على طريق النضال من أجل فلسطين.. إنها ثورة الطلاب من الجزائر إلى أمريكا

يقود طلبة الجامعات الأمريكية – وعدد من الجامعات في أوروبا أيضًا – معركة شرسة، ولكن بوسائل سلمية، ضد المؤسسة الصهيونية التي تفرض على عواصم الغرب دعم الاحتلال الصهيوني في حربه الإبادية ضد الفلسطينيين، وتحديدًا في قطاع غزة. هذا المشهد يُعيد إلى الأذهان الأحداث التي جرت قبل 68 عامًا، تحديدًا في 19 ماي 1956، عندما قرر الشباب الجزائري المثقف أن يأخذ بزمام المبادرة ويحدّد مصيره بنفسه، وينخرط بقوة في العمل السياسي الثوري من أجل تحرير بلاده وإعادة بنائها. وكما أعطى موقف الطلبة الجزائريين نَفَسا قويا للثورة التحريرية التي نجحت في تحقيق الاستقلال عام 1962، فإنّ تضامن الطلبة في الغرب يعزّز الآمال في تحقيق نتائج مماثلة لصالح القضية الفلسطينية على المستوى العالمي.

=== أعدّ الملف: حميد سعدون – سهام سوماتي – منير بن دادي ===

تحيي الجزائر – هذا الأحد – اليوم الوطني للطالب المخلّد للذكرى الـ68 لإضراب 19 ماي 1956 التاريخي، وهي مناسبة تأتي – كل عام – لاستذكار مكاسب الجامعة الجزائرية وإسهاماتها في عملية التشييد بعد الاستقلال والوقوف عند الإصلاحات التي تشهدها الجامعة حاليا لجعلها قاطرة للتنمية في البلاد، ما يعني أنّ هذه الذكرى لم تعد مرتبطة بالتاريخ فحسب، بل أيضا لرسم الطريق السليم نحو المستقبل.

وكان النداء الذي أطلقه الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين لخوض إضراب مفتوح -قبل 68 عاما – خلال حرب التحرير الوطنية، قد لخّص عدالة القضية الوطنية في وجه الاستعمار الفرنسي وبرهن على وعي الطلبة وتلاميذ الثانويات الذين التحقوا بالكفاح المسلّح.

وبعد مرور عام على اندلاع الثورة التحريرية المجيدة، برزت قناعة أنّ العمل المسلّح الذي تمت مباشرته سنة 1954 كان بحاجة إلى نفس جديد وإطارات شابة لدعم خطوط المواجهة مع العدو خارج أرض المعركة، من خلال التصدي للحرب النفسية والمناورات السياسية والدبلوماسية التي باشرها المستعمر.

وهكذا كان الاهتداء إلى ضرورة انخراط طلبة الجامعات وتلاميذ الثانويات والمتوسطات وحتى الزوايا في مسار ثوري جديد متعدّد الأطراف والأوجه، هدفه إسهام الكفاءات الشابة في تسيير الثورة لتحرير البلاد والتكفل بعدها بمهمة البناء والتشييد انطلاقا من رصيد معرفي عزّز مؤسسات الدولة خلال السنوات الأولى التي أعقبت الاستقلال.

ويأتي اليوم الوطني للطالب هذا العام في ظرف عصيب تمر به القضية الفلسطينية التي تواجه – مند 8 أكتوبر 2023 – عدوانا صهيونيا مدعوما من الغرب، خلّف عشرات آلاف الشهداء والجرحى والمفقودين وسط وضع إنساني كارثي ومجاعة متفاقمة تخيم على القطاع المحاصر، لكن، بالمقابل فإنّ المقاومة الفلسطينية نجحت في إلحاق الهزيمة بالاحتلال على أرض الميدان، وبالمقابل، نجحت المقاومة الفلسطينية في تحقيق انتصارات ميدانية ضد الاحتلال، والحصول على دعم داخل المؤسسات الدولية وفي الإعلام، والأهم من ذلك، كسب تأييد الرأي العام العالمي، خاصة من خلال احتجاجات الطلبة الأمريكيين التي امتدت إلى جامعات الغرب، ما أظهر أنّ القضية الفلسطينية تسير على خطى الثورة الجزائرية المباركة.

استحضار التجارب النضالية

تستحضر الاحتجاجات الطلابية الواسعة النطاق في الجامعات الأمريكية، التي تندد بالحرب الدائرة في غزة، ذكرى موجة المظاهرات العارمة التي شهدتها الولايات المتحدة خلال أواخر ستينيات القرن الماضي وما تلاها من سنوات، كما أنها قد تنجح في استلهام العبر من إضراب الطلبة الجزائريين الذي أعطى نفسا قويا للثورة التحريرية.

ولطالما اعتصم طلاب الجامعات الأمريكية، في مناسبات عديدة عبر التاريخ، داخل الحرم الجامعي أو خرجوا إلى الشوارع رافعين شعارات الاحتجاج والغضب، رفضاً لقضايا مختلفة مثل حرب فيتنام ونظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، أو للمطالبة بحقوق أخرى، مثل حركة الحقوق المدنية التي ساهمت في إنهاء التمييز ضد الأمريكيين من أصل إفريقي. وفي أحيان أخرى، كانت مطالبهم تتعلق بتغيير سياسات جامعاتهم ونظامها التعليمي.

في الجزائر، قرّر طلبة الجامعات والثانويات في 19 ماي 1956، شنّ إضراب عن الدروس والامتحانات استجابة لنداء جبهة التحرير الوطني، ما أدى إلى التحاق أكثر من 150 طالبًا بصفوف جيش التحرير الوطني، من بينهم عمارة رشيد وعلاوة بن بعطوش وطالب عبد الرحمن.

وكان هدف هذا الإضراب الدعوة إلى دعم الثورة التحريرية والإسهام في إحداث نقلة نوعية في مسارها، مع إسماع صوتها في المحافل الدولية وإعطاء بعد سياسي وإعلامي للقضية الجزائرية التي كانت بأمس الحاجة للكفاءات التنظيمية.

وبالمقابل، فإنّ أشهر الاحتجاجات الطلابية التي اندلعت في الولايات المتحدة، تعود إلى ربيع عام 1968، حين سيطر أكثر من ألف طالب في جامعة هوارد، التي تضم غالبية من الطلاب ذوي الأصول الإفريقية، على المبنى الإداري للمؤسسة. طالب المتظاهرون حينها باستقالة رئيس الجامعة، وتركيز المنهج التعليمي على تاريخ وثقافة الأمريكيين الأفارقة، وإنشاء نظام قضائي يشمل الطلاب، وإسقاط الإجراءات التأديبية بحق الطلاب المشاركين في احتجاج سابق، واستجابت الجامعة في النهاية لبعض هذه المطالب.

ففي شهر واحد فقط بعد احتجاجات هوارد، وفي خضم الجدل حول الحرب في فيتنام، استخدم طلاب جامعة كولومبيا تكتيكًا احتجاجيًا مماثلاً للمطالبة بإلغاء عقد يربط الجامعة بمركز أبحاث للأسلحة ومنع خطط لبناء صالة رياضية في حديقة عامة في حي هارلم، وقد احتل الطلاب عدة مبانٍ في المؤسسة لمدة أسبوع قبل أن يقتحم حوالي ألف رجل أمن الحرم الجامعي لإخلائهم، ما أدى إلى إصابة أكثر من 100 شخص واعتقال أكثر من 700 شخص.

وشلت الاحتجاجات الجامعة التي قررت في النهاية إنهاء علاقاتها مع مركز الأبحاث الدفاعي وإيقاف خطة بناء صالة الألعاب، وانتقلت عدوى هذه الاحتجاجات إلى الجانب الآخر من الأطلسي، إذ تمرّد طلاب جامعات فرنسية وبولندية ضدّ حكوماتهم، أما ما يحدث اليوم بسبب حرب الإبادة، فإنّ احتجاجات الطلبة الأمريكيين امتدت إلى عواصم عالمية أخرى.

وكانت سلسلة اعتصامات واحتجاجات طلابية، قد بدأت من جامعة كولومبيا يوم 17 أفريل 2024، دعا فيها الطلبة إلى وقف الحرب الصهيونية على غزة ووقف تعاون إدارة جامعاتهم مع جامعات صهيونية وسحب استثماراتها من الشركات الداعمة للاحتلال، والسماح لهم بحرية التعبير.

ومع تدخل قوات الشرطة واعتقال عشرات الطلاب، اتسعت رقعة المظاهرات ووصلت إلى أكثر من 70 جامعة أمريكية، منها هارفارد وييل ومعهد ماساشوستس للتكنولوجيا، وامتدت إلى خارج أمريكا ووصلت إلى جامعات في فرنسا وبريطانيا وألمانيا.

وبدأ الحراك الطلابي في جامعة كولومبيا يوم 17 أفريل 2024، حيث نظّم تحالف طلابي يضم أكثر من 120 منظمة طلابية وأعضاء هيئة التدريس اعتصاما، ونصبوا خيامهم في حديقة الجامعة المحاطة بالسياج، وقالوا إنهم أقاموها في احترام كامل للقانون بحيث لا يتّهمهم المسؤولون بتعطيل الفصول الدراسية.

وقد تزامن الاعتصام يومها مع جلسة رئيسة الجامعة “نعمت شفيق” أمام لجنة بمجلس النواب الأمريكي لاستجوابها حول ما وصفه بعض النواب بـ”معاداة السامية بالحرم الجامعي”، إذ اتهموها بالإخفاق في حماية الطلاب اليهود.

طوفان الاحتجاجات يمتد ويتوسّع

وقادت الحراك، نواد طلابية في الجامعات، منها نواد يهودية تنادي إلى السلام، وشارك في الاعتصامات طلاب من جنسيات وديانات وأعراق مختلفة. ومن هذه الأندية التي شاركت في الحراك بجامعة كولومبيا، نادي “طلاب من أجل العدالة في فلسطين”، ونادي “الصوت اليهودي من أجل السلام”. وقد بدأ الطلاب احتجاجهم بنصب الخيام، ونشروا دعوات على مواقع الأندية الطلابية طالبوا فيها السياسيين بوقف إطلاق النار في غزة. وتواصلت الاحتجاجات بعد ذلك في العديد من الجامعات الأمريكية، وتمدّدت لتشمل جامعات في كندا وبريطانيا وأسكتلندا وأيرلندا.

والآن يواصل الطلاب في أكثر من 20 جامعة وكلية بمختلف مناطق بريطانيا اعتصاماتهم المفتوحة تضامنا مع قطاع غزة، بينما أعلنت جامعة في بلجيكا إيقاف التعاون مع 3 مراكز بحثية صهيونية. وهدّد الطلاب بتصعيد حراكهم، لزيادة الضغط على الجامعات لقطع جميع ارتباطاتها بالمؤسسات والشركات التي يقولون إنها متواطئة في حرب الإبادة الصهيونية بغزة.

ومن أبرز هذه الجامعات والكليات: كامبردج وأكسفورد وكوين ميري في لندن، وكلية كينغز لندن، وكلية لندن للاقتصاد، والكلية الجامعية في لندن، وكلية الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن.

وقد انضم طلاب جامعة يورك (وسط إنكلترا) إلى الحراك الطلابي المتنامي، ونصب طلاب وموظفون بالجامعة خيامهم في حرمها، معتبرين أنّ إدارة الجامعة لا تزال تقدّم دعما غير مباشر للكيان، رغم إعلانها أنها ستسحب استثماراتها من شركات تصنّع وتبيع أسلحة لها.

هذه الاحتجاجات الطلابية المتنامية في كل دول الغرب، وضعت الاحتلال الصهيوني في دائرة ضيقة، وأظهرت مدى تواطؤ الحكومات الغربية مع حرب الإبادة، وبات الفلسطينيون يشعرون بالامتنان عندما يرون ساحات الحرم بالجامعات الأمريكية تشتعل غضبا بسبب الحرب الصهيونية على قطاع غزة، ما يتيح إمكانية الاستلهام من تجربة الطلاب الجزائريين.

ويعدّ إضراب 19 ماي 1956 من أهم أحداث تاريخ الثورة التحريرية كونه برهن للمستعمر الفرنسي عن انتماء الفئة المتعلمة إلى وطنها الجزائر عكس ما كانت تتوقعه فرنسا التي كانت ترى – من باب سوء التقدير – أنّ هذه الفئة مجرد مخزون سيدعم موقفها في المستقبل.

وكان الطلبة والتلاميذ الجزائريون من الأوائل الذين التحقوا بصفوف الثورة التحريرية، حيث بعد تأسيس الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين في جويلية 1955 أي بعد 8 أشهر فقط من اندلاع الثورة، لم يمض عام واحد حتى أعلن الطلبة عن إضرابهم المفتوح بتاريخ 19 ماي 1956 ثم التحاقهم الرسمي بصفوف جيش التحرير الوطني.

وقد وجّه قادة هذه المنظمة، نداء بالإضراب العام لزملائهم في جامعة الجزائر وفي جامعات أخرى في فرنسا وفي البلدان العربية وكذا لتلاميذ الثانويات والمتوسطات، وكان عدد الطلبة الجزائريين آنذاك يقارب 684 طالب مسجّل في جامعة الجزائر من بينهم 67 طالبة، من مجموع نحو 200 5 طالب مسجلين في كل الفروع.

واستجاب الجامعيون والمثقفون الجزائريون بالمئات لنداء الواجب، لتلتحق بهم حشود من طلبة الثانويات والمتوسطات بالجبال، إلى جانب جنود جيش التحرير الوطني وكان دخولهم في غمار الكفاح قد غيّر المعطيات بشهادة العديد من الفاعلين في الثورة ومؤرخي حرب التحرير. وقد مكّن دعم الحركة الطلابية الجزائرية ومعها المفكّرين الجزائريين لجيش التحرير الوطني من إحباط الإستراتيجية الاستعمارية الهادفة إلى عزل الشعب عن نخبته المثقفة وعن جيشه.

وبنى الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين، الذي زوّد جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني بخيرة إطاراته في عدة ميادين كالصحة والاتصالات والإدارة والدبلوماسية والإعلام، حركته الطلابية بإحكام وحنكة على أساس الحركة الوطنية وذلك بحضوره المكثف في جميع المستويات السياسية والعسكرية للثورة. وكان أول رد فعل للسلطات الاستعمارية هو حل الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين في جانفي 1958 وتوقيف الطلبة الذين عذّبوا وألقي بهم في السجون الاستعمارية.

بيان ثوري بلغة العصر

ومن أهم نتائج نضال المثقفين والطلبة الجزائريين خلال السنوات الأولى للثورة، تدويل القضية الجزائرية، إذ أنّ مكاتب الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين، قدّر عددها آنذاك بـ18 مكتبا كانت موزّعة عبر أربع قارات، وكرّس الطلبة فيها عملهم وجهودهم لنشر المعلومات حول القضية الجزائرية ومساعدة اللاجئين، كما تحصلوا على منح دراسية لفائدة الطلبة الجزائريين وكانوا يشاركون في جمع المساعدات وتوضيح دوافع كفاح الشعب الجزائري للرأي العام في البلدان الغربية.

كما اكتسب هؤلاء الشباب الذين كان معظمهم ينحدرون من المدن وغير معتادين على قسوة العيش في الجبال، مهارات جديدة في قطاعات عدة منها الصحة والاتصالات العامة مع إنشاء إذاعة صوت الجزائر الحرة عام 1956.

وحسب شهادة سابقة لمسؤول سابق بوزارة التسليح والاتصالات العامة، دحو ولد قابلية، فقد تم خلال الثورة التحريرية، تكوين 900 عون اتصال و44 طيارا و07 مختصين في الرادار والعشرات من ضباط البحرية والمشاة الذين سمح تأطيرهم بسد الفراغ في الكفاءات غداة استرجاع البلاد لسيادتها الوطنية.

يذكر أنّ الكلمات التي ألهبت قلوب الطلبة ودفعت بهم إلى نكران الذات والاستجابة لنداء الوطن والتي حرّرها المجاهد لمين خان تضمّنت المعاني السامية للتضحية وتغليب المصلحة العليا للبلاد وهي المعاني التي تبقى صالحة لكل زمان.

ومما جاء في بيان إضراب 19 ماي 1956 الموجه للطلبة: “إن تحصلنا على شهادة لا يجعل منا جثثا أفضل.. وسلبيتنا إزاء الحرب تجعلنا متواطئين مع الاتهامات الحقيرة التي توجه إلى جيشنا الوطني الباسل. إنّ السكينة المصطنعة التي وضعنا أنفسنا فيها لم تعد ترضي ضمائرنا، يجب مغادرة مقاعد الدراسة للالتحاق بالجبال”. وكتب محرّر البيان: “إنّ الواجب ينادينا إلى القيام بمهمات تفرضها الظروف علينا فرضا وتتسم بالسمو والمجد”.

وتحمل قصة الطلبة الجزائريين في النضال من أجل الاستقلال، دروسًا قيّمة يمكن الاستفادة منها في تعزيز التضامن مع الفلسطينيين في الجامعات الغربية. فقد أثبت الطلبة الجزائريون في خمسينيات القرن الماضي قدرتهم على تنظيم حركة مؤثّرة ساهمت في تحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي، وفي ظل الظروف الحالية التي تواجهها القضية الفلسطينية، يمكن استلهام العديد من الإستراتيجيات والتكتيكات من تلك التجربة الناجحة.

ويبدو أنّ أحد أبرز الدروس من التجربة الجزائرية هو أهمية الوحدة والتنظيم بين الطلبة، وهذه الخطوة الهامة أظهرت قوة تأثير الطلاب عندما يتّحدون تحت هدف مشترك، وفي السياق الحالي، يمكن للطلبة في الجامعات الغربية تنظيم أنفسهم ضمن اتحادات ومجموعات تهدف إلى دعم القضية الفلسطينية، مؤكدين على أهمية التضامن والوحدة في وجه الظلم.

وكان للطلبة الجزائريين، دور كبير في نقل قضية بلادهم إلى الساحة الدولية، من خلال الكتابات والمظاهرات التي لفتت انتباه العالم إلى نضالهم العادل. ويمكن للطلبة في الجامعات الغربية الاستفادة من وسائل الإعلام الحديثة، ووسائل التواصل الاجتماعي، لنقل معاناة الشعب الفلسطيني وتسليط الضوء على الانتهاكات التي يتعرض لها. فمن خلال إنشاء حملات رقمية مؤثرة ونشر قصص شخصية يمكن أن يساهم في زيادة الوعي العالمي وتحفيز الرأي العام.

لقد شهدت الجامعات الغربية، خصوصًا في الولايات المتحدة وأوروبا، احتجاجات طلابية مؤثرة عبر التاريخ، وبالتالي فيمكن دمج الدروس المستفادة من تلك الاحتجاجات مع التجربة الجزائرية لتطوير إستراتيجيات فعالة. على سبيل المثال، الاعتصامات داخل الحرم الجامعي، تنظيم المؤتمرات والندوات، والدعوة إلى مقاطعة الأكاديميين الذين يدعمون الاحتلال.

كما تعد تجربة الطلبة الجزائريين في النضال من أجل الاستقلال، منارة يمكن الاستفادة منها في تعزيز التضامن مع الفلسطينيين في الجامعات الغربية، من خلال الوحدة والتنظيم، استخدام الوسائل السلمية، التأثير الإعلامي، بناء التحالفات.

تلاحم العلم والمبادئ الإنسانية..

من ثورة الطلبة الجزائريين إلى احتجاجات الجامعات الغربية

يرى الأستاذ والباحث الجزائري في الشؤون الدولية، عبد الرحمان بوثلجة، أنّ هناك جملة من النقاط المشتركة بين ما جرى في الجزائر قبل 68 عامًا، تحديدًا في 19 ماي 1956، عندما قرر الشباب الجزائري المثقف أن يأخذوا بزمام المبادرة ويحددوا مصيرهم بأنفسهم، وينخرطوا بقوة في العمل السياسي الثوري من أجل تحرير بلادهم واستعادة سيادتها، وبين الحركات الطلابية التي تشهدها الجامعات الأمريكية وأخرى غربية، والتي جاءت دعماً للحق الفلسطيني وتنديداً بالعدوان الصهيوني المتواصل على قطاع غزّة منذ نحو سبعة أشهر على التوالي.

وفي هذا الصدد، أوضح الأستاذ بوثلجة في تصريح لـ “الأيام نيوز”، أنّه ومن خلال مقارنة بسيطة بين هذين الحدثين، نجد أنّ العلم دائماً ما يتماشى ويتناسق مع المبادئ الإنسانية السامية والفطرة السليمة للبشر، بما في ذلك الرغبة في التحرر والانعتاق من براثين الاحتلال، ونُصرة أصحاب الحق والوقوف في وجه الظالم، وهي القيّم التي من المفروض أن تتحلى بها الإنسانية جمعاء في عالمنا اليوم.

في السياق ذاته، أبرز الخبير السياسي، أنّ المعروف عن المجتمع الأمريكي أنّه مجتمع منغلق على نفسه، بمعنى أن المواطن الأمريكي البسيط لا يُبلي بالاً لتلك الأحداث الجارية خارج دائرته الداخلية، وهذا شيء طبيعي إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنّ الولايات المتحدة الأمريكية هي أكبر دولة في العالم والأكثر تطورا وتصنيعا، لذلك نجد أنّ الأمريكيين لا يهتمون كثيرا بما يجري في العالم، لكن وعلى غير العادة، استطاعت معركة “طوفان الأقصى” أن تكسر القاعدة هذه المرة، وأصبحت القضية الفلسطينية حاضرة وبقوة داخل المجتمع الأمريكي، خاصةً بعد تمادي الاحتلال الصهيوني في ارتكاب مجازر دامية بحق الآمنين في بيوتهم في القطاع، في مشاهد مروعة لم يشهد لها التاريخ الحديث مثيلا.

على صعيدٍ متصل، أشار محدثنا، إلى أنّ الطلبة اليوم ومن خلال حركاتهم الاحتجاجية عبر مختلف الجامعات الأمريكية يعبرون عن مدى الوعي الذي اكتسبوه عن طريق العلم والانفتاح على الآخر، فالجميع كان يعتقد أنّ هذا لن يحدث في الجامعات الأمريكية بسبب طغيان الماديات والمصالح، لكن الصورة التي نراها اليوم جاءت عكس كل هذه التوقعات، حيث أنّ هناك الآلاف من الطلبة والأساتذة الذين تم اعتقالهم بسبب تظاهرهم ودعمهم للحق الفلسطيني، حتى أنّ هؤلاء يتعرضون إلى تهديدات بالفصل من مقاعد الدراسة، ومنع تمويل جامعاتهم ، إضافة إلى حرمانهم من الوظائف مستقبلا، وبالرغم من كل هذه التهديدات من قبل داعمي الصهاينة إلا أن هؤلاء لا يزالون إلى حدّ هذه اللحظة مصريين على مواصلة حركاتهم الاحتجاجية المؤيدة للحق الفلسطيني، حتى أنّ عددا من الجامعات رضخت إلى مطالب الطلبة وقامت بقطع علاقاتها العلمية والأكاديمية مع الجامعات ومراكز البحث الصهيونية، وهذا الأمر بحدّ ذاته سيكون له وقعٌ وأثر بالغ على مسار القضية ككل مستقبلاً.

وأردف محدث “الأيام نيوز” قائلا: “إنّ هذه الاحتجاجات والوقفات والمظاهرات التي يقودها الطلبة والداعمة للشعب الفلسطيني وعدالة قضيته، إنما تعبّر حقيقةً عن وجود رابط مشترك يجمع بين العلم والوعي بالإنسانية والفطرة السليمة ونصرة المظلومين والوقوف في وجه الظَلًمة، وهو الأمر ذاته الذي قام به الطلبة الجزائريين إبّان الثورة التحريرية المظفرة، عندما تركوا مقاعد الدراسة وقرروا الالتحاق بمسار الكفاح والنضال ضد العدوّ الفرنسي”.

كما أنّ هناك شيئا آخر يمكن أن يُضاف إلى جملة العوامل المشتركة بين ما حدث في الجزائر عام 1956 وبين ما يحدث اليوم عبر مختلف الجامعات الأمريكية والغربية، حيث أن الذين يتظاهرون اليوم في الغرب والذين ثاروا قبلهم خلال عام 1956 هم من فئة الشباب، والشباب بصفة عامة نجد أن فطرتهم سليمة ولم تتلطخ بعد، إضافةً إلى الطاقة والنشاط الذي يتمتعون به، كل ذلك خلق لنا هذا التلاحم الذي نشهده اليوم بين العلم والإنسانية، يؤكد الأستاذ بوثلجة.

إلى جانب ذلك، أفاد الباحث في الشؤون الدولية، أنّ كل الذين يدعمون الكيان الصهيوني اليوم هم يدعمونه لسبب واحد فقط، وهو المصالح المادية، إذ لاحظنا على سبيل المثال لا الحصر بأنّ الإدارة الأمريكية تدعم “إسرائيل” فقط خوفا من هزيمتها في الانتخابات المقبلة، حتى أنّ الجمهوريين الذين يعتبرون الأكثر دعماً للصهاينة هم يدعمونهم من أجل الفوز في الانتخابات القادمة، وذلك يرتبط أساساً بكون اللوبي الصهيوني في أمريكا هو من يتحكم في المال والإعلام وفي كل مقومات الحياة الحديثة، لذلك نجد أنّ هؤلاء يخافون على مصالحهم المادية، ولا يأبهون بتاتاً بالمبادئ الإنسانية، رغم اقتناعهم التام بأنّ الصهاينة هم الظلمة، والشعب الفلسطيني هو من يتعرض للظلم، فالمصالح المادية دائما تكون على رأس الأولوية في صناعة القرارات التي يتخذها وفي المواقف التي يتبناها ويعلنها هؤلاء.

نقطة أخرى أشار إليها المتحدث، وهي أنّ ما يحدث اليوم في جامعات الغرب لم يأتي من فراغ، بالنظر إلى طبيعة المجتمع الأمريكي الذي يُعدُّ مجتمعاً منغلقاً كما ذكرنا آنفا، إضافةً إلى سياسة التضليل التي يمارسها الإعلام الغربي بعد أن تحوّل إلى إعلام موجه يقوم بالترويج للرواية الصهيونية فقط، لكن شبكات ومنصات التواصل وبالرغم من حجم التضييق الممارس على كل ما يدعم القضية الفلسطينية، إلا أنها فضحت حقيقة الكيان الصهيوني، وساهمت إلى حدّ بعيد في إذكاء هذه الاحتجاجات وانتشارها عبر عدد من الجامعات في أوروبا أيضاً.

في سياق ذي صلة، أبرز الأستاذ بوثلجة، أنّ هناك عاملا آخر وراء تضامن هؤلاء الطلبة مع القضية الفلسطينية، قد يكون مجهودا مخفيا كما قد لا ينتبه له أحد، لكنه موجود ونتحدث هنا عن ذاك الجهد الذي يقوم به الطلبة من أصول غير أمريكية، سواء كانوا من أصول عربية أو من دول إسلامية في سبيل إنارة وعي وعقول زملائهم من الطلبة الغربيين وإحاطتهم علما بحقيقة الرواية الفلسطينية وحقيقة الوضع في الشرق الأوسط ككل.

هذا، وأشار الخبير في السياسة، إلى أنّ هؤلاء الطلبة من أصول عربية وإسلامية، أكيد أنهم بذلوا مجهودا أكبر لنصرة القضية الفلسطينية من ذاك المجهود الذي يقدمه الطلبة حاليا في مختلف جامعات وطننا العربي أو الإسلامي، لأنّ هؤلاء عندما يلتحقون بهذه الجامعات الأمريكية يقفون على حجم التطور ويرون ما وصلت إليه الحداثة في تلك الدول بفضل العلم وبفضل التعلم وبفضل البحث العلمي، وتجدهم دائما ما يتساءلون ما الذي يجعل أمتنا ضعيفة في هذا العالم، أكيد هم يعرفون الجواب، وهو تأخرنا في ميدان العلوم وفي ميدان التكنولوجيا والأكيد أيضا أن هذا يجعلهم يحملون هم الأمة، لذلك تجدهم أكثر وعيا، وأكيد أنهم هم من يقومون بتوعية زملائهم في الدول الغربية بزيف الرواية الصهيونية وكشف المحاولات الدنيئة لشيطنة المقاومة الفلسطينية على مدار سنوات وسنوات.

خِتاماً، أبرز الأستاذ والباحث الجزائري في الشؤون الدولية، عبد الرحمان بوثلجة، أنّ كل هذا لا يُعفي الطلبة في الجامعات العربية والإسلامية من مسؤولياتهم اتجاه القضية، سواء كان ذلك من خلال التحسيس أو التوعية عن طريق التواصل مع نظرائهم وزملائهم في الجامعات الغربية هذا من جانب، أو من خلال العمل على تكوين أنفسهم بطريقة جيّدة حتى يتمكنوا لاحقاً من المساهمة في تطوير وبناء دولهم حتى تصبح أكثر قوة، فالعالم اليوم للأسف الشديد لا يؤمن لا بالمبادئ الإنسانية ولا بالقانون الدولي وهذا ما لاحظناه خلال العدوان الصهيوني المتواصل على قطاع غزة، الجميع أصبح يؤمن بقانون القوة، والقوة مصدرها التطور العلمي والبحث العلمي والتكنولوجيا، لذلك فالمسؤولية الكبرى اليوم تقع على عاتق الطلبة من خلال اغتنام فرصة تواجدهم بالجامعات ومراكز البحث الكبرى، والتركيز على التكوين الجيّد والتحصيل العلمي وعدم الاهتمام فقط بالحصول على الشهادات التي قد تجلب لهم المناصب مستقبلا، لأن التفكير الأناني قد لا يوصلنا إلى ما نصبوا إليه من مكانة مرموقة تحترمنا من خلالها الأمم، لذلك فهذه المسؤولية يجب أن يحس بها ويتقاسمها الجميع، خاصةً الطلبة في الجامعات العربية والإسلامية وكل الجامعات التي تقف في صف القضية الفلسطينية وفي صف المظلومين والتي تناصر حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.

وثيقة تاريخية..

هذه رسالة الجزائريين إلى فلسطين

بقلم: إبراهيم باجس عبد المجيد – باحث مقدسي

“فلسطين في الجزائر.. شعور أهالي الجزائر نحو إخوانهم في فلسطين !”.. هذا عنوان رسالة مطوَّلة بعث بها أهل الجزائر إلى الصحيفة الفلسطينية “الجامعة العربية” ونُشرت في السابع والعشرين أفريل عام 1930.. عبّروا فيها عن مشاعرهم الصّادقة تجاه فلسطين وقضيّة فلسطين وأهل فلسطين.

وقد يظنّ ظانٌّ أنّ هذه الرّسالة وما فيها من مشاعر صادقة وجيَّاشة كُتبت هذه الأيام، مواكبةً للأحداث التي تجري في فلسطين، وللجرائم التي تُرتكب بحقّ أهلها، أو أنّها رسالة تشيد بصمود وبطولة الشعب الفلسطيني في غزّة، وإصراره على الحياة رغم همجيّة حرب الدّمار والإبادة التي أعلنها الكيان الصهيوني ومن يدعمه.. كلّا يا سادة.. إنّها رسالة كُتبت قبل حوالي قرن من الزّمان، وتحديدًا في 29 ذي القعدة 1348هـ، ونحن اليوم في عام 1445هـ.

هي رسالةٌ كتبها الجزائريون وهم يرزحون تحت نِير الاستعمار الفرنسي البغيض والشّرس، والذي اقترف بحقّ الجزائر وشعبها، على مدى 132 عامًا، ما لم تقترفه قوّة استعماريّة أخرى، خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، من جرائم إبادة وتدمير ومشاريع طمسٍ للهويّة وتغريب الإنسان وجدانيًّا وفكريًّا.. وإن شئنا المقارنة، فليس للاستعمار الفرنسي في الجزائر، الذي كان مدعومًا أطلسيًّا، من نظيرٍ إلاّ الكيان الصهيوني في فلسطين، المدعوم غربيًّا (أوروبيًّا وأمريكيًّا)..

رسالة كتبها أهل الجزائر إلى أهل فلسطين يعبّرون فيها عن مشاعرهم، ويبكون حزنًا على فلسطين وما حلَّ بها من احتلال الإنجليز وإجرام العصابات الصّهيونية، ويبكون حزنًا على أنفسهم أنّهم لا يستطيعون الوصول إلى فلسطين لمناصرة أهلها والذّود عن مسرى نبيّهم فيها.

يبكون حزنًا أنَّ اليد ضاقت بهم عن الجهاد مع أهل فلسطين بالمال، أو أن يجدوا مَن ينقلهم إليها ليجاهدوا هناك بأرواحهم، وأصبح حالهم كحال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين لم يجدوا ما يحملهم عليه للمشاركة في الغزو والجهاد ” تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ” (التوبة: 92).

يبكون لأنّه، كما جاء في نصّ الرّسالة، “ليس للجزائريين من الحرية الإنسانية ما يمكّنِّهم من إظهار شعورهم بسبب الضّغط الإفرنسي الاستعماري”!… “هكذا كان شعور مسلمي الجزائر نحو إخوانهم في فلسطين، رغم ما يقاسونه من دِقَّة الحال، وجور الإدارة الحاكمة”، كما يقول كاتب الرّسالة الذي وقّع مقاله باسم “مسلم جزائري”…

ومع ضيق ذات اليد، فإنّ الجزائريين سعوا بصدق إلى نُصرة فلسطين وأهلها بالمال، “فقد قامت جماعة من أفاضلهم، وطلبت من حكومة الجزائر (حكومة الاستعمار الفرنسي) أن تسمح بجمع الاكتتابات لمنكوبي العرب في فلسطين، ولكن الحكومة لم توافق على هذا الطّلب، بحجّة الخوف من الاضطرابات، وأنّ الجزائر مشهورة بالثّورة على اليهود.. وهكذا ذهبت مساعي هؤلاء الأفاضل لنجدة إخوانهم الفلسطينيين أدراج الرّياح”.

ومع تكبيل المستعمر الفرنسي لحريَّتهم، فإنّهم كانوا يغتنمون أيّة فرصة لمناصرة إخوانهم والذّود عنهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، بل ويثورون وينتفضون من أجل ذلك، غير عابئين بما يفعله المستعمر الفرنسي ضدّهم من سجن وتنكيل وتعذيب، بل وقتل وتشريد وتهجير.

فها هي إحدى الفتيات اليهوديات، من يهود أمريكا، “تصل إلى الجزائر موفدةً من أمريكا لجمع الإعانات من اليهود المقيمين في الجزائر لليهود الوافدين إلى فلسطين، وقد حطَّت رحالها بمدينة “عنابة”، إحدى كبريات مدن الجزائر.

فلمَّا علم أهل “عنَّابة” بذلك حتّى ثارت ثائرتهم، واحتجّوا لدى الحكومة الاستعمارية، وحذَّروها إن هي سمحت لهذه الفتاة اليهودية بجمع التّبرعات لليهود الوافدين إلى فلسطين، وفي الوقت نفسه منعت الجزائريين المسلمين من جمع التّبرّعات لإخوانهم الفلسطينيين.

وتحت الضّغط الشّعبي انتقلت هذه الفتاة من “عنابة” في الشرق الجزائري إلى مدينة “قسنطينة”، ثمّ إلى “تلمسان” في أقصى الغرب الجزائري، ومنها انتقلت إلى مدينة “مستغانم”… وفي كلّ محلٍّ تحطُّ فيه رحالها يكون لها الجزائريون بالمرصاد، فيقفون في وجهها ويمنعونها من جمع درهم واحد لمناصرة أبناء جلدتها من اليهود في فلسطين، وهم يعلمون علم اليقين أنّ كلّ درهم يذهب إلى العصابات اليهودية الصّهيونية في فلسطين سيكون ثمنًا لرصاصة أو قنبلة يُقتَل بها أحدُ أبناء فلسطين، أو يكون ثمنًا لحجر تُبنى به مستوطنة ليهود غاصبين أتوا من آفاق الأرض ليحتلُّوا على أرض فلسطين، ويطردوا منها أهلها أصحاب الحقّ والأرض.

وهكذا كان.. لَمَّا لم يستطع أهل الجزائر مناصرة فلسطين في فلسطين نفسها، فلا أقلَّ عندهم من أن يناصروها وهم في بلدهم الجزائر، فكان أن انتفضوا في وجه هذه اليهودية الأمريكيّة التي أتت إلى بلدهم بكلّ وقاحة وصفاقة وجه لتعمل على ترسيخ الوجود اليهودي في فلسطين، وبأموال من الجزائر نفسها.

انتفض الجزائريون وثاروا في وجه هذه اليهودية أينما حلَّت ورحلت في مدن الجزائر، حتى اختفت من ديارهم وبلادهم. ومنذ كتابة هذه الرّسالة ونشرها إلى يومنا هذا، ما زال الجزائريون يثورون وينتفضون في وجه كلّ يهودي دخيل إلى أن يختفي ويزول من أرض فلسطين إن شاء الله.

من الجزائر إلى غزّة..

عندما يلتقي 19 ماي مع 7 أكتوبر

بقلم: عكنوش نور الصباح – خبير إستراتيجي جزائري

تمظهر الوعي ضمن حركة التاريخ يكون عبر النخب الطلابية التي تقود السياق العام للأحداث وتؤثّر فيها بشكل تراكمي ولهذا عندما يتحرّك الطّالب الغربي عمومًا والأمريكي خصوصًا تكون حركته ضمن نسق يتجدّد وفق محطّات ومقتضيات ترتبط بتحوّل القيم وتغيّر المسلّمات ولا غرو أن يكون الرّمز حاضرًا في صورة الطّالب الجزائري الذي حرّر الفكرة وقاد الثّورة في نمذجة قوية لمعنى الحرية والعدالة والحياة وهي نفس المعاني العابرة للمكان والزّمان والإنسان فتجد 19 ماي يخرج إلى العالم في إطار مختلف لكن بنفس الرّسالة الإنسانية السّامية.

هذه الرّسالة مفادها أنّ المشكاة التي تنير درب البشر واحدة، تنيرهم بالإيمان والحق جميعًا دون استثناء ولا يمكن لقوّة واحدة أن تستعمر عقول النّاس بسرديات لا تقبل النّقد وممارسات فوق القانون ونظريات ترفضها وتقاومها المدرجات من خلال إعادة الحركة الطلّابية العالمية إنتاج التّاريخ باستقلالية عن المركزية الغربية وبسيادة معرفية للحقيقة وهي في ذلك تستحضر نضال الجيل الثّوري للطّلبة الجزائريين في قراءتهم الواعية لمسار التّاريخ باستبصار اللّحظة الكرونولوجية والبناء على القيمة الفكرية للتحرّر من الهيمنة والتّبعية والعنصرية عبر نهضة رمادية أسّست لنظام معياري وأخلاقي جديد عمّ أرجاء العالم وهو ما يتماهى مع ما يحدث في جامعات أمريكا وأوروبا وأمصار أخرى في إدراك موضوعي أنّ هناك أخطر من أكذوبة معاداة السّامية التي تستعمل ضدّهم وهو معاداة الإنسانية من طرف كيان من زمن كولونيالي آخر تمّ قبره في الجزائر ولا حياة ثانية له في القرن الواحد والعشرين في فلسطين الحرّة.

فعندما يلتقي التّاسع عشر ماي مع السّابع أكتوبر لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة الطلّابية الواحدة من الجزائر إلى غزّة.

الآلة الاستعمارية إذ تتفكّك..

“معركة الجزائر” تشعل الاحتجاجات الطلّابية في أمريكا!

بقلم: علي أبو حبله – محامي فلسطيني

لا يعدّ تاريخ نضال الطّلبة الجزائريين جديداً، بل يمتدّ عمره إلى فترة الحركة الوطنية الجزائرية ذاتها، فمنذ اكتشاف الطّلبة الجزائريين لفعالية العمل التّنظيمي داخل الجامعات والمعاهد في العقد الثّاني من القرن العشرين، بدئوا ينظّمون أنفسهم في زمن الاستعمار الفرنسي.

في عام 1926، تشكّلت رابطة الطّلبة الأهالي، وفي العام التّالي، تحوّلت إلى جمعية الطّلبة المسلمين لشمال أفريقيا كما كان لطلبة الجزائر في جامعة الزّيتونة بتونس أيضاً دور فعّال في إحياء هذا النّضال بعد ذلك، خاصّة بعد الحرب العالمية الثّانية.

وفي هذه الفترة، برزت شخصيات سياسية عديدة في صفوف الطّلبة الجزائريين، مثل فرحات عباس، السعيد الزاهري، مفدي زكريا، والشّيخ البشير الإبراهيمي (من جمعية العلماء المسلمين)، ومحمد يزيد، عبد السلام بلعيد، وأحمد طالب الإبراهيمي وتجلّى هذا النّضال في إعلان دعم الطّلبة الجزائريين ومساندتهم لجيش التّحرير الوطني في كفاحه المسلّح ضدّ الاستعمار في 11 فيفري 1955، بعد حوالي ثلاثة أشهر فقط من اندلاع الثّورة التّحريرية، وانضمّ كثيرون من الطّلبة إلى صفوف المجاهدين.

إثر هذا الموقف البطولي لطلبة الجزائر، قامت السّلطات الاستعمارية بحملات اعتقال وتعذيب ضدّ الطّلبة، ما دفعهم إلى الإعلان عن الإضراب العام عن الدّروس في 20 جانفي 1956. وبعد ذلك، تمّ الإعلان عن الإضراب العام اللّامحدود عن الدّراسة في 19 ماي 1956، وقام عدد أكبر من الطّلبة بالانضمام إلى صفوف جيش التّحرير.

ويشهد تاريخ النّضال الجزائري على بطولات عديدة لأسماء خالدة من طلبة الجزائر في مواجهة الاستعمار الفرنسي. من بين هؤلاء الأبطال كان الشّهيد عمارة رشيد، الذي تعرّضت جثّته للحرق بالبنزين عقب استشهاده. وكذلك الطّالب عبد الرّحمن طالب الذي نُفّذ بحقّه حكم الإعدام بالمقصلة في سجن بارباروس الشّهير، بعد تعرّضه لتعذيب وحشي حيث تمثّل هذه القصص جزءا من تضحيات الطّلبة الجزائريين في سبيل حرّيتهم واستقلال بلادهم.

النّضال الطلّابي الجزائري كان الدّافع لتأجيج الاحتجاجات في الجامعات الأمريكية والغرب وذلك إثر تداول روّاد منصّات التّواصل الاجتماعي صورًا تظهر عرض فيلم “معركة الجزائر”، على الطّلبة المعتصمين في جامعة ستانفورد الأمريكية العريقة، خلال احتجاجات الجامعات الأميركية الدّاعمة لفلسطين.

وعرض الفيلم الشّهير للمخرج الإيطالي جيلو بونتيكروفو، على شاشة كبيرة أمام جامعة ستانفورد، حيث تمّ إبراز مشاهد تذكّر بقوّة وصبر الشّعب الجزائري أمام الاستعمار الفرنسي، في مقاربة مع معاناة سكّان قطاع غزّة جراء العدوان “الإسرائيلي” أنها المعاناة المشتركة بين ما عاناه الجزائريين على يد الاستعمار الفرنسي وما يعانيه الفلسطينيون على يد الاحتلال الصّهيوني الذي يكرّس سياسة الأبرتهايد والفصل العنصري.

هذه القواسم المشتركة لما تمّ عرضه في فيلم “معركة الجزائر” حيث لقيت الصّور تفاعلًا كبيرًا من روّاد منصّات التّواصل، الذين تداولوها عبر نطاق واسع وذكروا بثورة بلد المليون شهيد والتي باتت مصدر إلهام لأبناء “شعب الجبارين” في غزّة، وللطّلبة الأميركيين في جامعاتهم.

وفي خضم التّشاحن والتّباغض، فإنّه يوجد شعبين متلاحمين متناغمين لم تفسد العلاقة بينهما كلّ المؤامرات والدّسائس التي انطلت على باقي الشّعوب، إنّهما الشّعبين الفلسطيني والجزائري الذين أثارا الكثير من التّساؤلات وعلامات التعجّب والاستفهام على سرّ الودّ والحبّ والتّلاحم بينهما وما يجمعهما من قواسم مشتركة في النّضال والكفاح والثّبات والصّمود في مواجهة الاستعمار بكافّة أشكاله وألوانه.

والمتتبّع هنا سيجد أنّ هذه العلاقة ليست وليدة اليوم بل أنّها قامت على تراكمات تاريخية بنيت على مشاركة المغاربة بشكل عام والجزائريين بشكل خاص في الحروب الصّليبية وفي تحرير بيت المقدس من الصّليبيين، وبشعور الجزائريين بأنّهم معنيون بشكل مباشر بالدّفاع عن مقدّساتهم كمسلمين، والدّفاع أيضًا عن حقّهم المغتصب في فلسطين المتمثّل في حارة المغاربة المحاذية لحائط البراق التي دمّرها اليهود، هذه الحارة التي كانت وقفًا لشعوب المغرب العربي في مدينة القدس، وكذا تجرّع الجزائريين سم الخيانة والتّآمر من اليهود وخاصّة من الأخوين بوشناق الذين ساهما بشكل أساسي في استقدام الاستعمار إلى الجزائر.

ولأنّ الشّعب الجزائري يعشق النّضال والحرية، ولأنّه يعي جيّدًا مساوئ الاستعمار الاستيطاني، كما يعي دسائس اليهود لتجربته المريرة معهم، فإنّه يحبّ حبًّا فطريًا كلّ من يناضل ويدافع عن شرف الأمّة العربية والإسلامية، وعلى رأس أهل الجهاد والنّضال الشّعب الفلسطيني المقاوم، الذي أخذ على عاتقه قيادة الدّفاع عن فلسطين عمومًا ومقدّسات المسلمين فيها خصوصًا، فتحوّل هذا الحب إلى دعم لا مشروط وعطاء لا محدود، فبرز دفاع الجزائريين عن فلسطين ووقوفهم إلى جانب أشقّائهم مع بروز الحركة الصّهيونية وأطماعها، وتوالي الهجرات اليهودية، رغم كون الشّعب الجزائري حينها لازال قابعًا تحت نير الاستعمار.

فلم تترك الصّحافة الجزائرية فرصة إلّا ونبّهت إلى خطر الصّهيونية، وشحذت الهمم للدّفاع عن فلسطين، وحذّرت الأمّة من التّهاون في الذّود عنها، فكتب الشّيخ سعيد الزّاهري في جريدة الإصلاح سنة 1929م عقب ثورة البراق، محذّرًا من الصّهيونية قائلا: “..أيّها المسلمون الجزائريون هل سمعتم بأنّ الصّهيونية وبلاشفة اليهود في فلسطين قد اغتصبوا البراق الشّريف وردوه كنيسًا لهم؟ واعتدوا على المسجد الأقصى في القدس الشّريف وهم يحاولون أن يتّخذوه كنيسًا لهم؟..”، وهكذا كانت كتابات الكثير من مثقّفي الجزائر وصحافييها ومشايخها عبر الصحف الوطنية، رغم أن ارتكاز هذه الصّحف في الأساس كان على القضيّة الوطنية ومواجهة الآلة الاستعمارية الفرنسية.

ولم يتوان الشّعب الجزائري بقيادة جمعية العلماء المسلمين عن تقديم يد العون والإسناد للشّعب الفلسطيني، من خلال تأسيس الهيئة العليا لإعانة فلسطين سنة 1948م، والجزائريون حينها لم يلملموا بعد جراح مجازر الثّامن من ماي 1945م، حيث عملت اللّجنة على جمع التّبرعات لصالح فلسطين، فيقول الشّيخ الإبراهيمي أحد أبرز قادتها: “..ثمّ شرعنا في العمل في خواتم رمضان المبارك، فاجتمع لدينا من هبات المحسنين عدّة ملايين من الفرنكات أبلغناها إلى مأمنها في فلسطين..”، كما سخّرت جمعية العلماء الصّحف النّاطقة باسمها، لتعبئة الشّعب لمساندة إخوانه في فلسطين، وكذا نقل أخبار ما يحدث هناك بعيدًا عن الصّحف الفرنسية المؤيّدة للصّهيونية.

وبعد استقلال الجزائر الذي كان في الخامس من جويلية سنة 1962م، بدأ تعاملها مع قضيّة فلسطين كدولة مستقلّة، فوضعت كمبدأ من مبادئها دعم حركات التحرّر وخصّت فلسطين وأعطتها الحظّ الأوفر من هذا الدّعم، فدرّبت قادة الثّورة الفلسطينية وزوّدتهم بالسّلاح، ثم شاركت بشكل مباشر من خلال وحدات جيشها وقطعه العسكرية في حربي 1967م و1973م، وكانت للمشاركة الجزائرية وخاصّة في حرب 1973م دور كبير جدًّا في تقدّم الجيش المصري، كما كان لها أيضًا دور سياسي بارز في تمكين ياسر عرفات من إلقاء خطابه في هيئة الأمم المتّحدة، وذلك بفضل نشاط الرّئيس الرّاحل هواري بومدين صاحب المقولة المشهورة “نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة”.

إنّ فلسطين لم تكن يومًا قضيّة الشّعب الفلسطيني وحده، بل كانت لها أهميتها في النّضال العربي ضدّ الامبريالية الغربية، ممّا جعلها قضيّة العرب المركزية في إطار الكفاح العربي من أجل تقرير المصير، وهذه الانجازات على صعيد التّحالفات بين القضيّة الفلسطينية وحركات ودول أخرى تبقى محطّ إعجاب واحترام؛ وبخاصّة، عند النّظر لتنوّع الأنشطة التي اشتملت عليها هذه التّحالفات التّضامنية والتي شكّلت قاسم مشترك بين نضال الجزائريين والفلسطينيين بحيث باتت الاحتجاجات  الطلّابية مصدر قلق صانع القرار الأمريكي والأوروبي وفي حال استمرارها قد تغيّر الكثير من المفاهيم والمصطلحات السّياسية وأنّ ارتدادها سيكون له وقع خطير على “إسرائيل” التي ينظر قادتها  لهذه الاحتجاجات وامتداداتها بعين الرّيبة وهو ما دفع رئيس حكومة الاحتلال الصهيوني نتنياهو قوله: إنّه “يتعيّن بذل المزيد” للتّصدّي لاحتجاجات مؤيّدة للفلسطينيين انتشرت في الجامعات الأميركية والأوروبية.

وفي هذه المناسبات وغيرها، نجحت حركة الاحتجاجات الطلّابية  في تشكيل ضغط حقيقي، دفع الحكومات الأميركية والأوروبية في وقتها إلى الرّضوخ للمطالب الطلّابية، لذلك تنظر إدارة بايدن والحكومات الأوروبية إلى الحراك الحالي بعين القلق ويعيدها للماضي وما أحدثته تلك التحرّكات من تغيرات، وهو ما دفعها إلى اتّخاذ إجراءات حازمة، وصفت بأنّها مبالغ فيها، وترقى إلى مستوى القمع وتكميم الأفواه، وذلك للحيلولة دون تحوّل التّظاهرات إلى ثورة اجتماعية وسياسية شاملة لا تقف عند التّعاطف مع غزّة، ولا تقتصر على طلّاب الجامعات.

ويعد الحراك بيئة خصبة، يمكنه اجتذاب جماعات طلّابية أخرى تحمل توجّهات سياسية يسارية، أو انضمام الحركات المناصرة للقضايا الاجتماعية والبيئية مثل الحركات النّسوية وأنصار البيئة، أو أن يكون منطلقاً للأقليّات التي تعاني من التّمييز العنصري، وغيرها من فئات الشّعب التي تحمل مبرّراً للتّظاهر والاحتجاج وقد نجح عرض الفيلم الشّهير للثّورة الجزائرية، على شاشة كبيرة أمام جامعة ستانفورد، في تحريك ثورة احتجاجات الطّلبة الأمريكيين والأوروبيين، من خلال إحداث مقاربة مع معاناة سكّان قطاع غزّة جراء العدوان “الإسرائيلي” والمعاناة المشتركة بين ما عاناه الجزائريين على يد الاستعمار الفرنسي، الاحتجاجات الطلّابية واتّساع رقعتها تشغل دوائر صنع القرار الأميركي، ووصلت إلى رأس السّلطة، ومن البيت الأبيض أصدر الرّئيس الأميركي، جو بايدن بياناً بمناسبة عيد الفصح اليهودي، ندّد من خلاله بالاعتصامات التي تقام في الجامعات، وعدَّها دعوة إلى العنف ومعاداة السّامية.

الاحتجاجات الطلّابية والحراك الذي تتّسع قاعدته مؤشّر على تحوّل في الرّأي العام الأميركي، الذي سيشكّل مستقبل الولايات المتّحدة، وربّما في غضون سنوات سيكون هذا الاتّجاه هو السّائد في الولايات المتّحدة الأمريكية ودول الغرب بحيث سيكون بمقدور الشّباب صنع قرارهم بناء على الحقائق التي تبدّت أمامهم، بعيداً من هيمنة وسطوة اللّوبيات، وخصوصاً اللّوبي الصّهيوني المتجذّر في دوائر صنع القرار الأميركي وهذا يعيدنا للماضي وفاعلية التحرّكات للشّباب الجزائري وقدرتهم على التّغيير الذي قاد لتحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي إنّها القواسم المشتركة  التي يمكن توظيفها للتحرّر من النّفوذ والهيمنة الصّهيونية حيث وظّف فيلم “معركة الجزائر” لتأجيج الاحتجاجات الطلّابية في أمريكا والغرب وهذا يؤكّد القواسم المشتركة التي تجمع فلسطين والجزائر ونضالهم ضدّ الاستعمار.

الطبعة الأولى لعيد الطالب (1792) وعنكبوتية الهيكل

بقلم: الدكتور محمد بغداد – مدير الإعلام والتوثيق بالمجلس الإسلامي الأعلى

هناك محمول تاريخي بين مسافتين زمنيتين الأولى (1792 ــ 1956) والثانية (1956 ــ 2024)، يحتاج أن نمتلك من القدرة والشجاعة على مواجهة هذا المحمول والأكثر من ذلك الطاقة الكافية للاستثمار فيهما، خاصة وأنه يحمل تحولا جيواستراتيجي له الكثير من التداعيات التي رسمت ملمحا جديدا للحياة بعد انصرام تفاصيل الأحداث.

وينبجس المحمول التاريخي المقصود هنا في أبعاد الآية القرآنية ذات المعنى الإنساني (وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون)، فعندما تأكد الاستعمار الاسباني أن ثلاثة قرون كافية لتأبيد السيطرة الاستعمارية على وهران، وأن المملكة الاسبانية قادرة على التحكم في مصير أهل وهران، في انتقام تاريخي على أنوار الفتح الإسلامي للأندلس وتحويلها إلى أعجوبة إنسانية.

وهي نفس لحظة الاطمئنان التي عبرت عنها فرنسا الاستعمارية بفرحتها العارمة بعد مرور قرن على احتلالها للجزائر فراحت تتبختر في احتفالات دعت إليها نجوم أوربا لتفتخر باستعمارها وتعلن قدرتها على سيطرتها المؤبدة، إلا أن أمر الله أتاها على لسان العلماء والمثقفين الجزائريين معبرين في آذان ابن باديس (شعب الجزائر مسلم) من مأذنة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.

وبعد مرور مائة وأربعة وستين عاما صدح طلبة الجزائر في وجه فرنسا الاستعمارية مرددين نداء من سبقهم من الطلبة المحررين لوهران والمدمرين لأسطورة الاستعمار الإسباني، فالمشترك بين الطلبة المقاومين للاستعمار الاسباني والطلبة المقاومين للاستعمار الفرنسي هو الحرية والكرامة ورفض العدوان، واسترخاس النفس في سبيل الحقيقة، فكان دليلهما كلمات ابن باديس ورفاقه.

فلكل استعمار (هيكل مزعوم، وبقرة صفراء)، يرغب في إقامته على أنقاض الآخرين ويحتفل بنحر البقرة نشوة بالانتصار، ولكن المشكلة لا تتعلق بمعتقدات الاستعمار ولا مواعيد احتفالاته، ولكن تكمن في أولئك المستعمرين الذين يغفلون عن دلالة (أتاها أمرنا)، وينسون طاقة الإنسان وجبليته على الحرية والانعتاق، ويستسلمون لسطوة الاستعمار منبهرين بقدراته المادية وينبهرون بخرافاته وأساطيره.

إنّ طلبة الجزائر وهم يهبون استجابة لنصرة بريق الحقيقة والمنافحة عنها، عبر تحرير الأوطان وتخليص الإنسانية من أنجاس الاستعمار والتخلف، فهم يفتحون أعين البشرية على فداحة الخرافات وبشاعة الأساطير الاستعمارية، التي تبني عليها كل الإمبراطوريات الاستعمارية وفي كل عصر وزمان، تشترك في أهداف إهانة الإنسان واحتقار كرامته وسلبه إنسانيته، واستباحة حقوقه وهدرها، من أجل إشباع غرائزه وشهواته.

إنّ ما يتميز به عيد الطلبة في الجزائر هذا العام (2024) أنه يعيد إلى الأذهان وإلى النفوس تلك المواقف التاريخية لطلبة الزوايا سنة (1792) ويلقى على الجميع المسؤولية الكبرى التي تعلو من جبال المرجاجو في مسجد الطلبة ويفرضها الوفاء الصادق لشهداء وأبطال (1956)، وتمتزج بصرخة ابن باديس سنة (1931) في وجه الاستعمار وتصل إلى السابع من أكتوبر في غزة، مما يجعلنا في مواجهة تكلفة مستقبلية تتكئ على مهمة تاريخية مستمرة تقتضي مواجهة كل استعمار وكل تخلف يرغب في السيطرة على إنسانية الإنسان، فالأمر لا يتعلق بمجموعة مقاومة ولا حركة سياسية ولا تيار فكري، وإنما يتعلق بتعديل مسار الإنسانية التي لا يمكن أن تكون خريطة سيرها محكومة بالخرافات والأساطير وغرائز الإمبراطورات الاستعمارية.

وفي السابع من أكتوبر جاء أمر الله من غزة عندما اعتقد الأغلبية أن الاستعداد قد اقترب لنحر البقرة الصفراء والشروع في تشييد الهيكل المزعوم، وسرعان ما تعالت أصوات الإنسانية الطبيعية المستقذرة لهمجية بقايا السبي البابلي و المصفوعين في شعاب أوروبا لقرون، فجاء صوت الإنسانية من حناجر طلبة الجامعات الغربية المكرسة للثقافة الاستعمارية الكونيالية المتعالية، إلا أن صفاء الحقيقة أكبر من الأراجيف والخرافات.

إنها فرصة تاريخية اليوم أمام من يعتبرون أنفسهم (النخبة) من أجل إعادة النظر في الموضع الكوني لها ومواجهة الحال بشجاعة المواقف الصادقة، والذهاب نحو توبة تاريخية صادقة مع النفس ومنسجمة مع التاريخ، والابتعاد عن تلك السلوكات الفلكلورية والموجات العاطفية التي ألحقت الكثير من الأضرار المؤلمة بالأمة، فلن يحرر الأوطان مظاهرات طلبة جامعات الغرب ولا تصريحات نجوم السينما والرياضة ولا مواقف بعض الشخصيات العامة، وإنما الرهان يكون على مستوى منسوب الحرية في الإنسان وقدرته على الشعور بألم التخلف والاستعمار ومدى رغبته في الوصول إلى الحرية والكرامة.

الأيام نيوز - الجزائر

الأيام نيوز - الجزائر

اقرأ أيضا