مع تصاعد التوترات الجيوسياسية بين موسكو وواشنطن، تتواصل الجهود الدبلوماسية لمحاولة رأب الصدع بين القوتين العظميين، إلا أن مسار التقارب لا يزال محفوفًا بالعقبات. فعلى الرغم من بعض المؤشرات الإيجابية، مثل استمرار قنوات الحوار بين كبار المسؤولين، فإن العقوبات المتبادلة والتصعيد الاقتصادي والسياسي يشكلان عائقًا كبيرًا أمام أي اختراق حقيقي في العلاقات الثنائية. وفي هذا السياق، نفت وزارة الخارجية الروسية التقارير التي تحدثت عن رفع العقوبات المفروضة على وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، مؤكدة أن تلك الأنباء “عارية عن الصحة تمامًا”، ما يعكس استمرار الموقف المتشدد من جانب موسكو تجاه القيود الغربية المفروضة عليها. وجاء هذا الإعلان في وقت تشهد فيه الساحة الدولية تطورات متسارعة، بدءًا من التحضيرات لقمة محتملة بين الرئيسين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب، وصولًا إلى النقاشات المكثفة حول إمكانية التوصل إلى هدنة مؤقتة في أوكرانيا.
في الوقت الذي تسعى فيه بعض الأطراف إلى إحياء مسار التسوية، تواصل الدول الأوروبية، بقيادة بريطانيا، تصعيد خطابها الحاد ضد روسيا، مع الدعوات إلى تشديد العقوبات وتعزيز العزلة الاقتصادية عليها. ومع ذلك، يبقى التساؤل الأهم: هل ستنجح هذه الضغوط في دفع الكرملين إلى تقديم تنازلات جوهرية، أم أنها ستؤدي إلى تراجع النفوذ الأوروبي أمام هيمنة واشنطن على الملف الأوكراني على وجه الخصوص؟
في ظل هذه التحديات، تشهد التحركات الدبلوماسية نشاطًا غير مسبوق، مع استمرار المشاورات بين موسكو وواشنطن، وسعي كل طرف إلى تعزيز موقفه التفاوضي. فبين محاولات تهدئة الأوضاع في أوكرانيا، والمباحثات حول تبادل الأسرى والمعتقلين، يبدو أن العالم يقف على أعتاب مرحلة جديدة من التوازنات الدولية، حيث تبقى جميع الخيارات مفتوحة على طاولة السياسة العالمية.
رغم التقدّم الملحوظ في المحادثات الدبلوماسية بين روسيا والولايات المتحدة، إلا أن العلاقات بين البلدين لا تزال تواجه العديد من العقبات والتحديات. فقد أكدت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، أن الأنباء المتداولة حول قيام موسكو برفع العقوبات المفروضة على وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو عارية عن الصحة تمامًا. وشددت زاخاروفا على أن العقوبات لا تزال سارية المفعول، وأن التقارير التي زعمت عكس ذلك هي مجرد “أخبار كاذبة”.
في الأيام الأخيرة، تداولت منصات التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام أنباء تفيد بأن روسيا قد أزالت العقوبات المفروضة على ماركو روبيو، بعد مكالمة هاتفية أجراها مع نظيره الروسي سيرغي لافروف. إلا أن زاخاروفا نفت هذه المزاعم جملة وتفصيلًا في تصريح لوكالة الأنباء الروسية “تاس”، حيث قالت: “حتى الآن لم تُرفع العقوبات. هذه مجرد أخبار كاذبة”.
يذكر أن روسيا كانت قد أدرجت ماركو روبيو ضمن قائمة العقوبات في ماي 2022، مانعةً إياه من دخول الأراضي الروسية، وذلك في إطار إجراءاتها المضادة للعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على مسؤولين روس. وفي نوفمبر 2024، جدد المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، تأكيده على أن روسيا لن ترفع العقوبات عن روبيو طالما أن نظيره الروسي، سيرغي لافروف، لا يزال يخضع للعقوبات الأمريكية.
على الرغم من استمرار العقوبات، إلا أن القنوات الدبلوماسية بين موسكو وواشنطن لم تُغلق تمامًا، فقد أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية أن ماركو روبيو أجرى محادثة هاتفية مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يوم السبت، حيث ناقشا خلالها الخطوات المستقبلية بعد الاجتماعات الأخيرة التي عُقدت في السعودية. ووفقًا للخارجية الأمريكية، فقد اتفق الجانبان على مواصلة الجهود لإعادة التواصل بين البلدين في مختلف القضايا.
تحضيرات لقمة بوتين – ترامب
بالتوازي مع هذه التطورات، كشف مساعد الرئيس الروسي، يوري أوشاكوف، عن استمرار التحضيرات لعقد قمة بين الرئيسين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب. وأوضح أوشاكوف أن “الاتصالات لا تزال جارية بين روسيا والولايات المتحدة حول إمكانية عقد لقاء بين الزعيمين”، دون تقديم تفاصيل إضافية عن الموعد أو مكان انعقاد القمة. وأكد أوشاكوف أنه في حال ظهرت الحاجة إلى هذا اللقاء، فسيتم ترتيبه بسرعة، مشيرًا إلى أن التنسيق لا يقتصر فقط على مستوى الرؤساء، بل يمتد أيضًا إلى المسؤولين رفيعي المستوى في البلدين.
في سياق متصل، أعرب الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، عن رغبته في عقد لقاء مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مشددًا على ضرورة إنهاء أزمة أوكرانيا في أقرب وقت ممكن. وسبق أن جرى اتصال هاتفي بين الزعيمين استمر لمدة ساعة ونصف، تم خلاله الاتفاق على التحضير للقاء ثنائي، إضافة إلى تشكيل فرق تفاوضية لمناقشة سبل إنهاء الأزمة الأوكرانية وتحسين العلاقات بين البلدين. كما أكد المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، أن المحادثة بين بوتين وترامب تطرّقت إلى موضوع تبادل الأسرى والمعتقلين، إضافة إلى مناقشة مقترحات لحل الأزمة الأوكرانية بطرق دبلوماسية.
من جانبه، أعلن المبعوث الأمريكي، ستيف ويتكوف، أن لقاءه الأخير مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان مثمرًا، حيث تم إحراز تقدم ملموس في المحادثات بين روسيا وأوكرانيا. وفي حديث لشبكة “سي إن إن”، قال ويتكوف إن الفرق التفاوضية من كلا الجانبين تقترب بشكل متزايد من التوصل إلى اتفاق، متوقعًا أن يتم التوصل إلى حل خلال الأسابيع المقبلة. وأشار ويتكوف إلى أن إدارة ترامب تتابع عن كثب جميع المستجدات، وأن الرئيس الأمريكي الأسبق يشارك في اتخاذ جميع القرارات الرئيسية المتعلقة بالجهود الرامية لإنهاء الأزمة.
زيلينسكي يشكّل وفدًا لمفاوضات السلام
في إطار الجهود الرامية إلى إيجاد حل للأزمة، وافق الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، على تشكيل وفد رسمي لمواصلة التواصل مع الشركاء الدوليين من أجل دفع محادثات السلام إلى الأمام. ويأتي هذا التطور في وقت أعربت فيه موسكو عن استعدادها لوقف الأعمال القتالية لمدة 30 يومًا، بشرط أن يؤدي ذلك إلى تسوية دائمة للنزاع.
تواجه القوات الأوكرانية في كورسك وضعا عسكريا بالغ الصعوبة، إذ لم تعد تسيطر إلا على جزء محدود من الأراضي التي كانت بحوزتها سابقا، بعد أن فقدت معظم مواقعها لصالح الجيش الروسي. وتخوض هذه القوات قتالا عنيفا على أطراف الإقليم، وسط تفوق ناري روسي يمنعها من إعادة التمركز بسهولة أو الاحتفاظ بمعداتها الثقيلة.
أبدى الرئيس الروسي يوم الجمعة تفهمه لدعوة نظيره الأمريكي التي قال إنه تقدم بها “لإنقاذ أرواح” الجنود الأوكرانيين في منطقة كورسك، مشيرا إلى أنهم “إذا ألقوا أسلحتهم واستسلموا فسيتم ضمان حياتهم”، وقال بوتين -خلال اجتماع لمجلس الأمن الروسي- “بحثنا مقترح الرئيس الأمريكي ترامب لإنقاذ أرواح الجنود الأوكرانيين” المحاصرين في كورسك.
وأضاف “نلفت الانتباه إلى أن القوات الأوكرانية ارتكبت العديد من الجرائم بحق السكان المدنيين في المنطقة المحتلة، والتي تم تصنيفها على أنها إرهاب”، وتابع الرئيس الروسي “في الوقت نفسه، نتفهم دعوة ترامب إلى مراعاة الاعتبارات الإنسانية فيما يتعلق بهؤلاء الجنود”.
وأردف “إذا ألقوا أسلحتهم واستسلموا فسيتم ضمان حياتهم، وسيُعاملون بكرامة وفقا لمعايير القانون الدولي والقانون الروسي”. ودعا بوتين القيادة الأوكرانية إلى إصدار أمر لجنودها بإلقاء السلاح والاستسلام كأسرى حرب، لتنفيذ دعوة الرئيس الأمريكي بشكل فعال، وفق تعبيره.
يشار إلى أن الرئيس ترامب كان قد أكد أن آلاف الجنود الأوكرانيين محاصرون بالكامل من قبل الجيش الروسي، وأنهم في وضع هش للغاية وسيئ، بمنطقة كورسك الروسية. وفي غضون ذلك، تواصل الدول الغربية نهجها المتشدد تجاه موسكو، حيث أعلن رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، أن نحو 25 من قادة الدول الحليفة لأوكرانيا اتفقوا على تكثيف الضغوط الاقتصادية ضد روسيا، في خطوة تهدف إلى دفع الرئيس فلاديمير بوتين نحو طاولة المفاوضات لإبرام اتفاق لوقف إطلاق النار.
وخلال مؤتمر صحفي في لندن، عَقِب اجتماع افتراضي لحلفاء أوكرانيا يوم السبت، صرح ستارمر قائلًا: “لقد كان للعقوبات تأثير بالغ على الاقتصاد الروسي، ولا ينبغي التقليل من حجم الأضرار التي ألحقتها. ومع استمرار تشديد هذه العقوبات، سنتمكن من فرض مزيد من الضغط على موسكو لدفعها إلى اتخاذ قرارات مصيرية”.
كما أكد ستارمر أن الدول الغربية ماضية في حشد نفوذها السياسي والعسكري لدعم أوكرانيا في مرحلة ما بعد الحرب، موضحًا أن هذه الجهود دخلت حيز التنفيذ مع بدء العمل على وضع ضمانات أمنية لكييف. وأضاف أن القادة العسكريين للدول الحليفة سيعقدون اجتماعًا يوم الخميس المقبل لمناقشة الإجراءات اللازمة لتعزيز أمن أوكرانيا.
وفي حديثه عن الاستراتيجية الروسية في التعامل مع الأزمة، قال ستارمر: “يبدو أن بوتين يتبع أسلوب ’نعم، ولكن‘، في محاولة لشراء الوقت وتأخير التوصل إلى اتفاق حقيقي. لقد أصبح واضحًا أن روسيا تضع شروطًا إضافية مع كل مقترح يُقدَّم، مما يعيق أي تقدم ملموس نحو تحقيق السلام”.
وأشار رئيس الوزراء البريطاني إلى أن اجتماع السبت ناقش سبل تصعيد الضغوط الاقتصادية والدبلوماسية على روسيا، بالإضافة إلى إمكانية مصادرة الأصول الروسية المجمدة واستخدامها في تمويل المجهود الدفاعي الأوكراني. ومع ذلك، أوضح أن هذا الإجراء يواجه عقبات سياسية وقانونية، ما يستدعي مزيدًا من التشاور بين الدول الغربية قبل تنفيذه.
وفي ظل هذا المشهد المعقد، يبقى مستقبل العلاقات الأمريكية-الروسية مرهونًا بتطورات الساحة السياسية الدولية، ومدى استعداد الطرفين لتقديم تنازلات حقيقية في الملفات العالقة. فبينما تسير المحادثات قدمًا على أكثر من صعيد، فإن العقوبات المتبادلة والخلافات الجيوسياسية لا تزال تعيق التوصل إلى تسوية نهائية، مما يترك الباب مفتوحًا أمام جميع السيناريوهات الممكنة.