الدكتور أبو العيد دودو.. الجزائر في مؤلَّفات الرحّالين الألمان (الجزء الأول)

“إنَّ الرحَّالة الألمان لم يضعوا كتبهم عن الجزائر حبًّا بها، ودفاعًا عن حقوقها، وإنَّما وضعوا أكثرها، ولاسيما في الفترة الأولى (من الاستعمار)، لتكون دليلاً لمن أراد من مواطنيهم الهجرة إلى الجزائر لإنشاء المستعمرات والإقامة بها إقامة دائمة تحت ظلّ الاحتلال وحماية حكومته!” هذه العبارة من ملاحظة أوردها الدكتور “أبو العيد دودو” في كتابه “الجزائر في مؤلفات الرحّالين الألمان”. وهذه المقالة هي خلاصةٌ لهذا الكتاب، نشرها “دودو” بمجلّة “الأصالة” الجزائرية في شهر ماي 1973، وتعيد جريدة “الأيام نيوز” نشرها لقيمتها التّاريخيّة، وأيضًا باعتبارها قراءةً في كتاب بقلم كاتبه.

إنّ هؤلاء الألمان الذين كتبوا عن الجزائر لم يكونوا مؤرّخين بل رحّالين، ومنهم من شارك الاستعمار الفرنسي في حملته على الجزائر سنة 1830، ومنهم من سبَق وجوده ذلك التَّاريخ بسنوات. ومهما اختلفت أهداف كتاباتهم عن الجزائر، فإنَّها تبقى مصدرًا لمعلومات تاريخيَّة عن تلك الفترة، لا سيما فيما يتعلّق بالمعلومات عن المُجتمع الجزائري. وقد ركّز “دودو” حول “موريتس فاغنر” واعتبره أفضل الألمان الذين كتبوا عن الجزائر، ربَّما لأنه كان أكثر منهجيّة و”حياديّة”، وربَّما لأنّ كتابه انفرد بمعلومات “استثنائيّة” مثل حديثه عن وجود ألمان أسلموا وحملوا أسماء عربيَّة، ومنهم من كان في جيش الأمير “عبد القادر”.. لنترك القارئ مع مقالة الدكتور “أبو العيد دودو”..

الفرق بين كتابة المؤرّخ وشهادة الرّحالة

لیست علاقة المؤرّخ بالتاريخ هي علاقة الرحّالة به، فارتباط المؤرخ بالتاريخ أوثق، وصلته به امتن، ومع ذلك يمكن أن يُعتبر الرحّالون الألمان الذين كتبوا عن الجزائر، مؤرِّخين بشكل أو بآخر، فمن النادر أن تجد بينهم من لم يهتم بتاريخ الجزائر في طورٍ من أطوارها، ويحاول أن يقدِّم صورة عنه، ولو كانت مختصرة غير وافية. وكثيرًا ما تكون هذه الصورة المختصرة تمهيدًا لدراسة نفسيّة الشعب الجزائري، وعاداته وتقاليده، وأساليب حياته وطرق معيشته، ولما تخلِّفه الأحداث التاريخية في ذلك كله من آثار وسمات خاصة. وبعبارة موجزة، لربط ماضيه بحاضره. وهذا ما يجعل هذا الرحَّالة يختلف عن ذلك في تناول التاريخ واختيار الفترة الملائمة للجوانب التي يريد معالجتها.

مصادر الرحّالة الألمان في تأريخهم للجزائر

وكانت مصادرهم متنوّعة، وتأتي في الدرجة الأولى: المصادر التاريخيّة المحضة وكُتب الرَّحلات سواء كانت ألمانية أو أجنبيّة، ثم التجارب الشخصية والروايات الجزائرية والأجنبية. وهذه المصادر الأخيرة في نظري أهمّ بكثير من غيرها، لأنّها تقوم على شهادات أناس عاصروا الأحداث، وشاهدوها عن قرب، وعرفوا حقيقتها والطريقة التي تمَّت بها، وقلَّما يلحقها التَّشويه خاصة إذا كانت قد صدرت عن إنسان عادي، لا مصلحة له في التزوير، وسُجِّلت من طرف رحَّالة نزيه، ولو أنَّه من الصعب التأكُّد من نزاهته.

سيمون بفايفر.. الرحّالة الأكثر صدقًا

ولعل “سيمون بفايفر” هو الألماني الوحيد الذي اعتمد على تجاربه الشخصية وعلى ما سمعه من أفواه الجزائريين فقد أكَّد (أنظر: رحلاتي وسنوات سجني.. صفحة 101) أنَّه ينقل ما رواه له الجزائريون. صحيح أنَّه لم يقدِّم أيّ ضمان على صحة ما روى له، ولكنها في اعتقاده، توضّح بعض ما ورد في المصادر الفرنسية. وقد تكون هذه التحفّظات، التي أبداها “بفايفر” إزاء الرّوايات الجزائرية، دليلاً على صدقه ونزاهته، ولعل هذا أيضًا ما حمل مقدِّم كتابه “فريدريش شميتهنر” على أن يصف كتاباته بأنَّها تمتاز بالبساطة والصدق.

بفايفر في الجزائر.. من طبّاخ إلى طبيب خاص

قبل أن نواصل مع مقال “أبو العيد دودو”، من المُجدي أن نورد ما كتبه في مقدّمة الكتاب الذي عرّبه ونشره في الجزائر سنة 1974، وكان عنوانه “سيمون بفايفر: مذكّرات أو لمحات عن تاريخ الجزائر”، حيث قال: “عاش سیمون بفايفر في مدينة الجزائر حوالي خمس سنوات، قضاها كلّها في قصر الخزناجي أفندي، حيث اشتغل سنتين في مطبخه، يقوم بمختلف الأعمال المنزلية، ثم أصبح طبيبه الخاص، فأتاح له هذا المركز الجديد أن يطَّلع على كل يجري في المدينة ونواحيها، وذلك بفضل علاقاته المباشرة بعدد من الشخصيات من داخل القصر وخارجه. ومن هنا جاء كتابه حافلاً بالوقائع والأحداث التاريخية، التي يتعذَّر العثور عليها في مصدر آخر. لقد حاول الكثير ممَّن أرَّخوا للحملة الفرنسية أن يتحدَّثوا عن أوضاع الجزائر الداخلية، ولكن ما كتبوه عنها لا يتعدّى الملاحظات العابرة، التي تبدو تافهة إذا قورنت بالصورة التي يقدِّمها لنا “بفايفر”. هذا بغضّ النظر عن خلوِّها من النظرة الموضوعية في كثير من الأحيان”.

فيلهلم شيمبر.. كتابةٌ لا تخلو من الروح الصّليبيّة

واعتمد “فيلهلم شيمبر” على ملاحظاته الخاصة وعلى ما حدَّثه به بعض الجنود الذين شاركوا في عدّة معارك، وكان لهم دور في بعض ما وقع من جرائم واعتداءات، وكان من بينهم عدد من مواطنيه، سبق لهم أن وصلوا إلى الجزائر مع الحملة الفرنسية. واستمدّ بعض معلوماته من جهة أخرى من الجزائريين الذين أتيح له أن يقيم معهم علاقات وديّة. وحين يتحدّث عن العقيدة الإسلامية وتاريخها وتعاليمها، يلجأ “شيمبر” إلى من كتب عن هذا الموضوع قبله، وما ذكره يشبه إلى حدٍّ كبير ما ورد في كتاب الرّاهب الفرنسي “دان” (تاريخ البرابرة والقراصنة) الذي نُشر سنة 1637، ممَّا جعل حديثه هذا ذا صبغة صليبية واضحة، ولكن صليبيَّته هذه تنعدم بمجرّد أن يبدأ بوصف علاقاته بالجزائريين وصلاته بهم.

فردیناند فنكلمان.. ناقلٌ من الكُتب الأجنبيّة

وإذا كان “شيمبر” قد اعتمد على مراجع أغلبها أجنبية، خاصة في حديثه عن تاريخ الجزائر، فإنَّ مواطنه “فردیناند فنكلمان” يعتمد في كتابه “تاريخ احتلال الجزائر من طرف الفرنسيين سنة 1830″، وقد أصدر كتابه عام 1832، على “سيمون بفايفر”، وعلى مصادر فرنسية متنوّعة، ولا سيما كتاب ضابط الحرس الفرنسي “رونودو”، الذي تُرجم إلى الألمانية ونُشر سنة 1830، واستفاد كذلك ممّا كتبه الشاعر الإيطالي “فيليبو بنانتي” في مؤلَّفه “مغامرات فيليبو بنانتي وملاحظاته عن سواحل البلدان البربرية”، وقد تُرجم إلى الألمانية أيضًا وصدر سنة 1824.

فريدريش تسنبيرغ.. أميرٌ نمساوي شارك في استعمار الجزائر

أمَّا الأمير النمساوي “فريدريش شفار تسنبيرغ” فقد شارك في الحملة الفرنسية، وهو لهذا شاهد عيان فيما يخصُّ تاريخ الاحتلال، ممّا يجعل لكتابه أهميّة كبيرة. وتقوم الفصول الأخيرة من كتابه “التفاتات إلى الجزائر واحتلالها من طرف القوات الملكية الفرنسية في سنة 1830” الصادر عام 1837، على ملاحظاته الخاصّة، التي كان قد حرص على تسجيلها في يوميّاته في حينها. أمَّا الفصول الأولى التي يحتوي عليها القسم الأول، فقد اعتمد فيها على الرحَّالة الإنجليزي “توماس شو”، صاحب کتاب “رحلة توماس شو في ولاية الجزائر”، الذي صدرت ترجمته الألمانية في سنة 1765، واعتمد كذلك على “ف. شيلر” القنصل الأمريكي مؤلِّف كتاب “موجز الجزائر” الصادر سنة 1826.

آدولف فون شونبيرغ.. طبيبٌ ألماني في الجيش الفرنسي

وسلك الطبيب الألماني “آدولف فون شونبيرغ” المنهج نفسه، فقد شارك هو الآخر في الحملة الفرنسية على الجزائر، وسجَّل في الفصل الأول من كتابه “نظرات على الاحتلال الأخير للجزائر وتاريخها واستعمارها الحديث” الذي نشره عام 1839، اليوميَّات، التي كتبها في الميدان. وتناول في الفصل الثاني ثمانية من دايات الجزائر، ابتداء من “الداي مصطفي” (1798 – 1805) إلى “حسين باشا” الداي الأخير. وقد كتب تاريخهم، فيما ذكره في المقدّمة، اعتمادًا على معلومات زوّده بها شخص، لم يذكر اسمه، عاش في الجزائر أيّام الحكم التركي مدة طويلة، وكان شاهد عيان لبعض ما رواه من أخبار ومعلومات.. ولكن “شونبيرغ” لم يكتف به، بل استعمل مصادر أخرى لم يحدّد طبيعتها. وكانت مصادر الفصل الثالث والأخير، الذي تناول فيه المناخ الجزائري والحركة التجارية والصناعية، فرنسيّة بحتة، من ضمنها بعض الوثائق والتقارير الرسمية.

موريتس فاغنر.. رحّالةٌ أفضل من غيره

ويُعتبر “موريتس فاغنر” أفضل من غيره بكثير، فقد تناول في كتابه: “رحلات في ولاية الجزائر في سنوات 1836 – 1837 – 1838″، المصادر التي اعتمد عليها.. تناولها فى المقدّمة، وهذا ما لم يفعله غيره من الرحّالين الألمان على هذه الصورة. فأخذ عن الرحّالين “توماس شو” الإنجليزي و”بيصونيل” الفرنسي، وقد نُشر کتاب هذا الأخير “رحلة في سواحل البلدان البربرية” عام 1838.. “إنَّ كتابيهما يتَّسمان بالجفاف ويهتمّان بجانب واحد”، ويضيف “فاغنر” بالقول أنَّ المؤلِّفين قد وجَّها اهتمامهما لدراسة الآثار ونسيا في غمرة ذلك الإنسان، الذي هو على حدِّ تعبير “غوته”: أهمّ شيء فى أيّ مكان كان.

ويشكو المؤلِّف الألماني “فاغنر” من عدم صدور كُتب جيدّة عن الجزائر منذ الاحتلال، فالكتب العشرون أو الثلاثون، التي صدرت حتى ذلك الحين، تقتصر على معالجة الناحية السياسية أو الناحية الاستعمارية، ويفضِّل من بينها: الحوليّات الجزائرية لـ “بيليسيي”. ويعترف “فاغنر”: لا يعرف من كتب الرحلات الحديثة سوى ثلاثة كتب، أمَّا البحوث العلمية فهي متناثرة في المجلات المتخصِّصة.

وهذه الكتب هي: رسائل من الجنوب لـ “توماس کامبل”، وسيميلاسو في إفريقيا لـ “بوكلر – موسكاو”، ورحلة في ولاية الجزائر لـ “روزيه”. ويصف الأول بأنّه كان دون شك شاعرًا أنجح منه رحّالة، فما يجده الإنسان عنده أقل ممّا يجده في انطباعات السائح العادي. ويصف الثاني بأنَّه أكثر سطحيّة من الأول، وأنَّه أصلح لوصف الحياة في قصور النّبلاء منه لوصف الحياة البدويّة واكتشاف حقيقتها. ويفضِّل الثالث عليهما، ولو أنَّه اكتفى بوصف مدن: الجزائر والبليدة والمدية ووهران. ويثني “فاغنر” على مواطنيه الألمانيين: شيمبر وميليتس.

ويذكر “فاغنر” أنّه كتب القسم التاريخي عن الجزائر بعد دراسة دقيقة للمصادر القديمة والحديثة، واستمدَّ معلوماته عن تاريخ الجزائر الحديث من الحوليّات الجزائرية لـ “بيليسيي”، ومن محادثاته مع بعض الشخصيات الهامّة التي عاشت الكثير من الأحداث التاريخية، فنقل عن صديقه الضابط السويسري “مورالت” اللقاء الذي تمَّ بين الأمير “عبد القادر” و”بوجو” في “التَّافنة”.

وأخذ “فاغنر” أيضًا بعض المعلومات عن المارقين الألمان الذين عاشوا في الجزائر مدَّة طويلة، وخاصة مارق يُدعى “بودوان”، قال عنه أنّه أصبح عربيًّا بأتمّ معنى الكلمة، يحسن اللغة العربية ويتكلّمها مثل أيّ رجل من رجال الدين. ثم ألماني آخر، اتّخذ اسمًا عربيًّا، وهو “ابن حميدو”، وكان اسمه الحقيقي “غايستينجر”، حارب إلى جانب الأمير في عدَّة معارك منها معركة “المقطع” الشهيرة، وكان “فاغنر” قد التقى به أيام إقامته بمعسكر، عاصمة الأمير. وبعد معركة “المقطع”، وجّهه (يعني ابن حميدو) الأمير إلى المغرب ليسلِّم هديّة إلى السلطان “مولاي عبد الرحمن”، وهي عبارة عن عربة للذَّخيرة، غنمها الأمير في معركة “المقطع”.

ويذكر “فاغنر” أنَّ الأمير قال لـ “غايستينجر” عند سفره إلى المغرب: “ابق هناك إذا شئت. أمَّا إذا كنت تحبُّني، فما بي حاجة إلى أن آمرك بالعودة”. وسافر الألماني، وكان قد أسلَم في أثناء ذلك (دحل الإسلام)، إلى المغرب، واشترى مقهى بالمال الذي زوَّده الأمير به. ولكنه عاد في النهاية إلى سيده الأمير، فعيّنه مديرًا لمصنع الذخيرة بتلمسان.

ويُضاف إلى هذين (السابق ذكرهما) ألمانيان آخران، هما: “فندلين شلوصر” مروِّض السِّباع في قصر باي قسنطينة، و”سند” مدير معمل الأسلحة في المدينة نفسها. وكان هذا الأخير قد وقع في الأسر بعد انضمامه إلى الفرقة الأجنبية، فحُمل إلى المرابط “سيدي علي بن عيسى” في منطقة “جرجرة”، فأرسله هذا إلى باي قسنطينة الذي زوَّجه وأعطاه دارًا وزوّده بالمال لفتح معمل للأسلحة.

ويعترف المؤلِّف “فاغنر” بأنَّه قد أخذ بعض المعلومات عن المواطنين الجزائريين، وقد حضر بنفسه أحداثًا بالغة الأهمية، فسجَّل في كتابه ما شاهده في الحملات الثلاث التي شارك فيها عضوًا في اللجنة العلميّة، وهي حملات: البليدة، رغاية، قسنطينة.

واستمرَّ “فاغنر” يسجِّل مذكراته إلى أن ترك الجزائر في شهر جوان سنة 1838، وذلك بعد أن زار جميع المناطق التي كانت فرنسا قد احتلّتها في ذلك الحين، وبعض المناطق التابعة لدولة الأمير عبد القادر.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا