المشارقة كانوا يعرفون فرنسا ويجهلون الجزائر!.. رسالة العلاّمة “البشير الإبراهيمي” في المشرق العربي (الجزء الثاني)

“لست علاَّمة المغرب العربي ولكنني علاَمة المغرب العربي” وهنا أشار إلى عمامته الجزائرية التي على رأسه، كما أشار إلى القشّابِيّة التلمسانية التي كان يلبسها، ثم أضاف: “وأنا علَامةُ رفعٍ لا علاَمة خفضٍ”.. كان هذا تعقيب الشيخ “البشير الإبراهيمي” على مَن قدّمه إلى جمهور الحاضرين في “القاهرة” خلال إحدى المناسبات، قائلاً: “أقدّم إليكم علاّمة المغرب العربي محمد البشير الإبراهيمي”.

لم يكن الشيخ “الإبراهيمي” يعبأ بتلك الألقاب التي “يُولع بها إخواننا المشارقة ولعًا كبيرًا”، فقد كانوا يلقّبونه “بإمام المغرب العربي تارة، وبعلاّمة المغرب العربي تارة أخرى”، وذلك يرجع إلى “غزارة علمه، وبلاغة قلمه، وقوة حجّته، وفصاحة لسانه، ولباقته في الحديث إلى مستمعيه مهما كانت درجاتهم الثقافية والاجتماعية..”، وأيضًا للمكانة الرفيعة التي سرعان ما احتلّها في المجتمع وفي الأوساط الأدبية والعلمية والإعلاميّة، حيث “صار لا يُقام مؤتمر أو مهرجان أو اجتماع ذو أهميّة إلّا ويُدعى إليه إمّا محاضرًا أو خطيبًا، وإمّا للاسترشاد برأيه فيما يُعرض فيه من مسائل وموضوعات”.

أمّا الشيخ “الإبراهيمي” فقد كان شديد الاعتزاز بجزائريّته في مظهره وجوهره.. مُكرِّسًا وجود في المشرق العربي لخدمة رسالته التي جاء من أجلها وهي التّعريف بالقضيّة الجزائريّة وفتح الآفاق أمام الطلبة الجزائريين ليدرسوا في مختلف المعاهد والجامعات العربيّة وتكوين النّواة الأولى لـ “المثقفين” الجزائريين التي كان لها دورٌ كبير في ثورة التحرير الوطني وفي ثورة بناء الجزائر بعد الاستقلال.. وقد أثبت لنا الدكتور “رابح تركي” القوائم الأولى لأعضاء بعثات جمعية العلماء إلى: مصر، سوريا، العراق، الكويت.

فيما يلي، نواصل مع المقال الذي نشرته مجلة “الأصالة” الجزائرية في شهر ماي 1972، وأضاء فيه الدكتور “رابح تركي” جوانب من حياة الشيخ “الإبراهيمي” خلال فترة هجرته إلى المشرق. وتعيد جريدة “الأيام نيوز” نشر المقال لأنّ كاتبه تحدّث أيضًا عن تجربته الشخصية في المشرق، ومرافقته للشيخ “البشير الإبراهيمي” في بعض المناسبات، أو حضوره في فعاليات أقامها الشيخ للطلبة الجزائريين، لا سيما “ندوة الأصفياء” التي أسّسها الشيخ “الإبراهيمي” رفقة جماعة من كبار الأدباء والمفكّرين العرب..

الهجرة الثانية إلى المشرق

في الهجرة الثانية للشيخ “البشير الإبراهيمي” إلى المشرق العربي في عام 1952 واتّصاله بمختلف الهيئات والمنظمات والشخصيات العربية والإسلامية في: القاهرة، بغداد، دمشق، الكويت، الحجاز، تبدّل الوضع المذكور كثيرًا (انظر الجزء الأول من هذا المقال)، وقد ساعد على ذلك قيام الثورة المصرية في صيف عام 1952 – وأنا هنا لا أريد أن أغمط من نشاط بعض الجزائريين الذين سبقوا الشيخَ إلى المشرق العربي وكانوا مُعتَمدين من قِبل بعض المنظمات الوطنية الجزائرية من أجل التعريف بالقضية الجزائرية، فقد بذلوا جهودًا مشكورة في هذا الميدان – ولكنني أسجِّل ما شاهدته ولاحظته بنفسي في الفترة الممتدَّة من عام 1951 حتى قيام ثورة الفاتح نوفمبر 1954 بعدة سنوات.

نشاطٌ في الصحافة والإذاعة والمؤتمرات

نشط الشيخ البشير “الإبراهيمي” بعد قدومه إلى “القاهرة” في مارس 1952 مباشرة في الاتّصال بمختلف الهيئات والشخصيات، وكان لبعضهم سابق معرفة به قبل قدومه إلى الشرق.. كما نشط في عقد المؤتمرات الصحفية، وإلقاء المحاضرات العامة عن الجزائر وقضـايا كفاحها الوطني والقومي، وتسجيل الأحاديث الإذاعية في إذاعة “صوت العرب” بعد إنشائها عقب قيام الثورة المصرية في عام 1952، وفي كتابة المقالات في المجلاّت الفكرية المُعتبَرة مثل: مجلة “الرسالة” للأديب “أحمد حسن الزيات”، ومجلة “المسلمون” التي كان يرأس تحريرها الكاتب الإسلامي “سعيد رمضان”، وغيرهما من المجلاّت الأخرى في مصر وخارجها.

ولم تمض سنوات قلائل حتى أصبحت الجزائر العربية المسلمة على كل لسان في الأوساط الفكرية القياديّة، وصارت محلَّ عنايتهم واهتماماتهم، كما أصبحت من اهتمامات وسائل الإعلام المختلفة من صحافة وإذاعة وسينما وغيرها..

عومل نجاح “الإبراهيمي” في رسالته الوطنيّة

ولعلّ من العوامل الهامّة التي ساعدت الشيخ على النَّجاح في شرح القضية الجزائرية للرأي العام العربي والمسؤولين العرب في كل من: مصر، العراق، سوريا، الكويت، الحجاز وهي البلاد التي زارها قبل أن يستقرّ في القاهرة، يعود إلى: غزارة علمه، وبلاغة قلمه، وقوة حجّته، وفصاحة لسانه، ولباقته في الحديث إلى مستمعيه مهما كانت درجاتهم الثقافية والاجتماعية..

ولعلّ الأهمّ في هذا النجاح هو موهبته الخطابيّة الفذّة، فقد كان خطيبًا بارعًا كما هو معروف عنه في الجزائر، يهزُّ المنابر هزًّا، ويستولي على عقول وعواطف مستمعيه، ويقنعهم بسهولةٍ بعدالة القضية التي يدافع عنها وهي هنا قضية الشعب الجزائري، وقضية الشخصية العربية الإسلامية لهذا الشعب العربي المسلم، وحقه في النصرة على إخوانه العرب، ومكانة الجزائر في عالم العربية والإسلام كما كان يردِّد الشيخ في خطبه وأحاديثه.

وقد أصبح المثقفون بعد فترة وجيزة من مكوث الشيخ في المشرق، يلقبونه بإمام المغرب العربي تارة، وبعلاّمة المغرب العربي تارة أخرى، وكان هو لا يرتاح كثيرًا لهذه الألقاب التي يُولع بها إخواننا المشارقة ولعًا كبيرًا.

لستُ علاّمة.. أنا علاَمةٌ جزائريّة بالعَمامة والقشابيّة

وأذكر أنّه كان ذات مرّة مدعوًّا للخطابة في مهرجان كبير أقيم في مركز الشبّان المسلمين بالقاهرة عن القضية الجـزائرية. وقد قام بتقديمه إلى الحاضرين الدكتور “منصور فهمي”، فقال من جملة ما قال عند تقديمه: “أقدّم إليكم علاّمة – بالشدَّة – المغرب العربي محمد البشير الإبراهيمي”. ولمّا شرع الشيخ في إلقاء خطابه الذي أثار حماسًا كبيرًا في القاعة، وقابله الجمهور بالتّصفيق والهتاف بحياة الجزائر العربية المسلمة.. واصل الشيخ كلامه فقال: “لست علاَّمة المغرب العربي ولكنني علاَمة – بدون شّدة – المغرب العربي” وهنا أشار إلى عمامته الجزائرية التي على رأسه، كما أشار إلى القشّابِيّة التلمسانية التي كان يلبسها، ثم أضاف: “وأنا علَامةُ – بدون شّدة – رفعٍ لا علاَمةَ خفضٍ”، وهنا دوَّت القاعة من جديد بالتّصفيق الحادّ المتواصل.

ولم يمض وقت طويل حتى أصبح الشيخ يحتلّ مكانةً رفيعة في المجتمع، وصار لا يُقام مؤتمر أو مهرجان أو اجتماع ذو أهميّة إلّا ويُدعى إليه إمّا محاضرًا أو خطيبًا، وإمّا للاسترشاد برأيه فيما يُعرض فيه من مسائل وموضوعات.

تأسيس “ندوة الأصفياء” في العلم والأدب والفن

وقد أسّس بعد قدومه إلى الشرق بقليلٍ، مع جماعة من الأدباء والمفكرين العرب أمثال: أحمد حسن الزيات صاحب مجلة “الرسالة”، وكامل كيلاني الأديب المعروف، وعلي الحوماني الشاعر اللبناني المقيم بالقاهرة، ومفيد الشوباشي الكاتب والناقد، والحاج أمين الحسيني، والشيخ عبد اللطيف درّاز وكيل جامع الأزهر، والعقيد “عبد الله التل”، والدكتور علي عبد الواحد وافي، وغيرهم من رجالات الفكر والقلم ممّن لم نذكر أسماءهم ندوةً أدبية اجتماعية، فلسفية، دينية، أطلقوا عليها اسم “ندوة الأصفياء”، على غرار “جمعية إخوان الصفاء” المشهورة في تاريخ الفلسفة الإسلامية. وكانوا يعقدون اجتماعهم مرَّة كل أسبوع في منزل أحد أعضاء النّدوة بالليل، يطرحون فيه موضوعًا من الموضوعات التي تهمُّ الفكر الإسلامي أو قضايا ومشاكل الوطن العربي والعالم الإسلامي، فيُلقي فيه أحد أعضاء الندوة بحثًا مفصّلاً، ثم بعد انتهائه منه يتناوله الأعضاء بالمناقشة والتعليق العميقين، وقد تطول هذه المناقشات حتى منتصف الليل.

وقد تمكُّنتُ (رابح تركي) من حضور عدد من هذه النّدوات صُحبةَ الشيخ البشير الإبراهيمي، فوجدتها ملتقى فكريًّا رفيعًا للغاية، في شتّى مجالات الفكر، ولا غرابة في ذلك فأعضاؤها كلُّهم مِمّن لهم قدمٌ راسخة في مجالٍ من مجالات الثقافة أو العلم أو الأدب أو الفن.

وقد نشر الشاعر علي الحوماني، عضو النّدوة وسكرتيرها، كتابًا تحت عنوان “الأصفياء” جمع فيه عددًا من موضوعات الندوة ومن بينها موضوع للشيخ البشير الإبراهيمي بعنوان “مشكلة العروبة في الجزائر”. (كتاب “الأصفياء” نشرته دار مصر للطباعة القاهرة سنة 1955 في حوالي 500 صفحة).

البعثات العلميّة الجزائرية إلى الشرق العربي

لم يكن هذا النشاط السياسي والاجتماعي والثقافي الذي انغمس فيه الشيخ “البشير”، منذ وصوله إلى الشرق العربي، بصارفٍ له عن المهمّة الأساسية التي غادر الجزائر من أجلها ألَا وهي العمل على فتح أبواب معاهد التعليم المختلفة في وجه الشباب الجزائري المحروم من العلم والمعرفة باللغة القوميّة في بلاده. وقد كانت أول بعثة أرسلتها “جمعية العلماء” إلى معاهد الشرق العربي توجهت إلى القاهرة في نوفمبر 1951 قبل أن يسافر هو إليها في شهر مارس 1952. وضمَّت هذه البعثة 16 طالبًا في البداية، ثم ازداد عدد أفرادها بعد وصوله إلى القاهرة إلى 25 طالبًا وطالبةً واحدة.

أعضاء البعثة العلمية الأولى إلى مصر

هذه قائمة بأسماء أعضاء البعثة الأولى لجمعية العلماء المسلمين في معاهد مصر، وهم حسب تاريخ وصولهم إلى القاهرة: تركي رابح (كاتب هذا المقال)، سعدي عثمان، سعد الدين نويوات، البشير كعسيس، يحيى خليفة، حسن محفوف التارزي الشرفي، المدني بورزق، أرزقي صالحي، محمد شیوخ، المبروك بن سعد، عيسى بوضياف، المنور مروش، محمد کسوري، محمد الطاهر زعروري، أحمد الدخيلي، عبد الحميد بوذن، المدني حواس، محمد التواتي، رشيد نجار، محمد الهادي حمدادو، محي الدين عميمور، جمال الدين بغدادي، الخضر صالحي، زوجة الخضر صالحي. (القائمة نُشرت في صحيفة البصائر عدد 242، السنة السادسة، 13 مارس 1954).

تشير جريدة “الأيام نيوز” إلى أنَّ كتابة الأسماء ليست واضحة في مصدر هذا المقال وفي مصدر صحيفة “البصائر”، لذلك لجأنا – قدر المستطاع – إلى مصادر أخرى.. فوجب الاعتذار عن أيّ اسم كتبناه بشكل مغلوط.

بعثاتٌ أخرى إلى سوريا والعراق والكويت

كانت بعثات جمعية العلماء في البداية قاصرةً على مصر وحدها، حيث تمكَّنت جمعية العلماء بواسطة مكتبها في القاهرة من الحصول على عدد من المنح من الأزهر ووزارة المعارف المصرية لأبناء الجزائر خلال عام 1951 والأعوام التالية له. وبعد رحلة الشيخ “البشير” إلى الشرق العربي، تمكَن من الحصول على مِنح أخرى للطلبة الجزائريين في كل من: العراق، سوريا، الكويت، ثم بلدان أخرى بعد قيام الثورة الجزائرية سنة 1954.

وكان المركز الرئيسي، الذي يشرف منه الشيخ البشير الإبراهيمي على هذه البعثات ويصرف شؤونها، يوجد مقرّه في القاهرة، حيث يقيم هو (الشيخ) في معظم أوقات العام، ولكنه كان يعيِّن نائبًا عنه خارج مصر، من أبناء البلدان التي توجد فيها البعثة للإشراف على أفرادها من الناحية الأخلاقية والاجتماعية.. وكان بين وقت وآخر يقوم بزيارات: العراق، سوريا، الكويت، كي يتفقّد بنفسه أحوال أعضاء البعثات، ويتَّصل بالمسؤولين عن التربية والتعليم في البلدان التي يزورها بقصد الحصول على مِنح جديدة للطلبة الجزائريين الذين تُوفِدهم الجمعية إلى الشرق العربي من أجل الدراسة، ويغتنم زياراته لتفقُّد البعثات فيلقي على أعضائها المحاضرات التوجيهية والإرشادات العلمية والتربوية.. أمّا أعضاء بعثة الجمعية في القاهرة، فقد كان يجتمع بنا مرة كل أسبوع في مركز الجمعية الموجود بشارع شريف بالقاهرة.

أعضاء البعثة العلمية الأولى إلى العراق

هذه قائمة بأسماء أعضاء بعثة جمعية العلماء الأولى في العراق، ضمّت أحد عشر طالبًا هم: مسعود محمد العباسي، المولود شرحبيل، رابح منصر، دودو أبو العيد، زروق موساوي، بشير كاشا، عبد المجيد بوذراع، جمعي المشري، الأخضر بوطمين، عبد العزيز خليفة، عبد القادر قريصات. (القائمة نُشرت في صحيفة “البصائر” عدد 262 السنة السادسة، 12 مارس 1954).

أعضاء البعثة العلمية الأولى إلى سوريا

أعضاء بعثة جمعية العلماء الأولى إلى سوريا: ضمت هذه البعثة عشرة طلاب هم: بلقاسم النعيمي، عبد السلام العربي، علي الرياحي، عبد الرحمن شطيطح، العربي طرقان – مرتضى يقاش، عبد الرحمن زناقي، حنفي بن عيسى، محمد خمار، ابن عبد الله ولد عوالي.

أعضاء البعثة العلمية الأولى إلى الكويت

أعضاء بعثة جمعية العلماء الأولى إلى الكويت: ضمّت هذه البعثة أربعة عشر طالبًا هم: محمد شریف سیسبان، صديق قشي، الجيلاني حماني، خربیط محمد ناصري، عبد الرحمن الأزعر، أيوب الربيعي، حسن ونوس، الهاشمي قدوري، صالح تلايلية، الأخضر إدريس، محمد الصالح باوية، محمد العمري، محمد الشريف جواد، عبد العزيز سعد.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا