المُستعرب الروسي “أغناتي كراتشوفسكي”.. أربعون عاما مع المخطوطات العربية (الجزء الأول)

ارتبط الاستشراق بالنّزعة الاستعمارية للدول العربية، بينما الاستعراب هو دراسة آداب العرب ولغتهم وتاريخهم وعلومهم لغايات معرفيّة. وينسب إلى الباحث “أغناطيوس كراتشوفسكي” – أو أغناتي – إنتاج مصطلح “الاستعراب”. ويقول “أغناتي” بأنَّ “الاستعراب الروسي” انطلق في بداية القرن التاسع عشر، في عام 1804 “عندما صدر مرسوم بإدخال تدريس اللغات الشرقية في المناهج التدريسية. واللغات الشرقية، بالنسبة للروس يومها، كانت لغات الشرق الإسلامي، واللغة العربية في مقدمتها، بطبيعة الحال، كونها لغة القرآن الكريم”.

أثرى “أغناتي كراتشوفسكي” المكتبة الروسيّة، على امتداد حوالي نصف قرن، بأكثر 450 كتابًا منها “أول دراسة في العلم العالمي للأدب العربي الحديث وعدد كبير من المقالات حول إبداع شعراء الجاهلية والقرون الوسطى”، وتُرجم بعضها إلى اللغة العربيّة. وقد كان الكُتّاب الجزائريون مسايرين للحركة الفكرية والثقافية في العالم، وينقلون إلى مجتمع القراءة الجزائري كل ما يجري في دنيا الأفكار.. ومن ذلك، قيام “المهدي البوعبدلي”، الذي كان عضو المجلس الإسلامي الجزائري، بنشر مقالة حول المُستعرب الرّوسي “أغناتي كراتشوفسكي”، بمجلة “الأصالة الجزائرية” في شهر جانفي 1973.

تُعيد جريدة “الأيام نيوز” بإعادة نشر هذه المقالة، يتعرّف القارئ على هذا المُستعرب الرّوسي الذي تعلّم العربيّة وعاش بين العرب في مُدنٍ عربيّة كثيرة، حيث كان مُولعًا بالجلوس في المقاهي الشعبيّة وارتياد الأسواق ومعايشة النّاس في تفاصيل حياتهم اليوميّة.. وقدّم خدمات جليلة في مجالٍ معرفيٍّ أطلق عليه “الاستعراب” بدلاً من الاستشراق بنزعاته الاستعماريّة وغاياته التي وضعا العلم في خدمة الهيمنة.

مُستعرِبٌ روسي اسمه كراتشوفسكي

نشرت المجلة “المدار”، التي تصدرها وكالة أنباء نوفوستي السوفييتية في عددها الأول المؤرخ: يناير/ جانفي 1972، مقالاً عنوانه “الاستعراب في الاتحاد السوفييتي” بقلم “ع. شوباتوف” الدكتور في الفلسفة، قال فيه: “الاستعراب السوفياتي اليوم علم كبير متعدّد الجوانب، وهو يبحث عن تاريخ العرب القديم والحديث، ولغتهم وآدابهم الكلاسيكي والحديث، وفلسفتهم واقتصادهم… وقد أدّى الأكاديمي “كراتشوفسكي” أمام المستعربين السوفيات خدمات جليلة في ميادين دراسة الأدب العربي، ووضع في مدة 45 عامًا من النشاط العلمي أكثر من 450 مؤلَّفًا، ومن أعماله أول دراسة في العلم العالمي للأدب العربي الحديث وعدد كبير من المقالات حول إبداع شعراء الجاهلية والقرون الوسطى”.

مع المخطوطات العربية..

كان أهمَّ ما ألَّفه المستشرق (المُستعرِب) المذكور هو كتابه “مع المخطوطات العربية” وهو شبه مذكِّرات تحدَّث فيها عن المدّة التي اشتغل فيها بدراسة اللغة العربية، وزار المشرق ومعاهده ومكتباته التي اكتشف فيها نوادر المخطوطات التي نقد معظمها بأسلوبه السّاحر الجذّاب. وبمجرد ظهور الكِتاب اعتنى به كثير من الكُتّاب ونقدوه ثم ترجموه إلى عدة لغات. وكان من جملة من نقد الكتاب وترجمه إلى الفرنسية ونشر دراسته القيّمة فى “المجلة الإفريقية”، الأستاذ سابقًا بكلية الآداب بالجزائر، “کانار”، قال: (کتاب أربعين سنة مع المخطوطات العربية)، أو (مذكرات مُستعرِب)، هما العنوانان اللذان أخترتهما للكتاب القيِّم الذي ألفه كراتشوفسكي عضو المجمع العلمي بالاتحاد السوفييتي وأستاذ اللغة العربية بجامعة لينينغراد، ذلك الكتاب الذي ألَّفه خلال مدّة الحرب العالمية الثانية نال نجاحًا كبيرًا في روسيا، ذلك النجاح الذي جعل مؤلِّفه يُتبِع طبعته الأولى التي ظهرت سنة 1945، بطبعة ثانية ظهرت سنة 1946… يعرف المستشرقون إنتاج كراتشوفسكي، حيث أنَّ الكثير منها نُشر أو ترجم إلى اللغات الغربية، ويعرفون أيضًا مكانة المؤلِّف في أوساط الاستشراق. أمّا عامَّة القراء فإنّ معرفتهم له ضئيلة، ولهذا فإنَّ كثيرًا ما أفاجئ أصدقاء بالجزائر ومنهم الروسيون، عندما أقول لهم أنَّ روسيا يمكن لها أن تفتخر بوجود أعظم مستشرق – مستعرب – في العالم أجمع ببلادها، وهذا هو رأي الاختصاصيين في ميدان الاستشراق.

قال “کانار”: “إنَّ مذكِّراته التي أتممتُ ترجمتها إلى الفرنسية والتي أنوي نشرها قريبًا ستعرِّفه لا محالة في محيط أوسع، وتعرف فيه – زيادة على العالم الاختصاصي – العالم الإنساني الذي لا يخلو عمله في الميدان العلمي من حيويَّة مقرونة بعمق في التفكير، يفتح الآفاق الواسعة في تاريخ التمدَّن”.

“فيرا” تترجم كتاب زوجها إلى العربية

تُرجم كتاب “مع المخطوطات العربية” أو “المذكرات” (كما سمّاها كانار) إلى عدة لغات، منها العربية: فقد ظهرت سلسلة فصول منه في مجلة الرسالة” المصرية سنة 1946، ثم ظهرت ترجمة عربية مستقلة سنة 1963 تُرجِمت من الأصل الروسي مباشرة، قامت بها زوجة “كراتشوفسكي”، العالِمة الجامعية “فيرا كراتشوفسكي” بإعانة بعض مواطنيها، وقدَّمت لها مقدّمة هامّة، وسمَّت التَّأليف “مع المخطوطات العربية”، عرَّفت في هذا التّقديم بزوجها، واهتمامه المبكر بالاستشراق ورحلته في شبابه إلى البلاد العربية الشرقية، وذلك بين سنوات 1908 و1911، زار خلالها لبنان وسورية وفلسطين ومصر.. فتعرَّف ببعض الأدباء المشهورين آنذاك، مثل: أمين الريحاني، جرجي زيدان، أحمد تيمور، محمد كرد على، ميخائيل نعيمة.. وكان يتبادل معهم الرسائل حتى إنَّ كثيرًا من الكُتَّاب التجأوا إلى تلك الرسائل ليستعينوا بها على تراجم بعضهم، من ذلك الرسائل المتبادلة بينه وبين الأديب الشهير “ميخائيل نعيمة”، ونشرها كراتشوفسكي تحت عنوان “ميخائيل نعيمة يحكى قصة حياته”.

لم يكتف كراتشوفسكي، طيلة مدة أقامته بالدّيار الشرقية، بالتردُّد على المعاهد العلمية وخزائن الكتب ومخالطة الأدباء والعلماء، بل كان يقضى أوقاتًا طويلة في الأسواق والمقاهي ومجالس القُصّاص والزجّالين.. حتى أمكنه أن يجيد اللغة الدَّارجة بمختلف لهجاتها، كما كان يتقن الفصحى.

الكتابة رغم الحرب والمرض

ثم ذكرَت أرملة الكاتب أنَّ زوجها ألَّف كتابه أيام الحرب العالمية الثانية، إذ شرع فيه بالضبط سنة 1941 في “لينينغراد” عندما كان محافظًا على القسم العربي من مخطوطات “المتحف الآسيوي”، قبل نشوب الحرب (الألمانية – الروسية). وبعد اندلاع الحرب انتقل الكاتب إلى ضواحي “موسكو” إثر مرض عضال أصيب به وقت حصار “لينينغراد”، ورغم أنّه كان يعالج في بعض المصحّات فقد واصل بها إتمام تأليفه، وأبى الله إلّا أن يتأخّر إتمامه إلى سنة 1945 في “لينينغراد” نفسها بعد ردّ هجومات العدو والنصر النهائي.

كراتشوفسكي.. عضوٌ في المجمع العلمي العربي بدمشق

كان ابتداء دراسة كراتشوفسكي للغة العربية سنة 1901، فالتحق بكلية اللغات الشرقية بجامعة “بطرسبورغ” (لينينغراد)، ثم واصل تعليمه إلى أن رحل إلى المشرق كما ذكرنا. وبعد رجوعه من رحلته الشرقية إلى بلاده، عُيّن عضوًا في أكاديمية العلوم السوفييتية سنة 1921، ثم انُتخب سنة 1923 عضوًا في المجمع العلمي العربي بدمشق، كما عُيّن عضوًا في مختلف الأكاديميات والجمعيات العلمية في جُملة بلدان أخرى.

ستّمائة دراسة علميّة معظمها في تاريخ الآداب العربية

ثم ذكرت زوجته أنّ مجموع ما كتبه ستمائة دراسة علميّة معظمها في تاريخ الآداب العربية القديمة والحديثة، وتذكر أنّه عندما حاصر المحور مدينة “لينينغراد” في الحرب العالمية الثانية وكان كراتشوفسكي محافظًا لقسم المخطوطات العربية بالمتحف الآسيوي، وكان بصدد كتابة تأليفه، بذل جهودًا جبّارة فى صيانة تلك الذّخيرة وأنقذها بالفعل (مجموعة المخطوطات)، فقدَّرت الحكومة السوفياتية صنيعه هذا ومنحته بعد الانتصار أعلى وسام سوفييتي (وسام لينين)، كما عزَّزت له ذلك سنة 1945 بوسام ثانٍ تقديرًا لمآثره العلمية.

طبع هذا الكتاب خمس مرّات باللغة الروسية، ونفذت هذه الطّبعات بسرعة، ثم تُرجم إلى الألمانية سنة 1949 وإلى البولندية 1952 والإنجليزية 1953 والفرنسية 1954. وقد علمنا أنَّ “كانار”، أستاذ جامعة الجزائر، ذكر أنّه ترجمه سنة 1946.

علم اللغات والآداب الشرقية

ثم تذكر الزوجة ما قاله المُترجِم في مقدِّمته للتأليف، والذي يمكننا أن نعتبره تلخيصًا لدواعي تأليفه، قال: “إنّني لم أتعمَّد في هذا الكتاب السعيَ إلى تبسيط العلم، فليس يهمُّني ألّا يتذكَّر القارىء جميع ما ورد فيه من الوقائع المنفردة أو أسماء الأعلام، ولكني اقتصرت في تحديد مادة الكتاب على المواد القريبة من محيط عالمي، وأكتب عن أشياء متعدّدة أخرى بطريقة تختلف عن ذي قبل، ولهذا فقد يجد القارىء من حين إلى آخر، في هذا الكتاب، أشياء جديدة ومفيدة للعلم، على أنَّ هذا ليس ما يهمُّني من الأمر، وإنَّما الذي يهمُّني هو شيء آخر، إنّني لا أخفي أنّني أردت أن أقوم بشيء من الدّعاية لميدان عملي، وأن أتحدّث بملء صوتي عن علم اللغات والآداب الشرقية، لقد أردت أن أبيّن قدر طاقتي كيف أنَّ ثمة أُناسًا يعملون في هذا الميدان لمجرد أنَّ لديهم ذوقًا ذاتيًّا غريبًا على حدّ ظن بعضهم، يجتذبهم إلى هذا العمل، وأنَّ هؤلاء الناس يطوفون بهذا الميدان، لا بدافع الولع بالغرائب، وإنّهم ليسوا بزُهّاد ينعزلون عن الحياة.

إنَّ ذكريات مشاعري نحو المخطوطات تحتِّم على أن أتكلّم عن كل نقطة تفصيليّة فيها، لانّها تتكامل فيما بينها، وترتبط بمسائل ضخمة، تتعلق بتاريخ الثقافة، وجميعها تصبّ آخر المطاف، في تيّار قوي، نحو مثَل الإنسانية الرّفيعة. هذا هو ما كان يستحوذ على فكري دائمًا. وإنِّي أودّ أن تجد هذه الأفكار الطريقَ إلى عقول وقلوب من سيقرؤون هذا الكتاب”.

الكتابة على سرير مصحّة

هذا بعض ما قاله الكاتب في مقدِّمة تأليفه وهو على سرير مصحَّة من مصحّات ضواحي “موسكو”، وقد أحسّ أنَّ اعتناءه بمثل هذا التأليف و”مبالغته”، في التّنويه بشأنه لربّما يجرّ عليه بعض التُّهم التي كانت تُكال لكثير من المستشرقين، منها ما أشار إليه “إنّ لديهم ذوقًا ذاتيًّا غريبًا”، أو أنّهم يعملون في هذا الميدان “بدافع الولع بالغرائب”، وما إلى ذلك، فقال: “وقد يرى الناس في حديثي فيضًا من العاطفة والرومنطيقية، إلّا إنّني لا أخاف هذا اللّوم، فهكذا عشت عملي وهكذا أتذكّره”.

ثم نرجع قليلاً إلى نقد الأستاذ “كانار”، حيث قال أنّ الإقبال الذي لاقاه التأليف في روسيا، يثبت أنّ جماهير القرّاء يمكنهم أن يهتمّوا بهذا النوع من البحوث “الاستشراق العربي”، بشرط أن تُفرَّغ وتقدم لهم في إطارات حيويّة.

ثم يصف لنا الكتاب فيقول انه يحتوي على 28 مقالًا تشملها سبعة فصول مع مقدّمة وخاتمة، كل مقالٍ يذكر فيه الظروف التي اكتشف فيها تلك المخطوطات وانطباعاته. ونجد المؤلف يقول في مقدمته: “فما كتبت هذه المذكرات عن نفسي، بل عن المخطوطات العربية التي لعبت دورًا كبيرًا في حياتي، والتي شاء لي الحظ، أن أقع عليها، أو التي شقّت طريقها إلى دنيا العلم عبر يدي”.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا