المشارقة كانوا يعرفون فرنسا ويجهلون الجزائر!.. رسالة العلاّمة “البشير الإبراهيمي” في المشرق العربي (الجزء الأول)

إلى نهايات النِّصف الأول من القرن العشرين، كانت شعوب المشرق العربي تجهل “إلى حدٍّ يكاد أن يكون شاملاً لكل شيء في الجزائر”، وما عمّق هذا الجهل هي “النّخبةُ” المثقّفةُ التي نشرت صورًا مغلوطة ومُشوَّهة عن “بلاد العلم والجهاد”، مثلما فعل أمير الشعراء “أحمد شوقي” عندما عاد إلى وطنه بعد زيارته للجزائر في أواخر القرن التاسع عشر، حيث قال: “لا عيب فيها (الجزائر) سوى أنها مُسِخت مسخًا، فقد عهدتُ مسَّاح الأحذية يستنكف النطقَ بالعربية وإذا خاطبته بها لا يجيبك إلّا بالفرنسية…”.

مقولة “شوقي” تكشف منطق واحدٍ من أكبر المثقفين المؤثّرين في الأمة العربية.. هذا المنطق الذي حكم على شعبٍ بأكمله من خلال الحُكم على طفلٍ واحدٍ منه. كما تكشف عن مدى الوعي بمسؤوليّة الكلمة وتأثيرها في الشعوب لدى “أعظم” أنموذج في عصره لروّاد الإبداع والفكر والكتابة.. ولن نسيئ الظنَّ ونزعم بأنَّ مقولة “أمير الشعراء” لم تكن مجرّد كلمات بل كانت موقفًا له أبعاده وغاياته من الجزائر وشعبها…!

بعد أربعة عقود من الزّمان، ردَّ الإمام “عبد الحميد بن باديس” على ذلك الكلام، في مناسبة تأبين “شوقي” والشاعر “حافظ إبراهيم”، حيث قال: “… أمّا شوقي فقد قدِّر له أن يزور الجزائر في شبابه، وينزل بعاصمتنا أربعين يومًا للاستشفاء، ويقول عنها: ولا عيب فيها سوى أنّها قد مُسخت مسخًا، فقد عهدتُ مسّاح الأحذية فيها يستنكف النُّطقَ بالعربية وإذا خاطبته بها لا يجيبك إلّا بالفرنسية.. فاعجبوا لاستدلالٍ على حالة أمّة بمسّاح الأحذية منها، ولا يجملُ بي أن أزيد في موقفي هنا على هذا إلّا أنّ فقيدنا العزيز لو رأى من عالم الغيب حفلنا هذا لكان له في الجزائر رأي آخر، ولَعلِم أنَّ الأمّة التي صبغها الإسلام وهو صبغة الله، وأنجبتها العرب وهي أمّة التاريخ، وأنبتتها الجزائر وهي العاتية على الرومان والفاندال، لا تستطيع ولن تستطيع أن تمسخها الأيام، ونوائب الأيّام”.

وقد كان للشيخ العلاّمة “البشير الإبراهيمي” دورٌ فعّال في تصحيح تلك النظرة المغلوطة، والتعريف بالجزائر وقضيّتها، وذلك خلال هجرته إلى المشرق. وفي هذا المقال الذي نشرته مجلة “الأصالة” الجزائرية في شهر ماي 1972، يضيء الدكتور “رابح تركي” جوانب حول جهود الشيخ “الإبراهيمي” خلال فترة هجرته إلى المشرق. وتعيد جريدة “الأيام نيوز” نشر المقال لأنّ كاتبه يتحدّث أيضًا عن تجربته الشخصية في المشرق وجهل الناس هناك بالجزائر من النوّاحي الجغرافية والتاريخية، وغيابها أو تغييبها من كُتبهم المدرسية.. رغم إلمامهم بتاريخ فرنسا والثورة الفرنسيّة. وفيما يلي نقدّم للقارئ مقال الدكتور “رابح تركي”..

يموت العظماء وتبقى آثارهم خالدة

“يموت العظماء فلا يندثر منهم إلّا العنصر التّرابي الذي يرجع إلى أصله، وتبقى معانيهم الحيّة في الأرض، قوة تحرك، ورابطة تجمع، ونورًا يهدي، وعطرًا يُنعش، وهذا هو معنى العظمة. وهذا هو معنى كون العظمة خلودًا، فإنَّ كل ما يخلّف العظماء من ميراث هو أعمال يحتذيها مَن بعدهم، وأفكار يهتدون بها في الحياة، وآثار مشهودة ينتفعون بها، وأمجاد يعتزون بها ويفخرون، والاعتزاز والفخر من الأغذية الروحية الحافظة لبقاء الجماعات” (نص من مقالة نشرها الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في جريدة “البصائر” عدد 151، سنة 1951).

الهجرة الأولى إلى المدينة المنوّرة

هناك جانب هامٌّ من حياة المرحوم الشيخ “البشير الإبراهيمي” لم يتناوله الكتاب والباحثون بالبحث والدراسة حتى الآن، وأعني به الفترة التي قضاها في الشرق العربي، سواء فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى (1911 – 1920) أو فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية (1952 – 1962)، وسأتحدّث في هذه الكلمة المختصرة عن هذا الجانب من حياة الفقيد العامرة بجلائل الأعمال.

وإذا كانت دوافع وأسباب الرحلة الأولى من الجزائر إلى الشرق العربي هي – كما ذكرها الشيخ البشير بنفسه – من أجل الالتحاق بوالده الذي سبقه إلى الهجرة إلى المدينة المنورة في عام 1908. (نشر الشيخ البشير الإبراهيمي مقالاً في مجلة مجمع اللغة العربية في القاهرة سنة 1966، حول دوافع واسباب هجرته إلى المدينة المنوّرة في سنة 1911).

أهداف الهجرة الثانيّة إلى المشرق العربي

ثم من أجل الاستزادة من الدراسة والتّحصيل العلمي على عادة علماء المسلمين فى تاريخ التربية الإسلامية من اعتبار الهجرة فى سبيل العلم والاتصال بكبار المشائخ والعلماء المبرزين، والأخذ عنهم، والتتلمذ عليهم، من شروط الكمال فى العالم المتمكِّن.. من التقاليد العلمية الإسلامية الصحيحة – إذا كانت هذه هي باختصار دوافع وأسباب الرحلة الأولى – فإنَّ دوافع وأسباب الرحلة الثانية تختلف اختلافًا كليًّا عن ذلك. فقد كانت الرحلة الأخيرة تهدف إلى تحقيق أمور أخرى هي:

  • العمل على إرسال بعثات علميّة من الشباب الجزائري إلى الشرق العربي بغرض الدراسة في مختلف مدارسه، ومعاهده، وجامعاته.
  • طلب المساعدة الماديّة لجمعية العلماء من الأشقّاء العرب والمسلمين كي تستطيع مواصلة رسالتها فى ميدان نشر التعليم العربي والمحافظة على الشخصية العربية الإسلامية للشعب الجزائري التي تواجه محاولات كبيرة لهدمها من طرف الاستعمار الفرنسي ورجال التَّبشير المسيحي المتعاونين معه. يقول الشيخ “البشير الإبراهيمي” شارحًا بواعثه على هذه الرحلة: “وفي عام 1951 رحلتُ إلى الشرق بتكليف من جمعيتي (يقصد جمعية العلماء) وكان الباعث على هذه المرحلة أمران:

الأول: السعي لدى الحكومات العربية لتقبل لنا بعثات من أبناء الجزائر.

الثاني: مخاطبة حكومات العرب والمسلمين في إعانتنا ماليًّا حتى تستطيع الجمعية أن تواصل أعمالها بقوة لأنَّ الميدان اتّسع أمامها، والشعب الجزائري محدود القوة الماليَّة، فإذا لم يعنَّا إخواننا فربّما تنتكس حركتنا. وهذا ما ينتظره الاستعمار لنا”.

الدّعاية للقضية الجزائرية..

هذه هي الأسباب التي ذكرها الشيخ “البشير الإبراهيمي”، ويمكننا نحن أن نضيف إلى الأمرين السابقين أمرًا ثالثًا لم يتناوله في النصّ المذكور، مع أنّه لا يقل أهمية عنهما، ألَا وهو الدّعاية للقضية الجزائرية، وشرح ظروف الكفاح الجزائري إلى قادة الحكومات العربية والإسلامية التي زارها، وتعريف الرأي العام العربي والإسلامي بمختلف جوانب كفاح الشعب الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي، وما يقاسيه من عدوان صارخ على مقدّساته الإسلامية ولغته العربية وكرامته وسيادته الوطنية.

وقد نجح الشيخ “البشير الإبراهيمي” نجاحًا كبيرًا في هذه النقطة الأخيرة.. شاهدنا نحن كما شاهد جميع الجزائريين الذين زاروا المشرق العربي أو عاشوا فيه بعض الوقت قبل سفر الشيخ “البشير” وبعده، آثار ونتائج هذا النجاح لدى الرأي العام العربي الذي أصبح ملِمًّا إلمامًا كافيا بجوانب الكفاح الجزائري العادل في مختلف مراحله.

ولكي يعرف القارىء جهود الشيخ “البشير الإبراهيمي” في التَّعريف بالقضية الجزائرية خلال عام 1951 والأعوام التالية له حتى قيام ثورة الفاتح من نوفمبر 1954 بعدة سنوات، ينبغي أن نذكر له نبذة عن ضآلة إلمام إخواننا المشارقة بقضايا وكفاح أبناء المغرب العربي بصفة عامة والجزائريين منهم بصفة خاصة.

تغييب الجزائر من كُتب التاريخ المشرقيّة!

لقد صدمتُ أنا صدمة عنيفة عندما وصلتُ إلى القاهرة في نوفمبر 1951 بقلّة معلومات الناس عن الجزائر إلى حدٍّ يكاد أن يكون شاملاً لكل شيء في الجزائر، فقد كنّا نُسأل مثلاً: هل الجزائر في جنوب الجزيرة العربية؟ أو في إندونيسيا؟ أو في الحجاز؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي كانت تدلُّ على قلَّة إلمام فادح بالمبادئ الأولية الجغرافية، مع أنَّنا نحن كنّا نعرفُ عن إخواننا في البلاد العربية قبل أن نسافر إليها الشيء الكثير عن شخصياتهم، ومنظّماتهم، وهياتهم العلمية والأدبية والسياسية..

وقد دفعني الفضول إلى الاطّلاع على كتب التاريخ والجغرافيا التي كانت تُدرَّس حتى بداية الخمسينيات في المدارس المصرية والبلدان العربية الأخرى التي أمكنني الاطلاع عليها – فى المرحلة الثانوية من التعليم – حتى أعرف أسباب عدم الإلمام البادي حتى على المتعلِّمين في الجامعات فيما يتَّصل بقضايا وظروف أقطار المغرب العربي، فوجدت الحديث مثلاً عن أقطار المغرب العربي وخاصة الجزائر لا يتعدى بضعة أسطر في كتب التاريخ، وأقلّ من ذلك في كتب الجغرافيا التي تصف الجزائر بأنّها مستعمرة فرنسية دينها الإسلام، وقد ألحقتها فرنسا بها، ولا تكاد تزيد عن ذلك شيئًا آخر.

يعرفون الثورة الفرنسية ويجهلون القضية الجزائرية!

هذا بينما تتناول كتب التاريخ المذكورة “الثورة الفرنسية” بتفصيل وافٍ، وهي – الثورة الفرنسية – تحتلّ في كتب التاريخ للمدارس العربية الثانوية مكان الصّدارة، كما تدرّس جغرافية فرنسا السياسية وأقاليمها دراسة وافية في كتب الجغرافيا. ولم يتغيّر هذا الوضع إلّا بعد قيام الثورة المصرية فى 23 يوليو (جويلية) 1952 ببضع سنوات، حيث أصبح التركيز في مادة التاريخ في المرحلة الثانوية على التاريخ العربي لجميع أقطار الأمّة العربية، كما تحوَّل التركيز في كتب الجغرافيا على دراسة البلدان العربية ومن بينها أقطار المغرب العربي دراسة تفصيليّة متعمقة.

الدّعاية الفرنسية ضلّلت الرأي العام العربي

والواقع أنَّ الدعاية الفرنسية في المشرق العربي قبل الخمسينيات قد نجحت في تضليل الرأي العام العربي إلى حدٍّ كبير فيما يتصل بأقطار المغرب العربي وبالخصوص الجزائر التي حاولت (الدّعاية) إقناع الناس بأنّها قد أصبحت جزءًا لا يتجزّأ من بلادها، وقد كان بعض المثقفين ينخدع بهذا الزّعم ببساطة، ويبدو هذا في مؤلَّفاتهم التي تتناول الجزائر.

حادثة عن ضلال أستاذ جامعيّ

وأذكر حادثة طريفة حصلت لي مع أحد الأساتذة الكبار الذين كنّا ندرس عليهم في الجامعة – وعلى فكرة هذا الأستاذ كان في درّس، بعد الاستقلال، مادة الأدب العربي الحديث في إحدى الجامعات الجزائرية – وكنَّا في رحلة علمية لزيارة الآثار الفرعونية الموجودة في الأقصر وأسوان، وكان هو مشرفًا على الرّحلة وذلك خلال العام الدراسي (1953 – 1954).

وكان يعقد لنا مناقشات علمية وأدبية في أوقات فراغنا من الرحلة، وقد جاء في إحدى المرات ذِكر الجزائر، فقال عنها ما معناه: “إنَّ الجزائر انتهت لقد أصبحت فرنسية، وقد نجحت فرنسا في فرنستها”، ولمّا تدخّلتُ فى المناقشة لمحاولة تصحيح معلوماته! ردَّ على مستشهدًا بواقعة حصلت له أثناء زياراته إلى فرنسا قبل الحرب العالمية الثانية حيث كان يدرس فى بريطانيا، مُلخَّصها: أنّه التقى بأحد الجزائريين، المجنَّدين في الجيش الفرنسي، في القطار ودارت بينهما مناقشة كان هو يتحدّث فيها باللغة العربية، وكان المجنّد الجزائري يردَّ عليه باللغة الفرنسية.. وقد قاده الاستنتاج من هذه الواقعة الفرديّة إلى الحكم على الشعب الجزائري برمّته بأنّه نسي لغته وعروبته وأصبح فرنسيا. وقد أجبته بأنَّ الحُكم على شعب كامل من خلال تصرّفات أو سلوك فرد واحد أو حتى مجموعة أفراد من أبنائه هو حكم بعيد عن الحقيقة والواقع بُعد السماء عن الأرض. ولكنه لم يقتنع بكلامي، ولا شكَّ أنّه قد غيّر حكمه عن الجزائر بعد زيارته لها واشتغاله بالتّدريس في إحدى جامعاتها التي أنشأتها الثورة بعد الاستقلال، في موطن رائد النهضة الجزائرية الحديثة “الإمام ابن باديس”.

الشاعر أحمد شوقي يطعن في عروبة الجزائر

وقد ذكرتني هذه الواقعة من أستاذنا الفاضل بواقعة أخرى تشبهها تمام الشَّبه، سجَّلها إمام النهضة الجزائرية الحديثة المرحوم “الشيخ عبد الحميد بن باديس” في مجلة “الشهاب” عام 1934، عن الشاعر “أحمد شوقي” الذي زار الجزائر العاصمة في أواخر القرن التاسع عشر، عندما كان يدرس الحقوق في إحدى الجامعات الفرنسية، للاستشفاء من المرض، ومكث بها أربعين يومًا. وعندما غادرها قال عنها: “لا عيب فيها سوى أنها مُسِخت مسخًا، فقد عهدتُ مسَّاح الأحذية يستنكف النطقَ بالعربية وإذا خاطبته بها لا يجيبك إلّا بالفرنسية”. وقد تألّم “ابن باديس” ألمًا شديدًا لزعم “شوقي” هذا، حيث حكم من خلال تصرّفات فرد واحد على عروبة وقوميّة شعب كامل حكمًا متسرِّعًا بعيدًا عن الحقيقة والواقع.

الإمام “ابن باديس” يردُّ على طريقة العظماء

وقد سجَّل “ابن باديس” ألمه هذا في خطبة له بمناسبة الاحتفال بتأبين الشاعرين: شوقي وحافظ إبراهيم، في نادي الترقّي في شهر فيفري 1934، قال “ابن باديس”: “… أمّا شوقي فقد قدِّر له أن يزور الجزائر في شبابه، وينزل بعاصمتنا أربعين يومًا للاستشفاء، ويقول عنها: ولا عيب فيها سوى أنّها قد مُسخت مسخًا، فقد عهدتُ مسّاح الأحذية فيها يستنكف النُّطقَ بالعربية وإذا خاطبته بها لا يجيبك إلّا بالفرنسية”، يضيف الشيخ “باديس”: “فاعجبوا لاستدلالٍ على حالة أمّة بمسّاح الأحذية منها، ولا يجمل بي أن أزيد في موقفي هنا على هذا إلّا أنّ فقيدنا العزيز لو رأى من عالم الغيب حفلنا هذا لكان له في الجزائر رأى آخر، ولَعلِم أنَّ الأمّة التي صبغها الإسلام وهو صبغة الله، وأنجبتها العرب وهي أمّة التاريخ، وأنبتتها الجزائر، وهي العاتية على الرومان والفاندال، لا تستطيع ولن تستطيع أن تمسخها الأيام، ونوائب الأيّام”.

أسئلة ساذجة..

وكنّا فوق هذا نُسأل هل عندكم مدارس؟ هل عندكم ترامواي؟ هل عندكم طُرق؟ إلى غير ذلك من الأسئلة الساذجة التي تدلَّ على قلة الإلمام بالمعارف الأوليّة عن الجزائر. هذه هي حالة الجزائر في المشرق العربي قبل عام 1952 فما هو حالها بعد ذلك؟

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا