مثلاً صارخًا على ذلك، أذكرُ أنَّ كُتب التاريخ التي تعلَّمتُها في المدرسة، كانت تقف عند القول بأنَّ “شارل مارتيل” قد هزَم العربَ سنة 732، وبقِيَت صورةُ العرب في ذهني وأنا طفلٌ، هي صورة الهَمَج الذين قدِمُوا من آسيا الوسطى في القرن الخامس غازين أوروبا وخاصة فرنسا. وذلك لأنَّ تلك الكتب لا تذكُر لنا، إلى جانب ذلك، أنَّ العرب قد أقاموا حضارةً في إسبانيا من ألمع الحضارات، حضارة لم تكن تُدانيها حالة فرنسا إذَّاك وحالة بقِيَّة أوروبا.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا