بذلت الدبلوماسية الجزائرية منذ اندلاع النزاع في مالي بداية التسعينيات جهودا حثيثة لتسوية النزاع وتقريب وجهات النظر بين الفرقاء، وكان الدور الجزائري بارزا عبر مختلف مراحل النزاع في مالي. وما يميز المقاربة الجزائرية تأكيدها المستمر والثابت على الحوار الشامل والحل السلمي للنزاع دون إقصاء أي طرف، وكذلك تبني المقاربة التنموية للمناطق الحدودية لاسيما مناطق سكان شمال مالي. كان الدور الجزائري بارزا من خلال الوساطات التسهيلية التي كان تقودها والتي أسفرت عن مجموعة اتفاقيات (تسويات سلمية) يمكن ذكرها كما يلي:
– اتفاقية تمنراست الأولى (1991): جاءت الوساطة بطلب من الرئيس المالي، أهم ما جاء في الاتفاقية أنها نصت على وقف إطلاق النار، وتوجيه قروض برنامج الاستثمار نحو المناطق الشمالية. ومنح منطقة “كيدال” و”تمبكتو” حكما ذاتيا.
– اتفاقية تمنراست الثانية: انعقد اللقاء في الجزائر بين 22-24 جانفي 1992 والذي تلاه لقاء ثالث في مارس 1992 تمخض عنه ما يعرف الآن باتفاقية باماكو.
– لقاء الجزائر 1994: تذليل العقبات التي أعاقت تنفيذ اتفاقية باماكو لاسيما منها إدماج المقاتلين الطوارق في المؤسسات الرسمية
– اتفاقية الجزائر 2006: جاءت كمحصلة للوساطة الجزائرية والتي كانت بطلب من الحكومة المالية حضرها وزير الخارجية محمد بجاوي، والوزير المنتدب للشؤون الإفريقية عبد القادر مساهل وسفير الجزائر بمالي عبد الكريم غريب، أكدت الاتفاقية على احترام الوحدة الترابية والوحدة الوطنية والحرص على ضمان السلم والأمن والتفرغ لمهام التنمية الاقتصادية والاجتماعية في شمال مالي.
تجدّد الدور الجزائري بعد الأزمة التي حدثت في مالي سنة 2012 وظل الموقف الجزائري ثابتا بتأكيده على الحوار كخيار استراتيجي من أجل الخروج من براثن الأزمة وحافظت على اتصالاتها مع كل الأطراف، وتجدّدت الوساطة الجزائرية بين مجموعات الشمال وحكومة باماكو في 22-12-2012، تمخض عنه اتفاق الجزائر الذي خلص إلى ضرورة التعاون بين السلطات المركزية المالية لإيجاد حل سياسي في إطار الوحدة الوطنية ومحاربة الإرهاب، وتجنب أي مواجهات عسكرية بين أطراف النزاع، وتوفير الأمن وعدم إثارة أي مواجهة. كما تضمنت خطة الجزائر إنشاء صندوق تنموي لمنطقة الأزواد مع وضع مخطط لإعادة الإعمال في الشمال.
بعد انهيار هذا الاتفاق قادت الجزائر دبلوماسية نشيطة بعد تعيين فريق للوساطة ترأسه الجزائر والذي ضم الأمم المتحدة، الاتحاد الإفريقي، المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا، الاتحاد الأوروبي، منظمة التعاون الإسلامي، بوركينافاسو، موريتانيا، النيجر، تشاد، تمخض عنها في 2013 وضع خارطة طريق للحل السلمي يجمع كل الأطراف، وتم وضع أجندة للحوار الشامل في مالي بوساطة جزائرية، وبعد خمسة جولات من الحوار تمكنت الجزائر من إقناع الأطراف على التوقيع على اتفاق سلام في مارس 2015. دعا الاتفاق إلى ضرورة إعادة بناء الوحدة الوطنية، واحترام التنوع الإثني والثقافي، وتشكيل مجالس محلية تنتخب بالإقتراع العام المباشر بالإضافة إلى إشراك سكان الشمال ضمن المؤسسات الوطنية المالية.
الوضع في مالي بعد انقلاب 2020
أدى الانقلاب العسكري في مالي إلى مزيد من التعقيدات التي ألقت بظلالها على مسار التسوية السياسية ووقف العمل باتفاق السلام المبرم سنة 2015، حيث أعلنت حكومة باماكو إنهاء العمل باتفاق السلام الموقع بالجزائر، وهو ما يجعل الوضع الأمني أكثر تدهورا حيث أصبحت مالي ساحة مفتوحة للمعارك والاقتتال، إضافة إلى ظاهرة النزوح التي تعصف بسكان مالي وستعاني منها الجزائر منها بلا شك.
من جانب آخر، يرى المجلس العسكري في مالي أن ميزان القوى في الشمال اختل لصالحه، وأن بإمكانه السيطرة العسكرية التامة على المناطق الشمالية، لاسيما في ظل خروج القوات الفرنسية وعدم قدرة القوات الأممية من ملئ الفراغ، إضافة إلى استعانة المجلس العسكري في مالي بالأطراف الخارجية التي زودته بالطائرات الحربية والمروحيات القتالية، هذا التطور دفع حكومة باماكو للاعتقاد بأنها تمتلك التفوق الجوي الذي يضمن لها السيطرة على المنطقة الشمالية والحسم العسكري. لاسيما في ظل استنزاف قدرات حركة الأزواد في حربها ضدّ الجماعات الإرهابية سابقا.
إن هذه المواجهات لن تكون لصالح أطراف النزاع، وإنما ستخدم بلا شك الجماعات الإرهابية التي تجد مساحة للتحرك وإعادة الانتشار في المنطقة بشكل عام، إضافة إلى ذلك، ستجد الأطراف الدخيلة عن المنطقة سانحة للتدخل والتغلغل لتحقيق أجنداتها وأهادفها.
تظل الجزائر قلقة اتجاه ما يجري في مالي حاليا، وهذا ما جاء على لسان وزير الخارجية أحمد عطاف حيث قال: “أن الجزائر لا يمكن أن تدير ظهرها لما يجري في منطقة الساحل، وهي معنية ومنشغلة بما يجري هناك”، يزداد هذا القلق الجزائري مع تدهور الأوضاع الأمنية وحدوث اشتباكات في مناطق تفصلها مئات الأمتار على الحدود الجزائرية. إضافة إلى مخاوف الجزائر من انتشار الجماعات الإرهابية في المنطقة برمتها مستغلة في ذلك انتشار العنف وانشغال الأطراف الإقليمية والدولية بحل النزاع في مالي.
هذا هو المطلوب الآن من الجزائر
المطلوب من الجزائر العمل على مسارين متوازيين:
المسار الأول: يتضمن ضرورة بناء قدرات ذاتية يمكن تحويلها إلى مصادر قوة وتأثير، ولا أقصد بذلك القدرات العسكرية فقط، بل يجب تعزيزها بالجبهة السياسية الموحدة وتحقيق مؤشرات للإقلاع الاقتصادي، والأهم من ذلك، تحقيق التماسك المجتمعي، فالتداخل الجيو-إثني والعرقي في المنطقة يغري الأطراف الدخيلة لمحاولة التلاعب وتغذية التعبئة الإثنية والعرقية.
أما المسار الثاني يتضمن: تفعيل دور المنظمات الإقليمية -وأقصد هنا دور الاتحاد الإفريقي- وهو ما تفعله الجزائر، من خلال التمسك بالشرعية الدستورية التي تضمن الاستقرار للمنطقة، كما يجب إعادة بعث المقاربة التعاونية والتشاركية للأمن، مع ضرورة التأكيد على بعث الحوار الداخلي بين حركة الأزواد وحكومة باماكو كخيار استراتيجي لتسوية النزاع، والتركيز على الجهود والتعاون الإفريقي – الإفريقي، مع الحفاظ ومشاركة الجزائر ضمن عمليات تسوية النزاع في مالي كركيزة حيوية لما تمتلكه الجزائر من معرفة عميقة بديناميكيات النزاع إضافة إلى القدرات التي تمتلكها الجزائر كقوة إقليمية محورية في المنطقة، إضافة إلى المبادئ والمنطلقات الموضوعية والقيمية التي تتميز بها السياسة الخارجية الجزائرية من ذلك التزامها الدائم بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول وحسن الجوار اللذين يعدان من مبادئ ومنطلقات السياسة الخارجية الجزائر، التي تسهل عمليات الوساطة والتقريب بين الفرقاء.