الذكاء الاصطناعي.. ساحة الصراع الجيوسياسي ومحرك التحول العالمي

يُعد الذكاء الاصطناعي اليوم من أهم الأدوات الاستراتيجية التي تُعيد تشكيل ملامح النظام العالمي بطرق جذرية. لم يعد هذا الذكاء مجرد تقنية لتحسين الأداء الاقتصادي أو لأتمتة العمليات الصناعية، بل تحول إلى قوة مؤثرة تشكل محور المنافسة الجيوسياسية بين الدول الكبرى. ففي ظل التنافس الشرس بين الولايات المتحدة والصين، تُصبح القدرة على تطوير وتطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي مؤشرًا رئيسيًا للقوة الوطنية والهيمنة التكنولوجية، مما يعكس تحولات عميقة في موازين القوى الدولية. وتشير تقديرات عدة مؤسسات بحثية، مثل “ستاتيستا”، إلى أن الإنفاق العالمي على الذكاء الاصطناعي قد يرتفع ليصل إلى أكثر من 800 مليار دولار بحلول عام 2030، وهو رقم يوضح أهمية هذا المجال كأولوية استراتيجية للدول التي تسعى لتعزيز مكانتها في النظام العالمي المتغير سريعًا. هذا التحول الاستراتيجي يحفز الدول على استثمار المزيد في البنية التحتية الرقمية والبحث والتطوير، مما يُحدث نقلة نوعية في القدرة التنافسية على الصعيد الدولي.

يقف الذكاء الاصطناعي في قلب التحولات الجيوسياسية التي تشهدها العلاقات الدولية، حيث تتنافس الدول الكبرى على السيطرة على الموارد الرقمية والبيانات الضخمة التي تُعتبر بمثابة الوقود الأساسي لهذه التقنيات. تشير الإحصائيات إلى معدل نمو سنوي مركب يصل إلى 35% في الإنفاق العالمي على الذكاء الاصطناعي خلال الفترة من 2020 حتى 2025، مما يعزز قدرة الدول على تطوير أنظمة دفاع سيبراني متقدمة وتحليل البيانات في الزمن الحقيقي. تُعد البيانات الرقمية موردًا حيويًا، إذ يُمكن للدول التي تستثمر في تحديث بنيتها التحتية الرقمية أن تُعيد رسم خريطة النفوذ الدولي؛ فمع تزايد الاعتماد على التقنيات الحديثة، تصبح السيطرة على المعلومات الرقمية عنصرًا حاسمًا في إعادة توزيع موازين القوة على المستوى العالمي. وهذا التوجه يعكس مدى التزام الدول بتحديث قدراتها التكنولوجية لمواجهة تحديات العصر الرقمي المتسارع.

يشهد العالم اليوم صراعًا محتدمًا بين القوى العظمى وقادة الذكاء الاصطناعي، حيث تتحول هذه التكنولوجيا إلى ساحة معركة استراتيجية تُعيد تحديد ملامح القوة العالمية. ففي الولايات المتحدة، تتبوأ شركات التكنولوجيا الرائدة مثل “أوبن إيه آي” و”إنفيديا” مكانة مرموقة من خلال استثمارات هائلة في البحث والتطوير، ما يمنحها ميزة تنافسية كبيرة في الابتكار والتحكم في التقنيات المتطورة. بالمقابل، تعتمد الصين على دعم الدولة لتعزيز قدراتها المحلية في مجالات الرقائق الحاسوبية والبيانات، حيث بلغت استثماراتها في هذا القطاع حوالي 150 مليار دولار، ما يجعلها منافسًا قويًا يسعى لتحقيق الاكتفاء الذاتي. وفي الوقت ذاته، تسعى دول الاتحاد الأوروبي والدول الناشئة إلى بناء قدراتها من خلال شراكات استراتيجية وتبني أطر تنظيمية مشتركة. يتجلى هذا الصراع ليس فقط في الجانب التقني، بل يمتد إلى الجوانب الاقتصادية والأمنية؛ إذ يشكل التحكم في البنية التحتية الرقمية والبيانات الضخمة عاملًا حيويًا في تعزيز الهيمنة على الأسواق العالمية. وتظهر الإحصائيات أن معدلات النموفي الإنفاق على الذكاء الاصطناعي قد تفوق 35% سنويًا في الأسواق الرئيسية، مما يُبرز مدى السرعة التي يتحرك بها هذا الصراع بين القوى العالمية. يتطلب هذا التنافس من القادة تبني استراتيجيات متوازنة تجمع بين الابتكار والحكمة التنظيمية لضمان استخدام التكنولوجيا بما يخدم مصالح الشعوب على المدى الطويل.

ويبرز الصراع بين الولايات المتحدة والصين بشكل أكثر وضوحًا مع ظهور نماذج متقدمة مثل “DeepSeek R1″، وهو نموذج ذكاء اصطناعي طوّرته شركة صينية تحمل اسم “DeepSeek”، والذي يمثل خطوة نوعية في سعي الصين للريادة في مجال التعلم العميق والنماذج اللغوية الكبيرة. هذا النموذج، الذي يتميز بقدرته على معالجة كميات هائلة من البيانات متعددة اللغات وتقديم حلول ذكية تنافس نظيراتها الغربية مثل “GPT”، يعكس الطموح الصيني لتجاوز الحدود التي وضعتها الشركات الأمريكية الرائدة مثل “أوبن إيه آي”. ففي حين تعتمد الولايات المتحدة على بيئة تنافسية مفتوحة تهيمن عليها الشركات الخاصة، تسخر الصين مواردها الحكومية لدعم مشاريع مثل “DeepSeek R1″، حيث توفر تمويلًا ضخمًا وبنية تحتية متطورة تشمل مراكز بيانات عملاقة وشبكات اتصال فائقة السرعة.

هذا النموذج لم يكن مجرد إنجاز تقني، بل رسالة سياسية تؤكد قدرة الصين على تحدي الهيمنة الأمريكية في مجال الذكاء الاصطناعي، خاصة أنه يعتمد على بيانات محلية ضخمة تمنح الصين ميزة استراتيجية في تطوير تقنيات تتناسب مع احتياجاتها الداخلية والخارجية. في المقابل، ردت الولايات المتحدة بتشديد الرقابة على تصدير التكنولوجيا إلى الصين، بما في ذلك الرقائق المتقدمة اللازمة لتشغيل نماذج مثل “DeepSeek R1″، مما أدى إلى تصاعد التوترات التجارية بين البلدين. هذا الصراع حول النماذج الذكية يكشف عن سباق أعمق يتعلق بالسيطرة على المستقبل التقني، حيث تسعى كل قوة إلى فرض رؤيتها ليس فقط على الأسواق، بل على النظم العالمية التي ستحكم استخدام الذكاء الاصطناعي. وفي ظل هذا التنافس، تظهر مخاطر جديدة تتمثل في احتمال تسليح هذه التقنيات، إذ يمكن أن تُستخدم نماذج مثل “DeepSeek R1” في تطوير أنظمة مراقبة متطورة أو حتى في الحروب السيبرانية، مما يجعل هذا الصراع ليس مجرد معركة اقتصادية، بل تهديدًا محتملاً للاستقرار العالمي إذا لم تُوضع ضوابط دولية لتنظيمه.

وفي سياق هذا الصراع المحتدم، لا يقتصر الأمر على الاستثمارات المالية أو التفوق التقني فحسب، بل يمتد إلى حرب خفية تتعلق بالسيطرة على الموارد البشرية والمعرفية التي تشكل العمود الفقري لتطوير الذكاء الاصطناعي. فالولايات المتحدة، على سبيل المثال، تعتمد سياسات مرنة لاستقطاب أفضل العقول من جميع أنحاء العالم، حيث تستقبل آلاف المهندسين والباحثين سنويًا من خلال برامج الهجرة ومنح الجامعات، مما يعزز مكانتها كمركز عالمي للابتكار. في المقابل، تسعى الصين إلى تقليص هذه الفجوة من خلال استراتيجية طويلة الأمد تركز على تدريب ملايين الطلاب محليًا في تخصصات العلوم والتكنولوجيا، مع تخصيص موارد ضخمة للجامعات ومراكز الأبحاث لتطوير كوادر قادرة على منافسة الغرب. أما الاتحاد الأوروبي، فإنه يحاول أن يجد لنفسه موطئ قدم من خلال التركيز على التشريعات الأخلاقية والتنظيمية، مثل قوانين حماية البيانات، ليصبح نموذجًا عالميًا في استخدام الذكاء الاصطناعي بمسؤولية، لكنه يواجه تحديات في مواكبة السرعة التي تتحرك بها القوتان الأمريكية والصينية.

وفي هذا الإطار، تبرز قضية السيادة الرقمية كعامل حاسم، إذ تسعى الدول إلى تقليل اعتمادها على التكنولوجيا الأجنبية من خلال تطوير بنى تحتية محلية، مثل الرقائق الإلكترونية والخوادم المتقدمة، التي أصبحت تشكل عصب الاقتصادات الحديثة. ومع تصاعد هذا التنافس، تظهر مخاطر جديدة تتمثل في الحروب الاقتصادية، مثل العقوبات التي تفرضها الدول على بعضها البعض لتقييد تصدير التكنولوجيا، أو استهداف الشركات المنافسة بقوانين تجارية صارمة. هذا الواقع يضع الدول النامية في موقف حرج، حيث تجد نفسها أمام خيارين: إما الانضمام إلى أحد المحاور الكبرى والتضحية بجزء من استقلالها التقني، أو محاولة بناء قدراتها الذاتية في ظل موارد محدودة، مما يعمق الفجوة بين الدول المتقدمة وتلك التي لا تزال في طور النمو. وهكذا، يتحول الذكاء الاصطناعي من مجرد أداة تقنية إلى رمز للقوة السياسية والاقتصادية التي تعيد تشكيل العلاقات الدولية بأكملها.

على الرغم من التنافس الشرس الذي يشهده قطاع الذكاء الاصطناعي، فإن هذا التنافس يفتح أيضًا آفاقًا للتعاون الدولي في إطار الحاجة إلى تنظيم استخدام هذه التكنولوجيا بشكل مسؤول وآمن. فقد شهد الإنفاق العالمي على تطوير الأطر التنظيمية والحوكمة زيادة بنسبة تصل إلى 40% في عام 2023 مقارنة بالعام السابق، مما يدل على الوعي المتزايد بضرورة وضع مبادئ وقواعد مشتركة تُعزز من الشفافية وتحمي البيانات. ويتطلب هذا التعاون حوارًا بناءً يشمل جميع الأطراف المعنية؛ سواء كانت حكومات أو شركات تكنولوجيا أو منظمات دولية، لتحديد سياسات تُراعي الأمن السيبراني وتوفر بيئة تنظيمية تُمكّن من الابتكار دون أن تؤدي إلى احتكار السوق من قبل عدد محدود من الشركات الكبرى. إن تبني هذا النهج التنظيمي سيسهم في خلق بيئة دولية متوازنة تضمن توزيعًا عادلًا للفوائد وتحد من المخاطر المحتملة في ظل التغيرات التكنولوجية السريعة.

يُظهر الذكاء الاصطناعي فرصًا استثمارية ضخمة تُسهم في تحول الاقتصاد العالمي وتنويع مصادر الدخل بعيدًا عن القطاعات التقليدية مثل النفط. أعلنت دول كبرى مثل الولايات المتحدة والصين، إلى جانب دول عربية طموحة مثل السعودية والإمارات، عن خطط استثمارية تصل قيمتها إلى عشرات المليارات من الدولارات لتطوير البنية التحتية الرقمية وأنظمة الذكاء الاصطناعي. تشير التقديرات إلى أن معدل النمو السنوي لهذه الاستثمارات قد يصل إلى 30% خلال العقد المقبل، ما يفتح آفاقًا واسعة لتحسين الأداء الحكومي وتطوير الخدمات العامة والخاصة. تُسهم هذه الاستثمارات في تعزيز الكفاءة الإدارية وتحسين عمليات اتخاذ القرار عبر استخدام تقنيات تحليل البيانات المتقدمة، مما يدعم النمو الاقتصادي المستدام ويُعزز القدرة التنافسية للدول على المستوى العالمي. هذا التحول الاستثماري يُعد حجر الأساس لتحقيق اقتصاد رقمي متطور يستطيع مواجهة التحديات المستقبلية وتحقيق نمو شامل يدعم الاستقرار والتنمية.

لتحقيق أقصى استفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي وضمان موقع استراتيجي في النظام العالمي، ينبغي على صانعي السياسات تبني مجموعة من الاستراتيجيات الشاملة. أولًا، يجب دعم البحث والتطوير المحلي عبر إنشاء مراكز بحثية متخصصة تعمل على تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي وتحديثها باستمرار، مع تعزيز التعاون بين الجامعات ومراكز الأبحاث والشركات التكنولوجية. ثانيًا، يتعين على الدول الاستثمار في تحديث وترقية البنية التحتية الرقمية، وخاصة مراكز البيانات وأنظمة الحوسبة المتقدمة، لضمان توفير الموارد اللازمة لتدريب النماذج الذكية بكفاءة عالية. ثالثًا، ينبغي تطوير إطار تنظيمي وأخلاقي يضمن الشفافية والمساءلة في استخدام الذكاء الاصطناعي، مع وضع سياسات صارمة لحماية البيانات الشخصية والأمن السيبراني. كما يُستحسن تشجيع الشراكات الدولية لتبادل الخبرات والمعلومات، بالإضافة إلى توفير برامج تدريبية متطورة لتأهيل الكوادر الفنية المتخصصة. وأخيرًا، يجب على الدول تبني استراتيجيات استثمارية تركز على تنويع مصادر الدخل وتعزيز الابتكار، مما يُسهم في تحقيق نمو اقتصادي مستدام واستقرار جيوسياسي في ظل التحولات الرقمية المتسارعة. من خلال هذه الخطوات المتكاملة، يمكن تحويل التحديات إلى فرص استراتيجية تُسهم في بناء مستقبل رقمي آمن ومستدام.

في الختام، يُظهر الذكاء الاصطناعي أنه ليس مجرد أداة تقنية، بل هو قوة استراتيجية تعيد تشكيل النظام العالمي وتعيد توزيع موازين القوة على المستويات الاقتصادية والسياسية والأمنية. إن التنافس على ريادته يجمع بين استثمارات ضخمة في البنية التحتية الرقمية وتطوير تقنيات متقدمة تتطلب جهودًا مشتركة من الحكومات والشركات والمؤسسات الدولية. في ظل هذه التحولات، يصبح من الضروري تبني رؤية شمولية تجمع بين الابتكار والتعاون الدولي ووضع أطر تنظيمية واضحة تضمن الاستخدام المسؤول لهذه التكنولوجيا الثورية. عبر تبني سياسات متوازنة ودعم الشراكات الدولية، يمكن للدول تحويل التحديات الجيوسياسية إلى فرص استراتيجية تُعزز من الاستقرار والأمن الاقتصادي والسياسي. إن مستقبل الذكاء الاصطناعي يحمل وعودًا كبيرة، ولكنه في الوقت نفسه يُشكل تحديًا يستدعي منا العمل معًا لتحقيق توازن يضمن توزيعًا عادلًا للفوائد مع حماية الحقوق والمصالح الحيوية للمجتمعات على مستوى العالم.

عقبة بن عطية - باحث في الذكاء الاصطناعي وأمن المعلومات

عقبة بن عطية - باحث في الذكاء الاصطناعي وأمن المعلومات

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
الجزائر ترفض دراسة قائمة بأسماء مواطنين صدرت في حقهم قرارات إبعاد من فرنسا واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز المسال تسجل مستوى قياسيا وزارة العدل.. إجراءات جديدة لاستخراج شهادة الجنسية الجزائرية قانون تسيير النفايات الجديد.. خطوة نحو تحقيق تنمية مستدامة الجزائر تُوسّع آفاقها الخضراء.. نحو رفع مساحة الأراضي المسقية إلى 3 ملايين هكتار وزير الخارجية يستقبل عددا من السفراء الجدد المعتمدين لدى الجزائر المصادقة على القانون المتعلق باختصاصات محكمة التنازع القمة الروسية-الأمريكية.. هل تتغلب براغماتية بوتين على مزاجية ترامب؟ 70% من الأشغال مكتملة.. مصنع "فيات" بوهران يستعد للمرحلة القادمة الرقابة على الأسواق في رمضان: إغلاق محلات وحجز أطنان من السلع وكالة "عدل" تمدد ساعات العمل بمكاتب التحصيل خلال رمضان روتايو يهدد بالاستقالة.. والمعارضة الفرنسية ترد: "فليذهب!" واشنطن وتل أبيب تتشاركان قتل الأبرياء.. حرب الإبادة تمتد من غزة إلى صعدة بالصور | 4 إرهابيين يسلمون أنفسهم للسلطات العسكرية ببرج باجي مختار عرقاب يُعاين تقدم أشغال خط السكة الحديدية المنجمي بشار-تندوف-غار جبيلات بعد 48 عامًا على اغتياله.. كمال جنبلاط ينتصر من قبره! وزارة التجارة ترقمن البيانات الغذائية للحد من المخاطر الصحية تعويض البطالة.. صندوق "كاكوبات" يُطلق خدمة إلكترونية جديدة نقاط إقلاع الحجاج الجزائريين.. الديوان الوطني للحج يكشف التفاصيل بهذه الأسعار.. "نفطال" تُطلق تسويق زيوت "كاسترول" في الجزائر