استيقظتُ على نعيق الغراب يتسلّل إلى شرفتي، وكأنّه يحاول أن يُذكّرني بأحزان لم أنسَها. كنتُ مُنهكة رغم ساعات النوم الطويلة، كأنّ التعب صار جزءًا من روحي لا من جسدي. فتحتُ خزانتي، وأخرجتُ معطفي الأسود، المطرَّز بخيوط الخيبات وفقدان الشغف. نفضتُ عنه غبار الأمل الذي نسجته أمي ذات يوم، وشكّلته بوشاحٍ كنتُ ألفّه حول عنقي كلما قست عليّ الحياة.
خرجتُ من منزلي، ضغطتُ زر المصعد، فظهر لي رقم الطابق الأول… يا له من سوء حظ! ذلك المصعد اللعين، الذي طالما خشيتُ أن يتوقّف بي في لحظة انقطاع التيار. ورغم خوفي، انتظرتُه حتى وصل، وصعدتُ مُتوجِّسة. وما إن أُغلِق الباب، حتى غرقنا في العتمة.. انقطع التيار الكهربائي، تمامًا كما كنتُ أخشى.
أخرجت هاتفي، أشعلت ظلمة المكان، فوقع بصري على فتاةٍ كانت بجانبي. فتاةٌ أعرفها جيّدًا، بل إنها غاليةٌ على قلبي. بالكاد تعرّفتُ إليها وهي في هذا الحال، منهكةٌ، متعبة، أنفاسُها متقطّعة، ودوائر الظلام تحت عينيها تحكي عن ليالٍ طويلة من السهر أو البكاء. كانت ابتسامتها منطفئة، وكأن الحياة سلبتها آخر ما تبقّى من وهجها.
أشفقتُ عليها للحظة، لكنّ الغضب سبق شفقتي، لم أستطع إلا أن أعاتبها. صرختُ بها بكلّ ما أوتيتُ من قوّة: “لماذا؟ لماذا تفعلين بي كل هذا؟ ما هو ذنبي؟ أين تلك القويّة التي لا يهزمها شيء؟ أين ابتسامة الأمل الدائم؟ أين العيون الجميلة التي كانت تشعّ بالحياة؟ ماذا حلّ بها؟!”
وفي لحظة إدراك، وقفتُ مذهولةً… كانت هذه أوّل مرّة أنظر فيها إلى المرآة منذ شهور.
عاد التيار الكهربائي، وعاد المصعد إلى نقطة البداية، لكنني لم أُكمل طريقي. عدتُ إلى منزلي، نزعتُ معطف اليأس، فتحتُ النوافذ، وطردتُ الغراب الذي كان جاثمًا على شرفتي. فتحتُ الستائر، ورششتُ في أرجاء الغرفة عطر الأمل، ثم التفتُّ إلى زهرة التوليب الذابلة بجانبي، وقلتُ في نفسي: “حان وقت العودة من جديد”.