الباحث صالح داودي، مهندس إعلام آلي وخريج المدرسة الفيدرالية للعلوم التطبيقية في لوزان (سويسرا)، خبير في علوم الكمبيوتر والقضايا الرقمية، ساهم في تطوير أحدث الأبحاث في مختبرات شركة مايكروسوفت العملاقة في التسعينيات، قبل أن يعود إلى الجزائر ويستقر في ولاية غرداية. في هذا الحوار، يوضح أن إنشاء مدرسة للذكاء الاصطناعي في الجزائر يهدف إلى “تسليط الضوء على المهارات الجزائرية وتطويرها”، مشيرًا إلى أن “الابتكار والإبداع في بلادنا موجود، ويفرضه واقع الحاجة إلى الحلول والوسائل”.
الأيام نيوز: يُقال إن الذكاء الاصطناعي هو بوابة الولوج إلى المجتمع الرقمي في المستقبل القريب…
صالح داودي: أولاً، يجب أن نحدد مفهوم الذكاء الاصطناعي. ما هو الذكاء؟ هل هو القدرة على إدراك العالم والتنبؤ بالمستقبل، أم القدرة على التخطيط لسلسلة من الإجراءات لتحقيق هدف معين؟ هل هو التعلم أم تطبيق المعرفة بحكمة؟ من الصعب تقديم تعريف شامل.
يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي هو مجموعة من التقنيات التي تمكّن الآلات من أداء المهام وحل المشكلات المتخصصة. بعضها بسيط بالنسبة للبشر، مثل التعرف على الأشياء في الصور أو تخطيط تحركات الروبوت، بينما تتطلب مهام أخرى تخطيطًا معقدًا، مثل لعب الشطرنج. أما المهام الأكثر تعقيدًا، فهي تلك التي تتطلب الكثير من المعرفة والفطرة السليمة، مثل ترجمة النصوص أو إجراء الحوارات التفاعلية مع الآلات.
في السنوات الأخيرة، ارتبط الذكاء الاصطناعي بشكل متزايد بقدرات التعلم الآلي، حيث يتم تحسين أداء الأنظمة الذكية عبر التجربة والخبرة. فبدلاً من البرمجة اليدوية التقليدية، أصبح بإمكان هذه الأنظمة “التعلم” واكتساب مهارات جديدة تلقائيًا.
في الماضي، كان بناء أي نظام ذكي يتطلب كتابة برنامج يدويًا، سواء للعب الشطرنج أو التعرف على الأحرف المطبوعة أو تشخيص الأمراض بناءً على الأعراض. لكن هذا النهج “اليدوي” كان محدودًا، خاصة في المهام التي تبدو بسيطة مثل التعرف على الصور أو الأصوات، لأن البيانات الحقيقية معقدة ومتغيرة للغاية.
لنفهم ذلك، يجب أن نعلم أن الصورة بالنسبة للآلة ليست سوى مجموعة من الأرقام تشير إلى سطوع أو لون كل “بكسل”، والإشارة الصوتية هي سلسلة أرقام تعكس ضغط الهواء في أي لحظة. كيف يمكن للآلة، إذن، تحويل هذه الأرقام إلى كلمات مفهومة أو التعرف على الأجسام في الصور رغم اختلافها الكبير من صورة لأخرى؟ هنا يأتي دور التعلم العميق، وهو مجال من الذكاء الاصطناعي تطور بشكل كبير منذ عام 2012، رغم أن مبادئه تعود إلى الثمانينيات.
الأيام نيوز: هل يمكن اعتبار الذكاء الاصطناعي قضية سيادة وطنية في ظل التنافس العالمي؟
صالح داودي: بلا شك. العديد من الدول والشركات تعمل على ضبط أنظمتها التكنولوجية بهدف تطوير صناعة رقمية قوية تمكّنها من الولوج إلى الاقتصاد الرقمي بفاعلية. السباق اليوم محموم بين الدول التي تستثمر مليارات الدولارات في تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي لتقديم حلول ذكية تسهّل الحياة اليومية للأفراد، وتُستخدم في مختلف المجالات مثل الصحة والتعليم والصناعة.
عندما نتحدث عن الابتكار والإبداع في المجتمع الرقمي، فإننا نشير إلى الحلول التي تتيح للأفراد والمؤسسات اتباع المسار الرقمي للوصول إلى عالم أكثر تنظيمًا وسهولة في الإدارة، لا سيما مع وجود آلات ذكية تعمل على تحسين جودة الحياة.
الأيام نيوز: كيف تقيّمون إنشاء مدرسة للذكاء الاصطناعي في الجزائر؟
صالح داودي: إن إنشاء مدرسة للذكاء الاصطناعي في الجزائر خطوة مهمة، تحظى بتقدير كبير من قبل المجتمع العلمي والمهتمين بالتكنولوجيا. ولكن يجب أن ترافقها مؤسسات بحثية أخرى، خاصة مع ظهور نموذج اقتصادي رقمي جديد يحمل تحديات ثقافية وعلمية كبيرة.
الهدف من هذه المدرسة هو تطوير المهارات الجزائرية في مجال الذكاء الاصطناعي من خلال التعليم والتدريب والبحث، وجعل هذه المهارات رافعة للتنمية في القطاعات الاجتماعية والاقتصادية. يجب أن تكون هذه المؤسسة أداة لدعم التحول الرقمي، من خلال تذليل العقبات التي تواجه رقمنة المؤسسات وتحقيق استغلال أمثل للتكنولوجيا في مختلف المجالات.
من الضروري أن تعمل هذه المدرسة على تسليط الضوء على الكفاءات الجزائرية وتطويرها، لأن الإبداع موجود في بلادنا، وغالبًا ما يفرضه واقع الحاجة إلى حلول تكنولوجية في ظل ندرة الموارد. ومع ذلك، تواجهنا تحديات كبيرة، أبرزها البيروقراطية التي تُبطئ إصدار التشريعات الداعمة للابتكار، إضافة إلى عوائق سياسية تؤخر تبني الإصلاحات اللازمة.
أعتقد أنه يجب التفكير في رؤية بعيدة المدى لتعزيز الانتقال الرقمي في الجزائر. تحقيق ذلك يتطلب دعمًا حكوميًا قويًا لرواد الأعمال الشباب والشركات الناشئة، عبر توفير بيئة استثمارية موثوقة ومستدامة، تُمكّنهم من تطوير حلول ذكاء اصطناعي تلبي احتياجات السوق المحلية والدولية.
في الواقع، تسعى الاستراتيجية الوطنية للتحول الرقمي إلى تحسين الأداء في القطاعات الحيوية خلال السنوات القادمة، بما في ذلك التعليم العالي، الصحة، النقل، الطاقة والتكنولوجيا، عبر اعتماد تقنيات الذكاء الاصطناعي لتعزيز الكفاءة وتحقيق التنمية المستدامة.
الأيام نيوز: كيف يمكن، برأيكم، أن تنجح الجزائر في ثورتها الرقمية في عصر البيانات الضخمة والتسارع الهائل في المستحدثات التكنولوجية؟
صالح داودي: يمكن للجزائر تحقيق نجاحها الرقمي من خلال تنظيم جيد، وهيكلة مبتكرة، والتخلي عن التسيير الإداري المركزي، وقبل كل شيء، الانفتاح على التجارب الخارجية. فالذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة مرتبطان ارتباطًا وثيقًا، لكن السؤال الحقيقي الذي ينبغي طرحه هو: ما التحديات التي تواجهنا في التعامل مع هذه التقنيات؟
في الوقت الحالي، لا توجد تنظيمات واضحة تضبط مجال الذكاء الاصطناعي بشكل محدد، ما يثير مخاوف كبيرة تتعلق بالسلامة وأمن المعلومات. لذلك، فإن أحد الأولويات الملحة هو وضع إطار قانوني وتقني لمواجهة المخاطر المحتملة. إذ تجعل الخروقات الأمنية البيانات عرضة للسرقة والتلاعب بسهولة من قبل المتسللين والقراصنة، فيما تساهم التطورات المتسارعة في تقنيات الذكاء الاصطناعي في ظهور تهديدات جديدة غير مسبوقة.
من ناحية أخرى، هناك مخاوف متزايدة بشأن قدرة الجزائر على التحكم في هذه التكنولوجيات الناشئة، خاصة فيما يتعلق بأخلاقيات الذكاء الاصطناعي وحماية البيانات الضخمة. يمكن أن يؤدي التراكم غير المنظم للبيانات على الخوادم السحابية، وإمكانية اختراقها من قبل جهات غير موثوقة، إلى تهديد العديد من الشركات الاقتصادية وإضعاف الأمن السيبراني للدولة.
صحيح أن هذه التحديات معقدة، لكنها ليست مستحيلة الحل. فالتقنيات الحديثة لا تصبح معطلة للنمو إلا عندما لا يكون هناك استعداد كافٍ للتعامل معها. ولهذا، إذا أرادت الجزائر دخول هذا العالم الرقمي بقوة، فعليها أن تستعد جيدًا من الناحية اللوجستية والتشريعية، لضمان تحقيق أقصى استفادة من الفرص والمزايا الاقتصادية والتقنية التي توفرها أدوات الذكاء الاصطناعي.
التحضير الجيد لمواجهة التحديات الرقمية هو ضرورة ملحّة، لأن الأمر لا يتعلق بمجرد مواكبة التطورات، بل بقيادة ثورة رقمية حقيقية، تتطلب استثمارًا كبيرًا في الموارد البشرية القادرة على تحقيق التحول الرقمي المنشود.