كيف أصبحت الجزائر “مكة الثوار” في إفريقيا والعالم؟

“مكة الثوار”… هكذا وصفها الزعيم الغيني “أميلكار كابرال”، أحد أبرز رموز حركات التحرر في إفريقيا والعالم، ففي أحد مؤتمراته التي عقدها في الجزائر العاصمة، سُئل عن معنى هذه العبارة، فأجاب قائلاً: “كما يتوجّه المسلمون إلى مكة لأداء فريضة الحج، والمسيحيون إلى الفاتيكان، فإن الحركات التحررية تجد في الجزائر ملاذًا ومقصدًا لها.”

بعد أن تجّرعت الجزائر مرارة الاستعمار الفرنسي، عزمت على أن تكون صوتًا حرًا يدافع عن حقوق الشعوب المضطهدة في جميع أنحاء العالم. ومنذ استعادة استقلالها، التزمت الجزائر بمبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، وهو المبدأ الذي أصبح حجر الزاوية في سياساتها الخارجية فيما بعد. وقد حملت مشعل الدفاع عن قضايا الشعوب المستضعفة، وجعلت دعم حركات التحرر الوطني، لا سيما في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، جزءًا أساسيًا من دبلوماسيتها.

في كل محفل دولي، كانت الجزائر تدافع عن مبدأ استقلالية القرار الوطني وحق الشعوب في التحرر من بطش الاحتلال.

لم يقتصر دور الجزائر على دعم حركات التحرير دبلوماسيا فقط، بل قدّمت أيضًا مساعدات مادية ملموسة لحركات التحرير الإفريقية، سواء عبر العلاقات الثنائية أو من خلال إطار منظمة الوحدة الإفريقية. وفي هذا السياق، اختارت الجزائر الحركات الأكثر تمثيلاً وشعبية، مثل: جبهة التحرير الإفريقية لاستقلال غينيا والرأس الأخضر تحت قيادة “أميلكار كابرال”، وجبهة تحرير موزمبيق، الجبهة الوطنية لتحرير أنغولا، والجبهة الشعبية الإفريقية لزمبابوي بزعامة “جوشوا نكومو”، والجبهة الوطنية الإفريقية لزمبابوي، بالإضافة إلى حركة SWAPO في جنوب غرب إفريقيا، وحزب المؤتمر الوطني الإفريقي (ANC) في جنوب إفريقيا، وحركة التحرير في ساوتومي وبرينسيب.

ووفقًا لدراسة “رمضاني أم هاني” المنشورة في حوليات جامعة الجزائر 2، بعنوان “دور الجزائر في تحرير المستعمرات البرتغالية: الموزمبيق أنموذجًا”، “لعبت الجزائر دورًا فعالًا في دعم الحركات التحررية، حيث استقبلت أعدادًا كبيرة من المقاتلين والمناضلين لتلقي تدريب عسكري على أراضيها، من بينهم مقاتلون من أنغولا والموزمبيق ورواندا. وقد أشرف على هذا التدريب القائد (سامورا ماشيل) سنة 1963”. كما أشارت الدراسة إلى أنه تمّ تدريب أكثر من ألف مقاتل إفريقي خلال الفترة نفسها في الجزائر، وفقًا لتصريح الرئيس أحمد بن بلة، إضافة إلى التأثير البارز للدبلوماسية الجزائرية، التي ساهمت في قرار رفع ميزانية منظمة الوحدة الإفريقية بنسبة 10%.

وعلى جانب آخر، لم تقتصر دبلوماسية الجزائر على دعم حركات التحرير فقط، بل لعبت دورًا محوريًا في حل العديد من الأزمات الإقليمية والدولية..

ومن جانب آخر، نجحت الجزائر في تسوية الخلافات الحدودية بين العراق وإيران من خلال “اتفاقية الجزائر” في 6 مارس 1975، وذلك على هامش مؤتمر منظمة أوبك في الجزائر. كما لعبت الجزائر دورًا بارزًا من خلال وساطتها لتحرير الرهائن الأمريكيين عام 1982، بعد أن احتل طلاب إيرانيون السفارة الأمريكية في طهران واحتجزوا 52 أمريكيًا كرهائن لمدة 444 يومًا. وقد كان مهندس هذه الوساطة وزير الخارجية الأسبق، المرحوم محمد الصديق بن يحيى.

في مالي، لعبت الجزائر دورًا رياديًا في تسوية الأزمة هناك، انطلاقًا من التزامها بمبادئ حسن الجوار ودعم الأمن والاستقرار الإقليمي. لقد رعت الجزائر عدة اتفاقيات ساهمت في تهدئة التوترات بين الحكومة المالية والأطراف الأخرى في الشمال. بدأت هذه الجهود بـ”اتفاقية تمنراست”، عام 1991، التي وضعت الأساس لتحقيق الاستقرار، وتلتها “اتفاقية الجزائر” عام 2006، التي أسهمت في معالجة النزاع بين الحكومة والتحالف الديمقراطي لـ23 ماي من أجل التغيير.

بلغت هذه الجهود ذروتها في يونيو 2015 بتوقيع “اتفاق السلم والمصالحة”، المعروف بـ”اتفاق الجزائر”، الذي حظي بموافقة جميع الأطراف المعنية. سعى الاتفاق إلى الحفاظ على وحدة مالي الترابية، مع ضمان تنمية المناطق الشمالية المهمشة، وإعادة إدماج المقاتلين في المجتمع، وتحقيق توزيع عادل للثروات والسلطة. هذا الاتفاق يعكس التزام الجزائر بثقافة الحوار والحلول السلمية كركيزة أساسية في سياستها الخارجية.

بعد توقيع “اتفاقية السلم والمصالحة في مالي” عام 2015، كانت البلاد تأمل في تحقيق استقرار دائم بعد نزاع مسلح طويل في شمال مالي. شكلت الاتفاقية خطوة تاريخية نحو إنهاء هذا النزاع ومنحت الأمل لتحقيق السلام. خلال السنوات الثماني التي تلت توقيع الاتفاقية، تمكنت مالي من الاستمتاع بفترة من الاستقرار النسبي بفضل جهود الجزائر المستمرة.

لم تقتصر الجزائر على دور الوسيط فحسب، بل كانت القوة الدافعة الرئيسية لتحقيق الاستقرار، من خلال تقديم الدعم السياسي والدبلوماسي وتعزيز التنسيق بين الأطراف المتنازعة لتجنب الانزلاق نحو العنف. إضافة إلى ذلك، شاركت الجزائر بفعالية في مراقبة تنفيذ بنود الاتفاقية عبر إرسال بعثات مراقبة عسكرية إلى مناطق النزاع، لضمان تفعيل بنود نزع السلاح وتسليم الأسلحة.

لكن بعد فترة الهدوء النسبي، قررت السلطات الحاكمة في يناير 2024 الانسحاب من الاتفاقية، مما أدى إلى تدهور الأوضاع الأمنية في البلاد مجددًا. عاد تمويل برامج التسلح من قبل دول أجنبية، بالإضافة إلى الاستعانة بالمرتزقة الدوليين، ما جعل الخيار العسكري الوسيلة السائدة في التعامل مع النزاع.

“إذا أنت أكرمت الكريم ملكته، وإذا أنت أكرمت اللئيم تمردا.”

ينطبق هذا البيت الشعري بكل دلالاته على العلاقة بين الجزائر ومالي اليوم. فقد كانت الجزائر، عبر سنوات طويلة، اليد الحانية والداعم المخلص لهذا البلد الجار في أحلك أوقاته، وبذلت جهودًا مضنية لتحقيق استقراره والحفاظ على سيادته ووحدته. ومع ذلك، وفي وقتٍ كان يُنتظر فيه من مالي أن تبادل هذه المواقف النبيلة بالتقدير والامتنان، أصدرت وزارة خارجيتها بيانًا يحمل اتهامات مجحفة بحق الجزائر.

لم تقتصر تلك التصريحات على النقد، بل تجاوزتها إلى التشكيك في نوايا الدولة الجزائرية ، الدولة التي كانت ولا تزال ركيزة السلام والأمن في المنطقة، وقائدة الجهود الإقليمية والدولية لمكافحة الإرهاب. الجزائر، التي وفرت الدعم السياسي واللوجستي وسعت دائمًا إلى تعزيز الاستقرار في مالي، وجدت نفسها في مواجهة خطاب يغفل عن عمد ما بذلته من جهود ومواقف مشرفة. كان الأجدر بمالي أن تقابل هذا العطاء بالعرفان، لا بالجحود والإنكار.

وإلى جانب دعمها السياسي، لم تتوانَ الجزائر يومًا عن تقديم المساعدات الإنسانية لمالي، كما فتحت أبوابها وقلبها لعشرات الآلاف من اللاجئين الماليين الذين فروا من جحيم الحرب والنزاعات. ومع ذلك، جاء الرد من مالي على هذا العطاء الإنساني ببيان ينطوي على نكران وتهجم غير مبرر وغير مدروس.

ومهما يكن، تظل الجزائر ثابتة في دعمها غير المشروط للمبادئ الإنسانية على الصعيد العالمي، وفي إفريقيا بشكل خاص، مدفوعة بقناعات أخلاقية وسياسية راسخة، بعيدًا عن أي حسابات ضيقة. لكن هذا الدعم لا يعني السماح لأي جهة بالتمادي في تحميلها مسؤوليات أو اتهامها بما يتنافى مع مبادئها.

إيمان بن يمينة - الجزائر

إيمان بن يمينة - الجزائر

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
التحويلات المالية بين الأفراد عبر الهاتف النقال ترتفع بأكثر من الضعف في 2024 الشيخ موسى عزوني يكسر الصمت: "هذا ما قصدته بحديثي عن السكن والزواج" بلعريبي يأمر بتسريع إنجاز مستشفى 500 سرير بتيزي وزو بلاغ هام لفائدة الحجاج قيود صهيونية جديدة على نشاط منظمات الإغاثة.. الاحتلال يقطع شريان الحياة الأخير عن غزّة حجز 34 حاوية من مادة الموز بميناء عنابة باحثتان جزائريتان تقودان ثورة علمية في مجالي الطب والبيئة.. ما القصة؟ وزارة الصحة تشدد على ضرورة إجراء التحاليل الطبية قبل الختان هدنة مرتقبة.. ماذا يحمل الاثنين الحاسم للحرب الأوكرانية؟ الكشف عن تواريخ مسابقة الالتحاق بالدراسات الطبية "المقيمين" وزارة المجاهدين تطلق آلية جديدة لتحديث الاتصال المؤسساتي ريتايو يهدد بالاستقالة بسبب الجزائر.. ما القصة؟ تظام المخزن يمنع وفدا قانونيا دوليا من دخول مدينة العيون المحتلة المغرب يمنع وفدًا دوليًا من دخول الصحراء الغربية.. متى يواجه النظام المخزني الحقيقة؟ وكالة عدل ترد على الأسئلة الأكثر تداولا بين المسجليين في برنامج "عدل 3" هل يجوز إخراج زكاة الفطر نقدًا؟ وزارة الشؤون الدينية تجيب هذه توقعات حالة الطقس لنهار اليوم الأحد الشراكة بين العام والخاص.. طريق الجزائر نحو 400 مليار دولار بلديات الوطن تفتح أبوابها ليلاً لتلبية الطلب على وثائق "عدل 3" وزارة الفلاحة تعلن عن اقتناء عتاد فلاحي لدعم إنتاج الذرة الصفراء