تعيش العلاقات الجزائرية الفرنسية في السنوات الأخيرة حالة من التوتر المتزايد، حيث تطورت الأزمات لتنعكس سلبًا على التعاون بين البلدين. في وقت تزداد فيه الخلافات السياسية، التي تؤججها المواقف الاستفزازية لليمين المتطرف الفرنسي، يتزامن ذلك مع تحولات كبيرة في السياسة الاقتصادية الجزائرية. ومن أبرز هذه التحولات تراجع الاعتماد على القمح الفرنسي، الذي كان يشكل جزءًا كبيرًا من احتياجات الجزائر الغذائية، في ظل سعي الجزائر المتواصل إلى تنويع مصادرها في هذا القطاع الحيوي.
تزامن تراجع التعاون السياسي بين الجزائر وفرنسا مع انخفاض حاد في صادرات القمح الفرنسي إلى الجزائر، التي كانت تعتمد بشكل كبير على فرنسا لتغطية احتياجاتها من هذه المادة الغذائية الأساسية. كانت فرنسا في الماضي المورد الرئيس للقمح للجزائر، حيث كانت تُمثل حوالي 80% من احتياجات البلاد. ولكن، بدأت الجزائر في توجيه سياساتها التجارية نحو تنويع مصادر استيراد القمح، لتتوجه إلى دول أخرى مثل روسيا وأوكرانيا ورومانيا وبلغاريا. ويعتبر هذا التحول مؤشرًا على التغيير الكبير الذي يحدث في الاستراتيجية الاقتصادية الجزائرية على خلفية الأزمات الدبلوماسية مع باريس.
وفي هذا السياق، تراجعت صادرات القمح الفرنسي إلى الجزائر بشكل حاد، من 5 ملايين طن في عام 2019 إلى 1.5 مليون طن في 2024، مع التوقعات بأن تصل إلى الصفر في العام الجاري. هذا التراجع لم يكن مجرد انعكاس للأزمات السياسية فقط، بل كان نتيجة لتطبيق الجزائر شروطًا فنية صارمة على القمح المستورد، ما جعل من الصعب على فرنسا الوفاء بهذه المتطلبات.
هل حقا ساسة فرنسا رجال دولة؟
وسط هذا التوتر، وجه البرلماني الأوروبي السابق كريم زريبي انتقادات لاذعة للسياسيين الفرنسيين، مستنكرًا سلوكهم الذي لا يعكس سمات رجال دولة حقيقيين. في تصريحاته، أشار زريبي إلى تناقض مواقف الحكومة الفرنسية في التعامل مع القضايا الدينية، خاصة فيما يتعلق بالمسلمين. انتقد الهجمات على النساء المحجبات، بالإضافة إلى التضييقات على محلات الجزارة الحلال في الوقت الذي تحتفل فيه فرنسا بأعياد دينية أخرى. وقال زريبي، “إذا كانوا يريدون أن يُنظر إليهم كرجال دولة، فعليهم أن يتصرفوا على هذا النحو، بدلاً من الانشغال بمهاجمة فئة معينة من المواطنين.”
هذه التصريحات تأتي في وقت حساس بالنسبة للفرنسيين، حيث تنامي تأثير اليمين المتطرف في البلاد وتزايد الهجمات ضد المسلمين. ويرى زريبي أن تصرفات السلطات الفرنسية تساهم في تأجيج هذه الأزمة، وتعمق الهوة بين الجزائر وفرنسا.
اليمين المتطرف وتهديدات جديدة..
إلى جانب الانتقادات الداخلية، تتزايد الحملات العدائية التي يقودها اليمين المتطرف الفرنسي ضد الجزائر. في ظل هذه الظروف، أصدرت عدة منظمات جزائرية، من مختلف التوجهات والمجالات، بيانات تدين السياسات الاستفزازية التي ينتهجها اليمين المتطرف في فرنسا، معتبرة أن هذه السياسات تشوه صورة الجزائر على الساحة الدولية. هذه المنظمات لا تقتصر على الفاعلين السياسيين أو الحقوقيين، بل تشمل أيضاً الهيئات الثقافية والمجتمعية التي تسعى إلى الدفاع عن مصالح المواطنين.
من بين هذه المنظمات، نجد “مؤسسة شباب الجزائر” التي دعت إلى التلاحم والتوحد في موقف مشترك للدفاع عن السيادة الوطنية، مبرزة أهمية دعم المواقف الدبلوماسية الرسمية للبلاد في مواجهة هذه التهديدات. “جمعية البيئة والمواطنة” أيضًا أصدرت بيانًا قويًا تستنكر فيه ما وصفته بـ”التضييقات العنصرية” التي يتعرض لها المواطنون الجزائريون المقيمون في فرنسا، معتبرة هذه الممارسات انتهاكًا للحقوق الأساسية وتناقضًا مع القيم الإنسانية التي يجب أن تحكم العلاقات بين الدول.
أما “الجمعية الوطنية لحماية أطفال الشلل الدماغي”، فقد أدانت التصريحات العدائية لبعض الأوساط السياسية الفرنسية، مشيرة إلى أن هذه المواقف لا تمثل القيم الإنسانية والمبادئ التي ينبغي أن تسود العلاقات الدولية. في حين أن “أكاديمية الشباب الجزائري” عبّرت عن قلقها العميق حيال التصعيد الخطير الذي تمارسه فرنسا، وخاصة تصريحات وزير الداخلية الفرنسي، معتبرة أنها تتجاوز الأعراف الدبلوماسية.
وفي ذات السياق، دعت “التنسيقية الوطنية للمجتمع المدني بولاية توقرت” و**”الاتحادية الوطنية للمجتمع المدني”** إلى التصدي بحزم لهذه السياسات العدائية، مؤكدتين على أهمية تعزيز الوحدة الوطنية وتوحد المجتمع المدني الجزائري خلف موقف موحد لرفض التدخلات الأجنبية التي تهدف إلى زعزعة استقرار البلاد.
الجزائر لن تخضع للابتزاز..
من خلال هذه التطورات، تتضح إصرار الجزائر على الدفاع عن مصالحها العليا ورفض أي تدخل في شؤونها الداخلية. في هذا السياق، أكدت مختلف المنظمات الجزائرية على أهمية تعزيز الوحدة الوطنية، التي تُعد الوسيلة الأمثل للرد على محاولات التأثير الخارجي. فبينما يتزايد التصعيد في العلاقات بين البلدين، يبقى الشعب الجزائري متمسكًا بوحدته وبسيادته الوطنية، مؤكداً أن الجبهة الداخلية المتماسكة والوحدة الوطنية تمثل الركيزة الأساسية التي تحمي الجزائر من محاولات الاستهداف الخارجية.
كما أكدت هذه المنظمات على ضرورة التصدي لهذه السياسات العدائية بحزم، وأشارت إلى أن هذه الحملات لا تعكس سوى أزمة أخلاقية وسياسية في المشهد الفرنسي، وهو ما يؤكد على الحاجة إلى استراتيجية دبلوماسية محكمة تقوم على تعزيز المصالح الوطنية بعيدًا عن أي محاولات للتدخل في السيادة الجزائرية.
في خضم التوترات المستمرة بين الجزائر وفرنسا، تظل العلاقات بين البلدين عميقة ومعقدة، إذ تتداخل السياسة مع الاقتصاد والدين والمجتمع. في الوقت الذي تسعى فيه الجزائر إلى تعزيز سيادتها الوطنية وتنويع مصادرها الاقتصادية، تسعى فرنسا، بدورها، إلى التغلب على التداعيات الاقتصادية الناتجة عن خسارة السوق الجزائرية. لكن من الواضح أن هذه الأزمة لن تكون مجرد تحديات عابرة، بل هي جزء من سلسلة من التحولات الاستراتيجية التي قد تحدد مسار العلاقات بين البلدين في السنوات القادمة.