القراءة.. “فريضة” أم رفاهية عقلية؟

“أمّة اقرأ لا تقرأ” عبارةٌ أطلقها الكاتب المصري “عبد التـواب يوسف أحمد” (1928 – 2015) وسَرتْ بين الناس في كل البلدان العربية، و”اتّفقوا” حولها كأنمّا هي مُسلّمةٌ لم يعد في الإمكان التحرّر منها. ورغم أن “اقرأ” هي أوّل أمر إلهي للمُسلمين، فإن “القراءة” لم تكن يومًا قضية فقهية من القضايا الدينية التي صارتْ تُثار وتُثير جدلاً بين الناس في شبكات التواصل الاجتماعي، ولم ترتقِ إلى أن تكون موضوعا يستدعي الفتوى إن كانت فريضةً، أو هي رفاهية عقلية، أو وسيلة من وسائل التعليم والعمل تُستَعمل بحسب الحاجة إليها؟

مكتبة “الصاحب بن عبّاد”

جاء في كتاب “قصة الحضارة” للكاتب والمؤرّخ الأمريكي “ويل ديورانت”‏ (1885 – 1981) أن الصاحب بن عَبّاد (938 – 995) كان يمتلك مكتبةً خاصة تجاوز رصيدُها أرصدةَ المكتبات الأوروبية مُجتمعة في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية، حيث قال: “وكان عند بعض الأمراء كالصّاحب بن عبّاد من الكتب بِقدْر ما في دُور الكتب الأوربية مجتمعة”. وروى الإمام “جلال الدين السيوطي”، في كتابه “المُزهر في علوم اللغة وأنواعها”، أن أحد الملوك طلب من “الصاحب بن عبّاد” أن يقيم في بلاده، فكان جواب الصّاحب “أحتاجُ إلى ستّين جمَلاً أنقل عليها كتبَ اللغة التي عندي”.

ومكتبة “ابن عبّاد” هي مثالٌ عن اهتمام المُسلمين بالمكتبات الخاصة في بيوتهم أو في مباني كانوا يقيمونها للكتب ويفيدون بها عامّة الناس. وأما المكتبات العّامة فقد كانت مؤسّسات علمية وتعليمية، أشبه بالمُركّبات التي توفّر لزائرها مختلف الخدمات من الإقامة إلى الحمّام والحديقة، ولها تاريخٌ كبير ودورٌ حضاريٌ أفادت منه الحضارة الغربية إفادة عظمى، بينما انتهى العرب إلى “أمّة اقرأ لا تقرأ”.

كلمة بمناسبة اليوم العالمي للكتاب

لسنا في معرض الحديث عن “الإفلاس” الحضاري الذي أصاب الأمة العربية لأسباب من أهمّها تدهور العلاقة بين الإنسان العربي والكتاب، وغياب “وعي القراءة” إلى درجة أننا دخلنا في غيبوبة حضارية فقدنا فيها الفهم الصحيح للأمر الإلهي “اقرأ”. فقط، أردنا أن نقول كلمة بمناسبة اليوم “العالمي للكتاب وحقوق المؤلف” الذي احتفل به العالم يوم الثالث والعشرين أفريل /نيسان، ونستحضر العبارة التي توحّد عليها العرب “أمّة اقرأ لا تقرأ” إن كانت حقيقةً واقعة أو هي من المقولات الجاهزة التي يُرادُ تثبيتها في العقل العربي ليكون انهزاميًا وسلبيًا في تفكيره.

ومن المُجدي التذكير، في هذا السياق، بجواب الكاتب الفرنسي “فولتير” (1694 –1778) عندما سألوه: من سيقود الجنس البشري؟ فقال‏: أولئك الذين يعرفون كيف يقرؤون؟ وقد صدق “فولتير”، فلا يكفي أن نقرأ، بل يجب أن نعرف كيف نقرأ، ونحن نُدرك الجواب الحقيقي للسؤال: لماذا نقرأ؟

98 بالمائة من العرب لا يقرؤون

قبل أكثر من عشرين سنة، أجرينا حوارا مع باحث عربي مُتبحّر في القراءة وما يتصّل بها من علوم، ثم نشرنا الحوار تحت عنوان “98 بالمائة من العرب لا يقرؤون”، فثارت ثائرة الباحث واتّهمنا بالتزييف والتّحريف لأقواله، ولكنه أكّد قوْلَه بأن “2 بالمائة من العرب يقرؤون”.

وبعد سنوات قليلة، ظهرت تقارير أفادتْ بأن المعدّل السنوي للقراءة عند الإنسان العربي هو 9 دقائق لا أكثر، بينما الإنسان الغربي في أوروبا وأمريكا، فإن معدّل القراءة عنده هو 200 ساعة سنويا. وفي حين يقرأ الطفل الأمريكي 6 دقائق يوميا، فإن الطفل العربي يقرأ 7 دقائق سنويا.

وكل عشرين طفلا عربيا يقرؤون كتابا واحدا في السنة، بينما يقرأ الطفل الأمريكي 11 كتابا، والطفل البريطاني 7 كتب. كما أفادت تلك التقارير أن مساهمة الدول العربية مُجتمعة لا تتجاوز 1.1 بالمائة في معدّل الإنتاج العالمي للكتاب، حيث أنه مقابل كل عنوان كتاب يصدر في العالم العربي، يُقابله صُدور أكثر من خمسين عنوان كتاب في الدول الغربية.

تقارير ظالمة وأخرى أكثر ظُلمًا

بقدر ما كانت تلك التقارير صادمةً ومُفزعة، فإنها كانت أيضا مستفزّةً دفعتْ ببعض الباحثين العرب إلى التشكيك في مصادرها الأصلية والطّعن في الأليات التي تمّ اعتمادها لاستخلاص تلك الإحصائيات والأرقام.

وبادرت جهات عربية رسمية بإنجاز تقارير حول القراءة في مختلف الأقطار العربية، ولكنها واجهت أيضا التّشكيك والطُّعون من الباحثين وحتى من القرّاء العاديين الذي شعروا بأن أوطانهم ظُلمت في ترتيب المقروئية لأسباب مختلفة.. ومهما يكن من أمر، فإنّ أكثر الإحصائيات “العربية” تفاؤلا حول الميول القرائية عند العرب كشفت عن تدنّي القراءة في مختلف أقطار العالم العربي، وأبرزت بأن صناعة الكتاب، في كل عناصرها من طباعة ونشر وترويج وتوزيع، تُعاني من الضّعف وانخفاض جدواها في بناء العقل المعرفي والعلمي للإنسان العربي.

الصداقة بين الكتاب والقارئ

مع انتشار الكتاب الرقمي الضوئي والمنطوق، صار من الضروري إعادة النظر في مفهوم القراءة وأنواعها وطرائق ترسيخها في حياة الإنسان العربي ضمن العادات والتقاليد اليومية. كما أنه صار من الضروري إعادة النظر في مفهوم المكتبات ووظائفها وأدوارها، فهي في أغلبها “مستودعات” للكتب تنتظر القارىء أن يزورها، وليست فضاءات للتفاعل المعرفي والنشاط العلمي والثقافي.

ومن المُجدي توطيد العلاقة بين الإنسان العربي والكتاب، وتوثيق الصلة بينهما لتصل إلى درجة “الصداقة” الدائمة المبْنية على القناعة بأن القراءة هي طريق الرقيّ ومفتاح السعادة وبوّابة الانتماء إلى عصر التكنولوجيا بعقل علمي ومعرفي يُساهم بفعالية في الحضارة الإنسانية. ومن المُجدي أيضا أن نمحوَ عبارة “أمّة اقرأ لا تقرأ” من الذهنية العربية، فهي عبارة “مسمومة” تزيد من حجم الصّدأ المتراكم على العقل العربي، وتعطّل آلة التفكير التي تكاد أن تتوقّف.

للبيع.. عقلٌ “مُشمّعٌ”

من الطّرائف التي كانت تُروَى عن العقل العربي، وتناقلتها بعض المجلاّت العربية دون أن تذكر مصدرها، أن رجلاً ثريًا أراد تغيير عقله المُتعب، فذهب إلى محلّ مُتخصّص في بيع العقول، فعرض عليه البائع عقلا يابانيا وقال بأنه عقلٌ مُبدعٌ خلاّقٌ ولكنه اشتغل كثيرا وقد يتعطّل بعد سنوات قليلة.

رفض الثريُّ هذا العرض، فجاءه البائع بعقل ألماني وقال بأنه قويٌ ومُبدعٌ ولكن مدّة صلاحية شارفتْ على الانتهاء.. واصل البائعُ عرض أنواع العقول التي لديه، ولكن جميعُها لم تُرضِ الرَجلَ الثريَّ وهَمَّ بمغادرة المحلّ، غير أن البائع اسْتوقفَه، فقد تذكّر بأن لديه عقلاً مُشمّعًا لم يُستعمل بعد، وفرح الثريُّ وسأل عن هذا العقل، فأجابه البائع بأنّه العقل العربي.

ورغم ما في هذه الطّرافة من التّجنّي والظلم للعقل العربي، وربما تكون قد صدرت عن جهات تريد للعرب أن يستسلموا للانهزامية مثل الإحصائيات الجائرة التي أوردناها سابقا، فإنها تكشف بأن القراءة هي التي تُحرّر العقل من “التّشمُّع” وتحصنّه ضدّ كل المُخطّطات و”الطرائف” التي تهدف إلى تعطيله.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا