الذكاء الاصطناعي سوق عالمي للعمالة غير المرئية

يقود البروفيسور أنطونيو كاسيلي مجموعة بحثية متعددة التخصصات، تُعنى بدراسة ظروف العمل التي يخضع لها المبرمجون والمهندسون المسؤولون عن تطوير أدوات الذكاء الاصطناعي. ويجادل كاسيلي بأن وراء الضجة الإعلامية حول التقدم الصيني في هذا المجال، والمتمثل في إطلاق “ديب سيك” بتكلفة زهيدة مقارنة بالاستثمارات الأمريكية التي تُقدر بالمليارات، تكمن قضية أكثر تعقيدًا تتعلق ب ـ”العمل الخفي لملايين العمال الذين يتقاضون أجورًا زهيدة، بينما تجني الشركات المالكة لأدوات الذكاء الاصطناعي أرباحًا طائلة”.

ويؤكد كاسيلي أن “الاقتصاد السياسي للذكاء الاصطناعي لا يختلف كثيرًا بين المدن الصناعية في الصين، وكاليفورنيا، ودول الجنوب العالمي”، حيث تستضيف الشركات الكبرى مثل “مايكروسوفت” و”أمازون” مصانع ومراكز بيانات عملاقة. ويذهب الباحث إلى أبعد من ذلك، مشيرًا إلى أن هذه الشركات “حوّلت الأفراد إلى روبوتات بشرية، وهو ما كان وراء انتشار مصطلح الذكاء الاصطناعي”.

يرى كاسيلي أن الطريقة الصحيحة لفهم الذكاء الاصطناعي هي النظر إليه كسوق عالمي لنوع جديد من العمالة غير المرئية. ويوضح أن الشركات الكبرى “تسوق صورة مضللة، تقتصر على قلة من المهندسين المتخصصين ذوي الأجور العالية”، بينما تُخفي وراءها “ملايين، بل ربما مئات الملايين من العاملين في مكاتب خلفية، يقومون بأعمال غير معترف بها وبأجور زهيدة”.

ويشير الباحث إلى التوزيع الجغرافي لقواعد البيانات المستخدمة في تدريب أدوات الذكاء الاصطناعي، موضحًا أنها تتمركز بشكل رئيسي في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، وتحديدًا في مناطق مثل:بالو ألتو (مقر “ميتا-فيسبوك”) وفيرجينيا (مراكز بيانات “أمازون”) وتكساس (“أوبن أي إي”) وفي الصين، حيث توجد بنوك بيانات حول الجامعات الكبرى مثل جامعة بكين، التي تشكل محور شراكات مع شركات الذكاء الاصطناعي الصينية، وهو ما حدث مع تطوير “ديب سيك”.

التكلفة الخفية لتطوير أدوات الذكاء الاصطناعي

يتناول كاسيلي التكلفة الحقيقية لإنتاج تطبيقات الذكاء الاصطناعي، موضحًا أن “العمل البشري المستمر لتعديل الخوارزميات، وتقييم المحتوى، وفحص البيانات، وتصفيف المعلومات لا يُحتسب ضمن تكلفة الإنتاج الرسمية لهذه الأدوات، كما لا يُعترف به كجزء من الاستثمار الرأسمالي”.

ويضيف أن “ديب سيك” استفاد بشكل مباشر مما قدمته الحكومة الصينية، سواء من حيث البيانات الضخمة، أو البنية التحتية الجامعية، أو القوى العاملة الهائلة المتاحة لتنظيم وتعليق البيانات المستخدمة في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي.

يشرح كاسيلي أن أنظمة التعلم الذاتي تتطلب بيانات ضخمة ليتمكن الذكاء الاصطناعي من التعرف على الأنماط وإعادة إنتاجها. ولهذا الغرض، تعمل شركات صينية مثل “داتا سينغ” و”داتا أوشن” على إنتاج هذه البيانات. كما أن الصين أنشأت مراكز وبنوك بيانات ضخمة في مناطق مثل هايكو، وهي مدينة تقع في جزيرة جنوب الصين بين هونغ كونغ وفيتنام، حيث يتم توظيف الآلاف لإنتاج البيانات لصالح شركات الذكاء الاصطناعي في مدن صناعية كبرى مثل “شنتشن”، والتي تُعرف بوادي السيليكون الصيني.

بين الصين والولايات المتحدة

يؤكد كاسيلي أن الصين تعتمد على نموذج مختلف تمامًا في تطوير الذكاء الاصطناعي، حيث تركز على توظيف عمالة رخيصة من داخل البلاد للعمل على تعليق وتصنيف البيانات، بخلاف “أوبن أي إي”، التي تعتمد على عمال بيانات من البلدان منخفضة الدخل في نصف الكرة الجنوبي.

ويضيف أن الصين تستغل ما يُعرف بـ”مدن المستوى الثالث”، وهي المناطق الأقل نموًا اقتصاديًا، حيث يتم إلزام المستفيدين من الإعانات الحكومية بالمشاركة في عمليات فرز وتعليق البيانات، مما يوفر للشركات الصينية قاعدة بيانات ضخمة بتكلفة زهيدة، تسهم في تطوير أدوات الذكاء الاصطناعي، مثل “ديب سيك”.

ويشير إلى أن الذكاء الاصطناعي لا يُمثل مجرد ثورة تكنولوجية، بل هو جزء من هيمنة رقمية معقدة، حيث يتم ترسيخ تبعية رأسمالية بين الشمال والجنوب، مما يجعل البلدان الأقل تقدمًا “مختبرات رقمية” للعمالة الرخيصة، فيما تجني الدول الكبرى الأرباح وتحدد القواعد التنظيمية لصناعة المستقبل.

ويلفت البروفيسور أنطونيو كاسيلي، من خلال أبحاثه في العديد من الدول، إلى توثيق ما يصفه بـ”الممارسات المزعجة” التي تُمارس في سوق العمل الرقمي الخفي.

ويقول في هذا السياق: “لقد وثقنا حالات مثيرة للقلق، مثل اضطرار الشابات في مصر إلى تعليق البيانات لأنظمة التعرف على الوجه الصينية، أو إجبار العمال في كينيا على تصفية المحتويات غير اللائقة لمنصة ‘أوبن أي إي’، بينما في فنزويلا، تعمل عائلات بأكملها على إنتاج البيانات باستخدام أجهزة كمبيوتر قديمة تعود إلى حقبة الرئيس الراحل هوغو شافيز”.

استغلال العمالة في دول الجنوب

على المستوى العالمي، تستغل شركات الذكاء الاصطناعي العمالة الأرخص في الدول التي تعاني من ضعف الحماية العمالية، مثل كينيا وفنزويلا والفلبين، بينما تستضيف الاقتصادات الأكثر ثراءً الشركات التي تجني الأرباح من هذا النظام الرأسمالي غير المتكافئ. ويضيف البروفيسور كاسيلي: “حتى الهند والصين تلعبان دورًا مزدوجًا، حيث تمارسان الاستغلال، لكنهما أيضًا خاضعتان له في جوانب أخرى”.

ويستشهد الباحث بتقديرات معهد أكسفورد للإنترنت لعام 2021، التي تشير إلى وجود 163 مليون عامل في منصات العمل الرقمية، في حين يقدر تقرير البنك الدولي لعام 2023 العدد بين 154 و435 مليون عامل رقمي عالميًا، وهو ما يمثل 6% إلى 12% من القوى العاملة العالمية. ورغم تباين الأرقام، إلا أن كاسيلي يؤكد أن الاتجاه واضح، حيث تسجل الصين وحدها نموًا سنويًا بنسبة 20% في إنتاج وتصفيف البيانات.

أما على مستوى القيمة السوقية، فيضرب الباحث مثالًا بشركة “ستار غايت”، التي تقدر قيمتها بحوالي 500 مليار دولار، متجاوزة بذلك ثروة إيلون ماسك، مما يعكس الحجم الهائل للأرباح التي تجنيها هذه الشركات من تشغيل مراكز البيانات، وتأمين الطاقة، والحصول على المعطيات، واستغلال العمالة الرقمية.

أنماط العمالة الرقمية

يُصنّف البروفيسور كاسيلي العمالة المرتبطة بصناعة الذكاء الاصطناعي إلى ثلاث فئات رئيسية:

الوظائف المؤقتة المرئية: مثل سائقي “أوبر” والتطبيقات المشابهة، الذين لا يقتصر دورهم على القيادة فقط، بل ينتجون بيانات تُستخدم في تدريب تقنيات الذكاء الاصطناعي، خصوصًا في تطوير السيارات ذاتية القيادة. ويوضح كاسيلي: “يقضي السائقون نصف وقتهم في القيادة، بينما يقضون النصف الآخر في التفاعل مع التطبيق، مما يولد بيانات مهمة تُستخدم في تحسين خوارزميات المركبات المستقلة”.

العمالة الرقمية الخفية: وهي تضم الملايين من العمال الذين يعملون على تنظيم البيانات وتصفيفها لخدمة تطبيقات الذكاء الاصطناعي، مقابل أجور زهيدة جدًا. فمثلًا، يتلقى العمال في مدغشقر حوالي 90 يورو شهريًا، بينما يحصل نظراؤهم في كينيا على 400 يورو فقط، رغم مساهمتهم الأساسية في تدريب أدوات الذكاء الاصطناعي.

العمل غير المدفوع للمستخدمين: هذا النمط هو الأكثر استغلالًا، حيث يشارك المستخدمون العاديون – دون إدراك – في تحسين أداء الذكاء الاصطناعي عبر تعليقاتهم وردودهم على مخرجات محركات البحث والتطبيقات الذكية. وهذه العملية تندرج ضمن ما يسميه كاسيلي “العمل الرقمي غير المكافأ”، الذي تستفيد منه الشركات التقنية الكبرى دون أن تدفع مقابله سنتًا واحدًا”.

الذكاء الاصطناعي “الاصطناعي”!

في هذا السياق، استشهد كاسيلي بمصطلح “الذكاء الاصطناعي (الاصطناعي)”، الذي صاغه جيف بيزوس عام 2005 لوصف التناقض في منصات العمل الرقمي، مثل تلك التي تعتمدها “أمازون”، حيث يجني العمال “سنتًا واحدًا” أو “فرنكًا” مقابل كل مهمة رقمية يؤدونها، في حين تجني الشركات مليارات الدولارات من مخرجات هذا العمل غير المرئي.

يثير تحليل البروفيسور كاسيلي تساؤلات جوهرية حول الوجه الخفي لصناعة الذكاء الاصطناعي: هل يمثل هذا القطاع قفزة تكنولوجية، أم أنه مجرد شكل جديد من الاستعمار الرقمي، قائم على استغلال العمالة الرخيصة في الجنوب لتحقيق أرباح فاحشة في الشمال؟

طاهر مولود - الجزائر

طاهر مولود - الجزائر

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
تعويض البطالة.. صندوق "كاكوبات" يُطلق خدمة إلكترونية جديدة هذه نقاط إقلاع الحجاج الجزائريين.. الديوان الوطني للحج يكشف التفاصيل بهذه الأسعار.. "نفطال" تُطلق تسويق زيوت "كاسترول" في الجزائر نحو مدن ذكية ومستدامة.. إصلاحات جديدة في قطاع السكن تحميل الهوية البريدية "RIP".. بريد الجزائر يطلق خدمة إلكترونية جديدة خط أخضر جديد لدعم النساء المُتضرّرات من العنف جرائم التغذيب الفرنسي في الجزائر.. وثائق سرية تفضح المستور البرلمان العربي يُشيد بتقرير أممي يُدين جرائم الاحتلال في فلسطين اضطراب جوي وأمطار غزيرة في هذه الولايات استعدادًا لموسم الاصطياف.. وزير النقل يشدد على ضمان جاهزية وسائل النقل حين تصبح المملكة مكبّا أوروبيا بامتياز..! حقائق مرعبة عن صفقات النفايات السرية في المغرب الجزائر تقلب الطاولة على فرنسا.. نهاية زمن الامتيازات الأحادية؟ جامعة الدول العربية: تجويع الفلسطينيين جريمة حرب وإبادة جماعية وثائق سرية تفضح تورط جنرالات فرنسا في تعذيب الجزائريين خلال الثورة التحريرية مشروع استراتيجي لتعزيز تصدير الكهرباء الجزائرية نحو تونس وليبيا عرقاب في بشار لإطلاق مشاريع طاقوية استراتيجية هيئة اللجان الأولمبية الإفريقية تُكرّم الرئيس تبون بالوسام الذهبي استحداث "بكالوريا مهنية" لتعزيز التكوين المتخصص وتلبية احتياجات سوق العمل الجزائر تُطلق أوّل مصحف رقمي موجّه للمكفوفين احتكار الذكاء الاصطناعي.. كيف تعيد القوى الكبرى رسم خرائط السيطرة؟