على مدار العقود الماضية، شكّل سيرغي لافروف حجر الزاوية في الدبلوماسية الروسية، إذ استطاع أن يفرض حضوره على الساحة الدولية بأسلوبه الصارم وقدرته الفائقة على التفاوض، إلى جانب شخصيته الكاريزمية التي تجمع بين الحزم والهدوء. فمنذ تعيينه وزيرًا للخارجية عام 2004، وهو يلعب دورًا أساسيًا في صياغة السياسة الخارجية لبلاده، متصدّرًا المشهد في العديد من الأزمات والقضايا الدولية الشائكة. واليوم، تأتي خطوة تكريمه من قبل الرئيس فلاديمير بوتين بمنحه وسام القديس الرسول أندراوس، أرفع وسام في روسيا، تتويجًا لمسيرته الطويلة واعترافًا بدوره المحوري في تعزيز مكانة بلاده على الخارطة الدبلوماسية العالمية. يُعبّر هذا التكريم، الذي تزامن مع احتفال لافروف بعيد ميلاده الخامس والسبعين، عن مدى تأثيره العميق في السياسة الدولية، سواء من خلال مواقفه الصلبة أو مناوراته الدبلوماسية التي لطالما أثارت الجدل، أو حتى حضوره الاستثنائي الذي جعله شخصية محورية في علاقات روسيا الخارجية. وبعيدًا عن كونه مجرد رجل دولة، يكشف الجانب الشخصي من حياة لافروف عن تفاصيل مثيرة، بدءًا من ولعه بالتدخين وتحدّيه لقوانين الأمم المتحدة، إلى شغفه الخفي بالفن والشعر، مما يضيف بُعدًا إنسانيًا إلى هذه الشخصية السياسية الصلبة. وفي ركن “إضاءات” من هذا العدد، نستعرض أبرز محطات مسيرته، وأهم مواقفه، واللحظات التي جعلته أحد أعمدة الدبلوماسية الروسية في العصر الحديث.
في خطوة تحمل تقديرًا لمسيرة طويلة من العمل الدبلوماسي، أصدر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يوم الجمعة، مرسومًا رئاسيًا يقضي بمنح وزير الخارجية سيرغي لافروف وسام القديس الرسول أندراوس، وهو أرفع وسام تمنحه الدولة الروسية تكريمًا للشخصيات البارزة. وجاء في نص المرسوم أن هذا الوسام يُمنح “تقديرًا لإسهاماته البارزة في خدمة الوطن، ومساهمته الكبيرة في تطوير وتنفيذ السياسة الخارجية لروسيا الاتحادية، فضلًا عن سنواته الطويلة من العمل المثمر في مؤسسات الدولة”. ويأتي هذا التكريم بالتزامن مع احتفال لافروف بعيد ميلاده الخامس والسبعين، الذي وافق يوم 21 مارس.
طوال مسيرته الدبلوماسية، التي امتدت لعقود، عُرف سيرغي لافروف ليس فقط بمهاراته التفاوضية وخبرته العميقة في السياسة الخارجية، بل أيضًا بشخصيته الكاريزمية، التي جعلته واحدًا من أكثر الشخصيات الدبلوماسية تأثيرًا على الساحة الدولية.
تقول الصحافية الفرنسية سيليا دي لافارين، التي كانت تعمل مراسلة لراديو France International خلال فترة عمل لافروف كممثل دائم لروسيا لدى الأمم المتحدة (1994-2004)، إن الوزير الروسي كان يتمتع بجاذبية خاصة جعلت منه شخصية محبوبة، ليس فقط بين زملائه الدبلوماسيين، بل حتى بين الصحافيات اللواتي كنّ يتسابقن لحضور مؤتمراته الصحفية، حتى أن البعض منهن كنّ “مستعدات لفعل أي شيء” لضمان الحصول على مكان في الصفوف الأمامية لمتابعة تصريحاته عن كثب.
لم يكن لافروف معروفًا فقط بأسلوبه الحاد والدقيق في النقاشات الدبلوماسية، بل اشتهر أيضًا بولعه الشديد بالتدخين. وتروي الصحافية الفرنسية حادثة طريفة، حيث التقت به ذات مرة بالقرب من قاعة مجلس الأمن بينما كان يقف أمام لافتة مكتوب عليها “ممنوع التدخين”، ومع ذلك، دعاني بكل ثقة قائلًا: “سيليا، تعالي إلى هنا.. دخني معي”. وعندما سألته إن كان لا يخشى من مخالفة القوانين، أجابها بابتسامة واثقة: “انظري إلي، هل تعتقدين أن أحدًا يمكنه إيقاف روسيا العظمى؟”.
عناد لافروف مع قوانين منع التدخين
لم يكن التدخين مجرد عادة عند لافروف، بل كان جزءًا من شخصيته التي لا تعترف بالقيود. فقد رفض الامتثال لأوامر كوفي عنان، الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك، عندما أصدر قرارًا بحظر التدخين داخل المكاتب. وفقًا لما ذكره الإعلامي العراقي سلام مسافر، فقد كان لافروف مدخنًا شرهًا يتجول في ممرات الأمم المتحدة غير مكترث بالقوانين الجديدة. وفي إحدى المرات، أوقفه أحد الحراس مطالبًا إياه بإطفاء سيجارته تنفيذًا لأوامر كوفي عنان، فما كان من لافروف إلا أن ردّ بحدة: “اذهب وأخبر كوفي أن هذا المبنى ليس ملكًا له. نحن الدول الأعضاء من ندفع نفقاته!”، ثم واصل سيره غير مبالٍ، تاركًا وراءه سحابة من الدخان.
حتى أثناء رحلاته الجوية، لم يكن لافروف يتخلى عن سيجارته، حيث كانت طائرته واحدة من الطائرات الدبلوماسية القليلة التي يُسمح بالتدخين على متنها. إلا أن هذه العادة كادت تؤدي إلى كارثة ذات مرة، عندما استسلم أحد الصحافيين المرافقين للوفد للنوم، بينما كان يدخن، فسقطت سيجارته المشتعلة على قماش المقعد البلاستيكي، مما تسبب في اندلاع حريق صغير. ولولا يقظة أحد الحراس، الذي انتبه إلى ألسنة اللهب في اللحظات الأولى، لكانت الطائرة في خطر كبير. عقب هذا الحادث، تم فرض حظر التدخين داخل الصالة الخاصة بالوفد الصحفي، لكن لافروف لم يتخلَّ عن عادته إلا بعد إصابته بفيروس كورونا، الذي أثر على صحته وأجبره على التوقف عن التدخين تمامًا.
لا يُعد سيرغي لافروف مجرد وزير خارجية، بل هو أحد أعمدة الدبلوماسية الروسية الحديثة، وشخصية بارزة في المشهد السياسي الدولي، حيث شغل منصب وزير الخارجية الروسي منذ 9 مارس 2004، ليصبح بذلك رابع وزير خارجية يتولى هذا المنصب بعد تفكك الاتحاد السوفيتي. طوال عقدين من الزمن، قاد لافروف السياسة الخارجية الروسية في مرحلة من أكثر المراحل تعقيدًا في التاريخ الحديث، وتعامل مع أزمات دولية كبرى، ما جعله أحد أطول وزراء الخارجية في العالم بقاءً في منصبه، وأكثرهم خبرة وتأثيرًا.
مسيرة حافلة بالإنجازات الدبلوماسية
قبل توليه وزارة الخارجية، برز لافروف كدبلوماسي محنك عندما شغل منصب المندوب الدائم لروسيا لدى الأمم المتحدة لمدة عشر سنوات (1994-2004)، حيث أثبت قدراته التفاوضية الفائقة، وعُرف بأسلوبه الحاد في النقاشات الدبلوماسية. وخلال تلك الفترة، لعب دورًا رئيسيًا في التعامل مع ملفات سياسية حساسة، عززت من مكانته كأحد أكثر الدبلوماسيين تأثيرًا على الساحة الدولية. وبفضل خبرته الطويلة، انضم لافروف إلى قائمة وزراء الخارجية الأطول خدمة على مستوى العالم، إلى جانب شخصيات دبلوماسية بارزة مثل:
- أندريه غروميكو، وزير خارجية الاتحاد السوفيتي بين عامي 1957 و1985، والذي اشتهر بلقب “السيد لا” بسبب مواقفه الصارمة في مجلس الأمن.
- الأمير سعود الفيصل، وزير خارجية المملكة العربية السعودية، الذي شغل المنصب قرابة 40 عامًا، وكان أحد أعمدة الدبلوماسية الخليجية.
- الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، أمير الكويت الراحل، الذي تولى وزارة الخارجية لما يقارب أربعة عقود، وساهم في رسم ملامح السياسة الخارجية لبلاده.
- يوسف بن علوي، الوزير العماني المكلف بالشؤون الخارجية، والذي شغل منصبه بين عامي 1997 و2020، وكان أحد أهم الدبلوماسيين الخليجيين.
يُعرف لافروف بأسلوبه الصارم، وقدرته الفائقة على إدارة الأزمات السياسية المعقدة، سواءً داخل أروقة الأمم المتحدة، أو في المفاوضات الثنائية، أو حتى خلال المواجهات الإعلامية الحادة. يتميز بمواقفه القوية التي تعكس الخط السياسي للكرملين، كما أنه لا يتردد في استخدام لغة مباشرة وصريحة، أحيانًا حتى بأسلوب تهكمي، ما جعله محط اهتمام الإعلام الدولي.
الدبلوماسي الذي يخبئ موهبة فنية
بعيدًا عن قاعات المفاوضات والمؤتمرات الصحفية، يحتفظ سيرغي لافروف بجانب غير مألوف في شخصيته، وهو شغفه بالفن والرسم. هذه الهواية التي ربما لم تكن معروفة للكثيرين، كشف عنها غينادي غاتيلوف، الممثل الدائم لروسيا لدى الأمم المتحدة في جنيف، مشيرًا إلى أنها رافقت لافروف منذ سنوات عمله في المنظمة الدولية.
يستعيد غاتيلوف ذكرياته مع لافروف، الذي كان زميله في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية، ويروي كيف لاحظ عادته في الرسم أثناء الاجتماعات المطولة. كان لافروف يرسم أشكالًا هندسية معقدة، ويخط أنماطًا متنوعة، وأحيانًا يدون كلمات باللغة الإنكليزية على الأوراق التي أمامه، في محاولة غير واعية ربما لشغل الوقت خلال المناقشات الطويلة.
لكن المفاجأة الحقيقية جاءت عندما اكتشف الممثل الدائم لسنغافورة لدى مجلس الأمن الدولي أن لافروف يترك وراءه هذه الأوراق المليئة بالرسومات بعد انتهاء الاجتماعات. بدافع الفضول، بدأ الدبلوماسي السنغافوري بجمعها، وعلى مدار عامين، شكّل منها ألبومًا خاصًا، أصبح لاحقًا بمثابة توثيق غير رسمي لهذه اللحظات الفريدة من حياة لافروف المهنية.
مع مرور الوقت، أثارت هذه الرسومات اهتمام زملائه، حيث كشفت عن جانب إبداعي غير متوقع من شخصية الوزير المعروف بصلابته في التفاوض. وعلى الرغم من أن هذه الرسومات لم تكن سوى وسيلة عفوية لتمضية الوقت خلال الاجتماعات، إلا أنها تعكس بُعدًا إنسانيًا بعيدًا عن الصورة الصارمة للدبلوماسي الروسي، مما يُظهر موهبة بقيت لسنوات بعيدة عن الأضواء.
ولم يكن الفن هو الموهبة الوحيدة التي تميز بها لافروف، فقد احتفى به عدد من الشخصيات البارزة في الثقافة والرياضة والعلوم خلال عيد ميلاده، حيث قاموا بإلقاء قصيدته الشهيرة “هيئة السفراء”، وكان الهدف من هذه المبادرة تسليط الضوء على الجانب الإبداعي للشاعر الدبلوماسي. ومن بين المشاركين في هذه الفعالية وزيرة الثقافة الروسية أولغا لوبيموفا، ومدير فرقة “ليوبيه” الموسيقية نيقولاي راستروغيف، ولاعب الشطرنج سيرغي كارياكين، وعازف البيانو دينيس ماتسويف، والإعلامية تينا كانديلاكي، والصحفي فلاديمير سولوفييف، والمخرج الصربي إمير كوستوريتسا، وغيرهم، حيث ألقوا مقتطفات من القصيدة عن ظهر قلب.
بدأ لافروف مسيرته الشعرية خلال دراسته الجامعية، وفي عام 2004 نُشرت قصائده في ديوان صدر بمناسبة الذكرى الستين لتأسيس معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية. كما قام بتأليف النشيد الرسمي للمعهد، وتُعد قصيدة “هيئة السفراء” من أبرز أعماله الأدبية. وفي عام 2016، نال جائزة “الثقافة الإمبراطورية” الوطنية تقديرًا لمساهماته الأدبية، مما يرسّخ مكانته ليس فقط كدبلوماسي بارز، بل أيضًا كمبدع ترك بصمته في عالم الأدب.
عميد الدبلوماسية الروسية
يُعرف وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بأنه أحد أبرز الشخصيات في السلك الدبلوماسي العالمي، حيث استطاع خلال أكثر من 20 عامًا أن يكون وجه السياسة الخارجية الروسية، وصوتها القوي في المحافل الدولية. فقد درس الدبلوماسية واشتغل بها وتدرج في سلمها، حتى شبهه كثيرون بآندريه غروميكو، الملقب بـ”مستر نيت”، بسبب مواقفه الصارمة داخل مجلس الأمن الدولي.
وُلد لافروف في 21 مارس 1950 في موسكو، لأب أرميني وأم روسية. التحق بمعهد العلاقات الدولية التابع لوزارة الخارجية الروسية، حيث تخرج عام 1972، ليبدأ مسيرته الدبلوماسية التي قادته إلى قمة هرم الخارجية الروسية. كانت محطته الأولى في السفارة السوفياتية بسريلانكا، ثم انتقل للعمل في إدارة المنظمات الدولية بوزارة الخارجية السوفياتية بين عامي 1976 و1981.
واصل لافروف صعوده، فشغل منصب السكرتير الأول والمستشار في المندوبية السوفياتية الدائمة لدى الأمم المتحدة، قبل أن يتولى إدارة المنظمات الدولية في وزارة الخارجية السوفييتية عام 1991. وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي، أصبح رئيس إدارة المنظمات الدولية والقضايا العالمية في وزارة الخارجية الروسية، ثم نائبًا لوزير الخارجية عام 1992، قبل أن يُعيّن مندوبًا دائمًا لروسيا لدى الأمم المتحدة عام 1994.
في 9 مارس 2004، عيّنه الرئيس فلاديمير بوتين وزيرًا للخارجية، ومنذ ذلك الحين، أصبح أحد الأعمدة الأساسية في صنع القرار الروسي، لا سيما في القضايا الجيوسياسية الكبرى مثل النزاع في أوكرانيا، الحرب في سوريا، والتوترات مع الغرب. يُعد لافروف من أكثر وزراء الخارجية تأثيرًا في التاريخ الحديث، إذ استطاع أن يضع بصمة واضحة في السياسة الدولية. بشخصيته القوية وحضوره المهيب، ظل لاعبًا أساسيًا في الساحة الدبلوماسية العالمية لعقود، ما جعله بحق “السيد روسيا”.
عُرف لافروف بأسلوبه الصارم، وقدرته الفائقة على إدارة الأزمات السياسية المعقدة، سواءً داخل أروقة الأمم المتحدة، أو في المفاوضات الثنائية، أو حتى خلال المواجهات الإعلامية الحادة. لكن خلف هذه الصورة الرسمية، يكشف بعض من تعاملوا معه عن جانب آخر من شخصيته، إذ يوصف بأنه رجل دافئ الأحاسيس والمشاعر، سهل الحديث معه، لدرجة أن من يقابله لأول مرة يشعر وكأنه يعرفه منذ سنوات.