يؤكد الباحث كمال شكلاط، من مركز البحوث الاجتماعية والسياسية في باريس، أن التغلغل الصهيوني في المنطقة، وتوظيف المخزن لأجندة “إسرائيل” التوسعية بعد تطبيع علاقاته مع تل أبيب، ليس سوى امتداد لعداء تاريخي تكنّه المملكة، مدفوعًا بأوهام الهيمنة والقيادة الإقليمية. هذا التوجه، الذي يقوم على زعزعة استقرار الجزائر، يأتي ضمن مشروع صهيوني أوسع لإعادة تشكيل التوازنات في شمال إفريقيا، عبر تحويل المغرب إلى قاعدة متقدمة للنفوذ الإسرائيلي في المنطقة.
الأيام نيوز: كيف أثرت عوامل مثل قضية “بيغاسوس” ودعم المغرب للجماعات الإرهابية على قرار الجزائر بقطع العلاقات الدبلوماسية مع الرباط؟
كمال شكلاط: يعود أصل الصراع التاريخي، الذي غذّاه المخزن بتحالفاته المشبوهة، إلى الحقبة التي سبقت استقلال الجزائر. فقد كانت الحدود الاستعمارية، التي رُسمت وفق مصالح القوى المحتلة، قنبلة موقوتة انفجرت مباشرة بعد الاستقلال، حيث اندلعت “حرب الرمال” عام 1963، لتترك جراحًا سياسية لا تزال مفتوحة حتى اليوم.
منذ 1975، تصاعد التوتر بين البلدين، خاصة مع تواصل الأطماع التوسعية للمغرب واحتلاله للصحراء الغربية، ليصبح العامل الجيوسياسي الأبرز في تأجيج النزاع المغربي – الجزائري. ورغم المحاولات الدبلوماسية، مثل تأسيس اتحاد المغرب العربي عام 1989، إلا أن العداء المتجذر لم يتراجع، بل تفاقم بفعل تداعيات الحرب الباردة، واستمر في التصاعد حتى وقتنا الحاضر.
إحدى المحطات الأكثر توترًا كانت إغلاق الحدود البرية عام 1994، بعد أن اتهمت الرباط زورا الجزائر بتدبير هجمات إرهابية، فجاء الرد الجزائري حاسمًا بإغلاق الحدود، ليظل الوضع متأزمًا حتى اليوم.
وهنا يكمن الخطر الأكبر: تغلغل الاحتلال الصهيوني في المنطقة، وتحويل المغرب إلى قاعدة متقدمة للموساد، في إطار مشروع استراتيجي يستهدف الجزائر وأمنها القومي. تطبيع المخزن العلني مع “إسرائيل” لم يكن مجرد اتفاق دبلوماسي، بل خطوة عدائية صريحة تهدف إلى إعادة رسم خارطة النفوذ في شمال إفريقيا.
وتزداد خطورة هذا التحالف مع تورط المغرب في التجسس لصالح “إسرائيل”، عبر فضيحة “بيغاسوس”، التي كشفت أن الرباط لم تعد مجرد شريك، بل أداة صهيونية لاختراق الدول المغاربية. الأخطر من ذلك، اعتراف المغرب بمنظمة “الماك” الإرهابية، في محاولة واضحة لإضفاء شرعية على مخطط تقسيم الجزائر، وخلق بؤر توتر داخلية تهدد استقرارها.
اليوم، لم يعد النزاع بين الجزائر والمغرب مجرد صراع حدودي أو تنافس إقليمي، بل تحول إلى معركة وجودية، حيث يقف المخزن في الصف الصهيوني، مُحاولًا فرض واقع جديد يخدم أجندة “إسرائيل”، على حساب الأمن القومي الجزائري، وعلى حساب استقرار المنطقة المغاربية ككل.
لا يمكن فصل العوامل التاريخية (الحدود وقضية الصحراء الغربية) عن المتغيرات الحديثة (فضيحة “بيغاسوس” والتطبيع مع “إسرائيل”)، فهذه القضايا مترابطة وتعكس حقيقة المشروع التوسعي الذي يتبناه المخزن، والقائم على فرض الهيمنة الإقليمية بأي ثمن. في قلب هذه الاستراتيجية، يكمن السعي المستمر لإضعاف الجزائر، باعتبارها القوة الإقليمية الأكبر في شمال إفريقيا، وهو ما يفسر العرقلة المتعمدة لمشروع الاتحاد المغاربي، الذي كان من الممكن أن يشكل قوة اقتصادية وسياسية مؤثرة لولا المناورات المغربية التي أفشلته منذ البداية.
أما دعم النظام الملكي لمنظمة “الماك” الإرهابية، فهو ليس سوى مناورة خبيثة مكشوفة، ومحاولة يائسة لخلق شرخ داخل الجزائر، ردًا على موقفها الثابت من قضية الصحراء الغربية. المنطق المغربي في هذا السياق بسيط وخطير: “إذا كانت الجزائر تدعم حق تقرير المصير في الصحراء الغربية، فعلينا أن نردّ بتمزيق وحدتها الداخلية”.
الأخطر من ذلك، أن هذا الخطاب العدائي ضد الجزائر لم يعد محصورًا في الأوساط الرسمية المخزنية، بل أصبح جزءًا من العقلية العامة التي يتم الترويج لها داخل المغرب. فالمخزن يروج لرواية مشوهة مفادها أن الجزائر “صناعة استعمارية فرنسية”، وأنها “اغتصبت أراضي مغربية”، في محاولة لإعادة كتابة التاريخ وتكريس استياء شعبي مزمن يُستغل لإلهاء المغاربة عن أزماتهم الداخلية الحقيقية.
هذا التسفيه التاريخي، الذي يذكي نار العداء بين الشعبين، ليس مجرد حالة استياء داخلية، بل هو وقود مشروع توسعي خطير، يسعى المخزن من خلاله إلى فرض واقع جديد يخدم أجندته، حتى ولو كان ذلك على حساب وحدة واستقرار المنطقة المغاربية ككل.
الأيام نيوز: في زيارته إلى الدار البيضاء في 12 أغسطس 2021، تحدث وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد علنًا عن “مخاوف” بلاده بشأن دور الجزائر في المنطقة، وتقاربها مع إيران، ورفضها لعضوية “إسرائيل” كمراقب في الاتحاد الإفريقي. ألا يعكس هذا التصريح حقيقة أن المغرب يخوض حربًا بالوكالة لصالح “إسرائيل” في شمال إفريقيا؟
كمال شكلاط: بالتأكيد، نحن نواجه حربًا بالوكالة، حيث أصبح المخزن أداة صهيونية لتنفيذ أجندات “إسرائيل” في شمال إفريقيا، مستغلًا موقعه لتقديم “إسرائيل” كحليف شرعي في المنطقة، دون حرج أو معارضة. (يجب أن نتذكر أنه في عهد الحسن الثاني، كانت “إسرائيل” حاضرة أيضًا ولكن في الخفاء، عبر الاستخبارات والتجسس، والضغط على اليهود المغاربة الموجودين بشكل كبير في “إسرائيل”). هذا التحالف اليوم لم يعد سريًا، بل تحول إلى خطر حقيقي يهدد الأمن القومي الجزائري والإقليمي، ويعزز مشروع تقسيم المنطقة بين المغرب العربي والمشرق العربي.
والأخطر من ذلك، أن وزير الخارجية الإسرائيلي لم يتردد في الإدلاء بهذه التصريحات العدائية خلال زيارة رسمية لدولة “ذات سيادة” مجاورة مباشرة للجزائر، وهو ما يعكس شكلًا جديدًا من الغطرسة من كلا الجانبين: المغرب، الذي ألقى بنفسه في أحضان الصهيونية، و”إسرائيل”، التي توسع نفوذها داخل المؤسسات الإفريقية دون أي مقاومة تُذكر.
الأيام نيوز: ماذا عن عواقب هذا التمزق السياسي في المنطقة على عمليات التعاون الأمني، ولا سيما في ظل العدوان الأخير؟
كمال شكلاط: من الناحية العملية، لم يؤثر هذا التمزق بشكل كبير على التعاون الأمني، نظرًا لأن الحدود بين البلدين مغلقة منذ عام 1994 لأسباب تتعلق بالحفاظ على الأمن والاستقرار في المنطقة. ومع ذلك، فإن استمرار هذا الجمود يعكس تحديات إقليمية تستوجب رؤية استراتيجية جديدة، قوامها تعزيز الحلول المغاربية بعيدًا عن التدخلات الخارجية.
إحدى العقبات الرئيسية أمام التعاون الإقليمي تتمثل في غياب تكتل مغاربي موحد قادر على هندسة رؤية أمنية مشتركة، مثل ما هو معمول به في الاتحاد الأوروبي. ورغم محاولات الجزائر تعزيز التكامل المغاربي على أساس المصالح المشتركة، فإن أطرافًا أخرى سعت لإفشال هذه الجهود خدمة لأجندات خارجية، وهو ما أضعف فرص بناء تعاون أمني متين يخدم شعوب المنطقة.
كانت الجزائر دائمًا مناصرةً لأي مشروع تكاملي مغاربي يهدف إلى تعزيز الأمن والاستقرار، بعيدًا عن الإملاءات الخارجية التي تسعى لاستغلال الانقسامات لخدمة مصالحها. ومن هذا المنطلق، فإن إحياء مشروع الاتحاد المغاربي وفق رؤية جزائرية قائمة على الحوار والتعاون سيُسهم في إعادة ترتيب المشهد السياسي والأمني في المنطقة بما يخدم مصالح شعوبها.