التاريخ الذي لا يخطئ.. حين تحالف سلطان المغرب مع فرنسا ضد الجزائر

“اعطني خطيبا مفوها ولا ألف فارس شجاع..” -الاسكندر المقدوني-. كان الأمير عقب كل صلاة يقف خطيبا في جنده وأنصاره، يحث هممهم ويستفز مشاعرهم ويهز عواطفهم وعظا وتوجيها وإرشادا، وهو الذي أوتي فصاحة اللسان وبلاغة البيان، فيعيد رص الصفوف ولملمة الجراح ومداواة الأقراح.. استعدادا لخوض معركة أخرى.  

والأمير منهمك في جهاده بكل ما كان يملك من قوة ومن رباط الخيل، والتاريخ على مشارف العام 1848م، تزايدت الحملات “المراكشية” العدائية ضده، وتصاعدت حدة العداء المعلن والمبطن، حتى بلغ الأمر بالسلطان عبد الرحمان بن هشام المغربي أن بعث إليه بخطاب حمله الكثير من التهديد والوعيد: …لا سبيل إلى خلاصك إلا بأحد أمرين؛ إما أن تسلم نفسك إلينا.. أو أن تخرج من هذه الحدود.. فإن أبيت القبول بأحدهما طوعا، فسنجبرك على قبوله كرها..؟ في تحالف مفضوح مع الفرنسيس خيانة وغدرا.

وهنا انفرط عقد الرباط الجامع بين الدولتين “الشقيقتين”، الأمر الذي دفع بالأمير إلى مراسلة شيوخ مصر وعلماء الأزهر مستفتيا في أمر السلطان: …إن سلطان المغرب فعل بنا الأفعال التي تقوي حزب الكافر على الإسلام وتضعفنا، وأضر بنا الضرر الكثير، ولم يلتفت إلى قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: الْمسلم أَخو الْمسلمِ لا يسلمه ولا يظلمه.. ولا إلى قوله -عليه الصلاة والسلام-: الْمؤمنُ لأخيه كالبنيانِ الْمرصوص يشد بعضه بعضا.. ولا إلى قوله -عليه الصلاة والسلام-: الْمؤمنون تتكافأُ دماؤهم، ويسعى بِذمتهِم أدناهم، وهم يد على من سواهم…

وجاء رد علماء مصر بالدعم والتأييد لموقف الأمير، واستنكار ما فعل المخزن من رِدّة وخيانات وضرب في الظهر وتأييد للفرنسيس أهل الصليب ضد جماعة المسلمين من بني جلدته دما وديارا.

وحتى يوغر السلطان في خيانته للأمير، ويظهر الولاء الصريح للفرنسيس، جهز جيشا قوامه خمسون “50” ألف مقاتل، وجعل على رأسه ولديه محمد -ولي العهد- وأحمد، وسيره إلى الشرق للقضاء على الجيش الجزائري.. تحرك الجحفل حتى بلغ منطقة سلوان بإقليم وجدة يوم 10 ديسمبر 1847م، على تخوم وادي ملوية، لتندلع المعركة بعد ذلك بيومين عند المكان المسمى أقدين.. وبعد كر وفر، انتصرت الجيوش الجزائرية التي كان لا يزيد عددها عن 1200 فارس و800 رجل، وتقدمت في سيرها إلى أن بلغت السرداق الذي يقيم فيه ولي العهد المغربي مع أخيه، فلما اشتد أمامهما القتال، وفر أكثر من كان حولهما من جند ومدد، تسترا بالظهر وهربا وسط رجال الحماية، لتستمر المعركة من دون قيادة حتى موعد الفجر.. فكثر القتل في ذلك اليوم والأسر، في صفوف جيش السلطان، لينسحب الأمير بعدها إلى مركزه منتصرا.

لم يدم الحال طويلا حتى تنادى المغاربة وجمعوا أمرهم على إِثر انهزامهم بموقعة سلوان، فجاءت النجدات من شتى أنحاء المغرب الأقصى، فما كاد الأمير يجتاز نهر ملوية إلى ضفته الشرقية، حتى بلغه عزم السلطان على منازلته مجددا، فانتقل بجيشه إلى ناحية “عجرود” وهناك وقعت الاشتباكات بين الطرفين وكثر فيها القتلى والجرحى. وصادف أن كان الوادي مضطربا فغرق فيه أكثر جند السلطان وتحوّل الأمير بعدها إلى مصب النهر، فلاحقته الجنود وتجددت المعارك، فأصيب فيها الكثير من رجال حكومة الأمير وأعيان رؤساء جيشه، منهم القائد المغوار “محمد بن يحي”، كما وقع الأمير من على فرسه الذي سقط تحته ميتا وجرح في ساقه، ثم جيء له بجواد ثان، فوقع به مثل ذلك.. ثم ثالث ورابع كذلك.. واشتد الكرب بالمجاهدين ونفدت الذخيرة والبارود وقلَّ ما بأيديهم من سلاح، حتى أشرفوا على الهلاك المحتوم.. وهنا اضطر الأمير إلى التقهقر بمن بقي معه من الجند إلى جبل “بني خالد” من أرض “بني يزناسن”، وكانت الأمطار غزيرة متهاطلة ليل نهار، فنزل هناك على شيخ الجبل “المختار بودشنيش” ببلدة “تافجيرت”، وكان هذا الشيخ من أصدقاء الأمير القدامى، إلا أنه تحول عنه هذه المرة، وأظهر له الجفاء منصرفا عنه بوجهه إلى ناحية الجيش الغاصب.

وبينما كانت المعركة جارية على الضفة الغربية لنهر ملوية، كان الجنرال “لاموريسيير” يروح ويغتدي على طول الحدود في جيش يتجاوز تعداده الـ 50 ألف مقاتل، يتربص الدوائر بالأمير ليقطع عنه خط العودة، مخافة انزلاقه إلى تخوم الصحراء.

خيم الجنرال بأرض “مسيردة” بمكان يعرف باسم “عطية” قرب بلدة “ندرومة”، ومن هناك أطلق الجواسيس ونشر العيون تراقب تحركات الأمير وتقلبه في الآفاق.

وفي تلك المرحلة الحرجة، بعد سبعة عشر عاما من الجهاد المضني، وأمام خيانة سلطان المغرب وتخاذل ملوك وأمراء الدول الإسلامية آنذاك، لم ييأس الأمير وحمل نفسه على مراسلة السلطان “محمود” بالباب العالي، مشتكيا ومستنجدا قائلا: “…ونحن أسلمنا إخواننا المسلمين، فتركونا أسرى في يد العدو، فهم لنا ظالمون وتبرأ منا من كان قريبا لنا من الملوك ومنعونا شراء ما نتقوى به على الكافر خوفا منه ومنعونا حتى السلوك.. طلبنا منهم الإعانة بالرجال فلم يقبلوا، واستعناهم بالأموال فلم يفعلوا، وطلبنا منهم السلف فكان عين المحال، ومنعوا رعاياهم من إعانتنا بكل وجه وحال، فما نفعنا قريب ولا مجاور ولا دافع ذو سيف ولا محاور، فكأن المسلمين ليسوا بجسد واحد.. والمسلمون بهذا القطر لا ينظرون من غيركم إفراجا ولا لهم ملجأ يلجأون إليه، غير حظك العالي والإدراك فأبصارهم لإعانتك وإمدادك طامعة، وقلوبهم بمحبتك وذكرك طافحة، فإن قيل مال؛ عندك المال الوافر.. وإن قيل جيش؛ عندك العسكر البحر…”..

كما كتب إلى الملكة “فكتوريا” ملكة إنجلترا وايرلندا الشمالية، تعريفا بقضيته الوطنية ومقاومته الشرعية، وطلبا للعون بالسلاح والمعدات.. لكن تلك المساعي كلها لم تنجح، فأما سلطان استنبول يومها فقد كان مشغولا بمشاكله المعقدة داخليا وخارجيا مع الممالك والامبراطوريات الأوروبية.. وأما الإنكليز فسياسة صاحبة الجلالة معروفة في هذا الشأن، وهي دعم الفرنسيس ما دام الصليب قائما.

يشهد جل المؤرخين بالحقيقة الناصعة التي مفادها أنه لولا تفرق المسلمين في تلك الحقبة داخليا وخارجيا، ولولا عداء السلطان المغربي عبد الرحمان بن هشام ووقوفه إلى جانب الفرنسيين وصده الأمير عن اللجوء إلى الغرب وإلى الصحراء، لما اضطر الأمير للتسليم بين يدي الجنرال “لاموريسيير”، الذي ظل يتربص به ويكيد له المكائد بالتعاون مع حليفه سلطان المغرب الأقصى، فكانت النهاية يوم 23 ديسمبر العام 1847م.

مصطفى بن مرابط - الجزائر

مصطفى بن مرابط - الجزائر

كاتب في الأيام نيوز

اقرأ أيضا