الجغرافيا السحرية.. خارطة “الدحميس” في مملكة الألوان والتدليس

فإن وجد على خارطة العالم السياسية، كيانين مستفزين لا يعلمان حدودهما ولا يعرفان مساحتيهما بالتحديد، فإنهما؛ الكيان الصهيوني والمملكة المغربية.. فهما إلى حد الآن لم يعرفا بعد من أين وإلى أين تبدأ وتنتهي حدودهما، وذلك لكونهما نظامين عدوانيين محتلين، لا يثبتان على موقف ولا يقفان على موضع، لأنهما يفتقدان لمبدأ السيادة الوطنية، وذلك من باب أنهما كيانان وظيفيان، ما وجدا إلا لخدمة أجندات خارجية، غربية نيوكولونيالية بالتحديد، لضرب المنطقة العربية في أمنها وزعزعة استقرارها.

وقفت وزيرة خارجية إسبانيا رفقة الوزير المغربي لذات المهمة، وراحت توضّح موقف بلادها من قضية النزاع في الصحراء الغربية، وذكرت الموضوع بصريح العبارة؛ “..أن موقف مملكة إسبانيا من ملف “الصحراء الغربية”، التي هي الآن محل نقاش ونظر من قبل المجموعة الدولية بأروقة الأمم المتحدة، لا يمكن أن يكون إلا مطابقا للموقف الأممي..”.. ولا أحد من الصحافيين المغاربة ولا حتى الوزير الواجم تمكن من التعقيب على توصيف الوزيرة الإسبانية.. إلا عندما تتكلّم الجزائر في الموضوع، فإنّ استنفارا عارما يهزّ المملكة ويشحنها، ضد “الجارة الشرقية”.

آخر هذه المواقف أبان عنها الجمهور “الرياضي” المغربي لفريق نهضة بركان، وهو يفرغ جامّ حقده من غير تبرير، وبصورة غير عادية تجاه الجزائر شعبا وتاريخا ودولة، وذلك بمناسبة المباراة الملغاة ضد فريق اتحاد العاصمة، بسبب الخارطة العدوانية التي أمر المسمى “فوزي لقجع” بطبعها على قمصان اللاعبين، في خرق صارخ للقوانين الرياضية والمواثيق الأولمبية، الرافضة لأي نوع من أنواع استغلال المنافسات الرياضية لتمرير رسائل سياسية أو دينية أو إيديولوجية، خاصة إذا كانت من قبيل الاستفزاز والابتزاز وإثارة الفرقة والخلاف بين الجماهير والشعوب.

أولا، يجمع الملاحظون على أنّ “خارطة الدحميس” كما اتفق على تسميتها، والتي هي ليست خارطة المغرب، لم يكن أمر طبعها على القمصان قد صدر من المغرب، فالمغاربة مقتنعون، رغم إظهارهم العكس، بأنّ الصحراء الغربية ليست مغربية ولم تكن أبدا مغربية، وإنما جاء أمر طبعها من “تل أبيب”، بتعليمات للمسؤولين المتصهينين داخل منظومة الحكم المغربية، لاستفزاز الجزائر والدفع بها إلى اتخاذ موقف مشابه لموقفها من الرياضيين والفرق الصهيونية، وذلك من باب رفع الضغط والحرج عن الرياضيين الصهاينة أمام العالم، وإظهار الجزائر كبلد متطرف لا يعادي الصهاينة فقط ويقاطعهم، وإنما يتبنى ذات المواقف ضد المغاربة كذلك، رغم علاقة القربى التي تربط البلدين والشعبين.

ولعلّ أخف هذه الشعارات قبحا، والتي وظفها الجمهور لاستفزاز الجزائريين، كان؛ “..يا الكرغولي.. الصحراء مغربية..”.. يصرخ أحدهم من هنا، ويصيح بها آخر من هناك، من دون الإشارة إلى كمِّ الشتائم والسباب التي صبّتها ألسنة السوء لجمهور “بركان” المشحون، على أسماع لاعبي فريق اتحاد الجزائر، أو الفريق الذي أسّسه الشهداء والأشراف الأحرار، الذين قاوموا وجاهدوا الاستعمار، في زمنٍ كان فيه النظام المغربي بصدد بيع شرف المغاربة بين يدي الجنرال “ليوطي” الذي أسّس مملكة المولى، وبالتالي فإنّ الروح الثورية التي أسّست الاتحاد العاصمي لا يمكن أن تخبو أو أن تذبل أمام المواقف الوطنية الكبرى، التي تجعل من المنافسة الرياضية تتراجع خطوة إلى الخلف وراء الكرامة والشرف.

وأما ما تعلّق بمسألة “كرغلي”، فليس للجزائريين ما يخجلون منه في القضية، ذلك أنّ الـ”كراغلة” قوم مولدون من زواج العثمانيين المجاهدين الذين مكثوا بين سكان المغرب العربي من ليبيا إلى الجزائر، بنساء شريفات من أهل البلاد، زواجا شرعيا شريفا على شرع الله وسنة رسوله، ومذهب الإمامين في الغالب؛ مذهب مالك، ومذهب أبي حنيفة.

وكان أول من استخدم هذا التوصيف هم العثمانيون أنفسهم، للتمييز بين المجموعات الإثنية التي كانت تسكن المغرب العربي أيام ذاك، بسبب البعد الديني والمذهبي الذي كان لا بد وأن يؤخذ بعين الاعتبار في حال تعيين القادة والأئمة والأعيان وتوزيع المسؤوليات على رجال الدولة، وقد كان هذا التصنيف شائعا في الجزائر العثمانية وتونس وليبيا، إلا أنه لم يستخدم في مصر التي كانت تابعة للباب العالي كذلك.

اليوم، وقد اندمج أحفاد الـ”كراغلة” وذابوا في النسيج الاجتماعي الوطني الجزائري، والذي شكّل بالنهاية بوتقة واحدة، وصهرها بالدّم والحديد والنار، وجعلها أمة جزائرية في فينيقييها وبربرها، في فاتحيها وموريسكييها، في عربها وكراغلتها.. أمة واحدة موحّدة من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى صحرائها، تحت راية واحدة مخضبة بدماء السادة الشهداء.

لكن، ماذا عن توصيف؛ “السناغلة” ومفردها “سنغولي” و”سنغولية”، وعن مصطلح؛ “حراطين” ومفردها “حرطانية” و”حرطاني”.. وهم عبيد البخاري كما يعرفون في تاريخ المملكة “العلوية”، أو لقطاء الجيش المغربي، والذين منهم ينحدر الحرس الملكي الحالي، أوفى أجهزة الأمن للملك وقصره.. ماذا عن هذه الألقاب والتوصيفات التي تفتقد لأدنى درجات الشرف والاعتزاز، والتي يتحرّج المغاربة من ذكرها، لما تحمل في طياتها من دلالات سوداء وتاريخ لا يشرّف.

إنه “جيش البخاري” الذي شكّله السلطان “إسماعيل” الذي حكم وسط المغرب ما بين سنتي 1672 و1727م، وكان جيشا في معظمه من العبيد والحراطين، لتعزيز الأمن والاستقرار في مملكته، والاستعانة بهم على جباية الزكاة والضرائب.. وبعدما استتب له الأمر، أمر بتزويجهم من المغربيات قسرا، لدرجة أنّ زلزالا ديمغرافيا واثنيا كبيرا كان قد ضرب المغرب في قلبه وهيكله، حتى أنه لا يزال يؤثّر على التركيبة الاجتماعية المغربية إلى يوم الناس هذا.

وفي هذا السياق، ومما ورد في الأثر، أنّ ملكا كان قد راوده حلم في منامه بأنّ يبني بيتا من زجاج فوق تلة كبيرة، حتى يتمكن من مراقبة أهل المدينة من علِ. أمر جيشه بتنفيذ الأمر، ولما شرع العمّال في البناء وبدأوا في تسوية الأرضية، كانت الحجارة والطوب تتساقط فوق سقوف البيوت عند سفح الجبل، ورغم تذمّر الساكنة واستيائهم، إلا أنّ الملك أمر بالمضي في إتمام المشروع حتى وإن تهدمت البيوت كلها.. ومضت الأيام، والناس تعاني خلالها الويلات، ولم يكن لهم من سبيل سوى الشكوى لله رب العالمين.

أنهى العمال إنجاز البيت الزجاجي، فأعجب به الملك أيما إعجاب، وراح يقضي جلّ وقته داخله يتأمل الرعية في سعيها ذهابا وإيابا، وهو أسعد الملوك بإنجازه ذاك. إلى أن حلّ موسم عودة الطيور المهاجرة، وجدت في الطوب المتساقط والحصى، مادة صالحة لبناء أعشاشها، فكانت تعمد إلى نقل حبات الطوب والحصى بمناقيرها، وتطير بها فوق البيت الزجاجي، فكان كلما انسلت حصاة من بين فكي طائر ما سقطت فوق البيت.. وهكذا، إلى أن ظهرت بجوانبه تشقّقات كثيرة، جعلت الملك يفرّ منه بجلده خوفا من أن يسقط فوق رأسه.. وبالفعل، ففي إحدى الليالي المظلمات هبت رياح قوية على التلة المرتفعة، فهوى البيت وانهار وتدمّر عن آخره.. وهكذا، كان على الملك أن يدفع الثمن جراء مظلمته.. ومن هنا جاء المثل الخالد؛ “من كان بيته من زجاج، فلا يقذف الناس بالحجارة”.

مصطفى بن مرابط - الجزائر

مصطفى بن مرابط - الجزائر

كاتب في الأيام نيوز

اقرأ أيضا