في ظلال شهر رمضان المبارك، حيث تتعمد قوات الاحتلال الصهيوني عرقلة وصول المصلين إلى المسجد الأقصى، واضعة أمامهم كل أنواع القيود والمخاطر، تتجدد المواجهة بين إرادة الصمود الفلسطيني والمخططات الصهيونية التي تسعى لفرض الأمر الواقع بالقوة. في هذه الأجواء المشحونة، يطفو على السطح تساؤل مؤلم ومُلحّ: كيف لدولة تترأس لجنة القدس، المعنية بحماية المدينة المقدسة، أن تكون في الوقت ذاته منخرطة في مسار التطبيع وتعزيز علاقاتها مع الاحتلال؟
لقد بات من الصعب –حتى على إعلام العار العربي- تجاهل التناقض المخزي بين الدور الذي يُفترض أن يلعبه المغرب، بوصفه رئيسًا للجنة القدس التابعة لمنظمة التعاون الإسلامي، وبين خطواته العملية التي تصب في مصلحة الاجرام الصهيوني، سواء من خلال التعاون الأمني والعسكري أو عبر الصمت الجبان إزاء الانتهاكات المستمرة في القدس. وبينما يتسارع مخطط التهويد والاستيطان، وتتكرر الاعتداءات الوحشية على المصلين، يصبح الموقف المغربي، الذي كان يفترض أن يكون سندًا للفلسطينيين، جزءًا من معادلة الانحياز للاحتلال، في خطوة لا تضر فقط بالقضية الفلسطينية، بل تمثل خيانة واضحة لمسؤولية تاريخية يفترض أن تضطلع بها الدول العربية والإسلامية.
تحل –يوم غد– الجمعة الأخيرة من شهر رمضان وسط أجواء مشحونة في مدينة القدس، حيث تتوافد جموع المصلين من مختلف أنحاء فلسطين إلى المسجد الأقصى، متحدّين القيود والتضييقات الأمنية التي تفرضها قوات الاحتلال الصهيوني في محاولة لعرقلة وصولهم. وفي ظل هذه المشهدية المتوترة، تتصاعد التساؤلات حول دور المغرب، الذي يترأس لجنة القدس التابعة لمنظمة التعاون الإسلامي، ومدى التزامه بمسؤوليته التاريخية والأخلاقية في الدفاع عن المدينة المقدسة أمام المخططات التهويدية التي تتسارع بوتيرة غير مسبوقة.
تشهد القدس منذ عقود حملة تهويد ممنهجة، حيث يسابق الاحتلال الزمن لفرض واقع جديد يخدم مشروعه الاستيطاني. تتوالى الاعتداءات على المسجد الأقصى، ويزداد التضييق على المقدسيين في حياتهم اليومية، في محاولة لترحيلهم قسرًا، وإفراغ المدينة من هويتها العربية والإسلامية. وفي المقابل، يكتفي العالم العربي والإسلامي بتكرار بيانات الإدانة والشجب، دون أن يترجم هذه المواقف إلى خطوات عملية توقف نزيف التهويد والاعتداءات الوحشية. وهنا يبرز التساؤل الأكثر إلحاحًا: ما جدوى لجنة القدس إذا كانت عاجزة عن اتخاذ أي موقف فعلي يُحدث فرقًا على الأرض؟
ورغم أن ملك المغرب، محمد السادس، يترأس هذه اللجنة، إلا أن سياسات بلاده تعكس تناقضًا واضحًا بين الشعارات والممارسات. فبينما يُفترض أن تكون الرباط في طليعة المدافعين عن القدس، نجد أنها اكتفت بإصدار بيانات خجولة لا تتجاوز حدود “اللوم الدبلوماسي”، ما جعل لجنة القدس أداة فارغة من أي تأثير حقيقي، وأفقدها مصداقيتها في أعين الشعوب العربية والإسلامية. هذا الجمود المتعمد، الذي تكرّس بسبب موقف المغرب، منح الاحتلال الصهيوني هامشًا واسعًا للمضي قدمًا في مخططاته التهويدية دون أي رادع أو ضغوط فعلية.
لم يكن المغرب عبر تاريخه بعيدًا عن المد الصهيوني، لكنه في السنوات الأخيرة بات أكثر إمعانًا في الانخراط في مشروع التطبيع، ليس فقط عبر علاقات دبلوماسية سطحية، بل عبر اتفاقيات استراتيجية شملت مختلف المجالات، من الاقتصاد إلى الدفاع والتعاون الأمني والاستخباراتي. فمنذ توقيعه اتفاق التطبيع مع الكيان الصهيوني، انغمس موقف المغرب في حالة من التماهي مع المشروع الصهيوني بالمنطقة.
وفي الوقت الذي يُفترض أن تلعب لجنة القدس دورًا محوريًا في حماية المسجد الأقصى والتصدي للاعتداءات الصهيونية، نجد أن المغرب، بدلًا من ذلك، ينسج علاقات وثيقة مع الاحتلال، الأمر الذي أفقده ما تبقى من مظاهر الشرف التي كان يدعيها. ولم يكن التطبيع مجرد خطوة دبلوماسية، بل تلته سلسلة من الاتفاقيات العسكرية والأمنية، ما جعل الرباط شريكًا فعليا في تعزيز النفوذ الصهيوني في المنطقة، وهو ما يتناقض جوهريًا مع الدور الذي يفترض أن تلعبه كحارس على القدس وأوقافها.
بهذه الممارسات، لم يعد المغرب مجرّد متفرّج على العدوان الصهيوني، بل أصبح، طرفًا متواطئًا يساهم، بشكل مباشر، في تسهيل التغلغل الصهيوني في المنطقة. وبينما تتعرض القدس لمخطط التهويد الممنهج، لا يزال النظام المغربي متمسكًا بعلاقاته مع الاحتلال، في خطوة تتجاوز التطبيع إلى مستوى الاصطفاف السياسي والاستراتيجي مع الكيان الصهيوني، على حساب القضية الفلسطينية.
لم يقتصر الأمر على الموقف الرسمي المتخاذل، بل تعداه إلى قمع الأصوات المعارضة للتطبيع داخل البلاد. فقد أصبحت السلطات المغربية أكثر تشددًا في استهداف الناشطين المناهضين للتطبيع، حيث تعرض العديد من المعارضين للاعتقال والمحاكمات الجائرة. ومن بين هؤلاء الناشط محمد بستاتي، والناشط محمد البوستاني، اللذان صدرت بحقهما أحكام بالسجن بسبب مواقفهما الرافضة للعلاقات مع الكيان الصهيوني.
كما شهدت شوارع المغرب مسيرات حاشدة تندد بالتطبيع وتؤكد على التمسك بالقضية الفلسطينية، إلا أن هذه الاحتجاجات قوبلت بالقمع والتنكيل من قبل السلطات. ونددت الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع بهذه الممارسات، معتبرة أنها تأتي ضمن سياسات قمعية ممنهجة تستهدف كل من يعارض الأجندة الصهيونية في البلاد.
في إطار التصعيد القمعي المتواصل ضد مناهضي التطبيع، أدانت الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع الأحكام الجائرة بحق الناشطين المناهضين للتطبيع، معتبرة أنها دليل إضافي على انخراط النظام المخزني في سياسات قمعية تستهدف كل صوت حر يرفض الخضوع للأجندة الصهيونية.
رغم القمع والتنكيل الذي تمارسه السلطات، يواصل الشارع المغربي التعبير عن رفضه القاطع للتطبيع مع الكيان الصهيوني، مؤكدًا أن فلسطين ستظل قضية مركزية لا تقبل المساومة، وأن محاولات تكميم الأفواه والترهيب لن تنجح في إسكات الأحرار عن قول الحقيقة والتصدي لمشروع الاحتلال الصهيوني. فقد خرجت الجماهير المغربية في مسيرات حاشدة بمختلف المدن، تندد بجرائم الاحتلال ضد الفلسطينيين، وتعبر عن موقف شعبي واضح برفض كل أشكال التطبيع، مع التأكيد على ضرورة إسقاطه بالكامل وعدم القبول به كأمر واقع.
وفي سياق هذه التحركات الشعبية، أعلنت الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع عن تنظيم يوم وطني احتجاجي جديد يوم الجمعة 28 مارس الجاري، تزامنًا مع ذكرى يوم الأرض الفلسطيني. ويهدف هذا الحراك إلى مواصلة الضغط الشعبي على السلطات المغربية والتأكيد على أن الشارع المغربي لن يخضع لمنطق القمع والتطبيع المفروض عليه بالقوة، بل سيستمر في نضاله المشروع من أجل دعم القضية الفلسطينية والتصدي لمشروع الهيمنة الصهيونية.
من جهتها، أطلقت الهيئة المغربية لمساندة المعتقلين السياسيين “همم” تحذيرات جدية بشأن تصاعد وتيرة القمع الذي يستهدف الأصوات الحرة، والإغلاق الممنهج للفضاء العمومي أمام أي تعبير عن الرأي المعارض للتطبيع. وأكدت الهيئة أن استمرار هذه السياسات القمعية لن يؤدي إلا إلى تعميق أزمة الثقة بين المجتمع والمؤسسات، مما يستدعي تحركًا عاجلًا من مختلف القوى الحية لوقف هذا التراجع الخطير في الحقوق والحريات.
بات واضحًا أن النظام المغربي، رغم ترؤسه للجنة القدس، يواصل المضي قدمًا في توطيد علاقاته مع الكيان الصهيوني، غير آبه بموقف الشارع المغربي الرافض لهذا المسار التطبيعي. وبينما تتصاعد الاعتداءات الصهيونية على مدينة القدس والمسجد الأقصى، تستمر الرباط في تعزيز تعاونها مع الاحتلال في مجالات عدة، بما في ذلك الأمن والدفاع والاقتصاد، في تناقض صارخ بين الدور المفترض للمغرب كرئيس للجنة القدس وبين ممارساته الفعلية على الأرض.
رغم التشديدات الأمنية الصهيونية، واصلت مبادرة “نبض الأقصى” جهودها في نقل المصلين من داخل أراضي 48 إلى المسجد الأقصى المبارك في مدينة القدس المحتلة. فمنذ أمس الأربعاء وإلى غاية الجمعة، انطلقت 150 حافلة من مدينة أم الفحم تقل مئات الفلسطينيين، وذلك ضمن فعاليات المبادرة التي أُطلقت قبل ثلاث سنوات وأصبحت عنوانًا لمن يرغب في شد الرحال إلى الأقصى.
وخلال الأسابيع الأولى من شهر رمضان، انطلقت نحو 200 حافلة من أم الفحم باتجاه المسجد الأقصى، بينما شهد الأسبوع الثالث تسيير 120 حافلة، وستصل خلال ليلة القدر 150 حافلة إضافية، تحمل أكثر من 7500 مصلٍّ، وفي تأكيد واضح على تمسك الفلسطينيين بحقهم في الوصول إلى المسجد الأقصى رغم القيود الصهيونية المشددة. وما يميز هذه السنة هو الإقبال الكثيف من فئة الشباب، رجالًا ونساءً، بالإضافة إلى توافد عائلات بأكملها، مما يعكس روح التحدي والإصرار على الحفاظ على هوية الأقصى الإسلامية.
وفي موازاة هذه المبادرات، واصلت “جمعية الأقصى” تسيير قوافل المصلين، حيث نجحت منذ بداية شهر رمضان في نقل نحو 2400 حافلة إلى المسجد الأقصى، رغم محاولات الاحتلال عرقلة وصول الفلسطينيين عبر فرض حواجز أمنية مشددة في محيط القدس.
في خطوة تعكس استمرار سياسات التهويد والتضييق الديني، أعلنت وزارة الأوقاف الفلسطينية أن سلطات الاحتلال الصهيوني ترفض فتح جميع أروقة المسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل أمام المصلين بمناسبة ليلة القدر، وذلك في سابقة خطيرة تهدف إلى تقليص الوجود الإسلامي في المسجد بشكل تدريجي.
وأكد وزير الأوقاف الفلسطيني محمد نجم أن الاحتلال الصهيوني لم يكتفِ برفض تسليم الحرم الإبراهيمي بكامل مساحته للمسلمين كما كان يجري في السنوات الماضية، بل صعّد من إجراءاته التعسفية بإبقاء الباب الشرقي مغلقًا للمرة الرابعة خلال شهر رمضان. وأضاف أن هذا التصرف الاستفزازي يُعد انتهاكًا صارخًا لحرمة الشهر الفضيل، ومحاولة ممنهجة لفرض أمر واقع جديد في الحرم.
ودعا نجم الفلسطينيين إلى شدّ الرحال والرباط داخل الحرم الإبراهيمي لمواجهة هذه المخططات، مشددًا على أن الاحتلال يسعى إلى فرض سيطرته الكاملة على المسجد عبر تغييرات تدريجية تهدف إلى طمس معالمه الإسلامية. ومن جهته، أكد مدير عام أوقاف الخليل جمال أبو عرام أن المطلوب حاليًا هو تكثيف الوجود الفلسطيني في الحرم عبر الفعاليات والأنشطة الدينية، لمواجهة هذه الإجراءات التي تشكل انتهاكًا واضحًا للحقوق الدينية للمسلمين.
يُذكر أن سلطة الاحتلال كانت قد قسمت المسجد الإبراهيمي عام 1994 بعد مجزرة ارتكبها مستوطن يهودي بحق المصلين، حيث خصصت 63% من مساحته لليهود، فيما أبقت 37% فقط للمسلمين. وعلى مدار السنوات الماضية، واصلت سلطات الاحتلال فرض مزيد من القيود على دخول الفلسطينيين إليه، في مسعى واضح لتهويده بالكامل.
مع استمرار الحرب الصهيونية على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، شددت سلطات الاحتلال القيود المفروضة على دخول الفلسطينيين من الضفة الغربية إلى القدس المحتلة، مما حال دون وصول الآلاف من المصلين إلى المسجد الأقصى خلال شهر رمضان. وفي هذا الإطار، كثفت الشرطة الصهيونية انتشارها في أحياء القدس، ونشرت تعزيزات أمنية إضافية بذريعة تأمين الوضع خلال الشهر الفضيل.
ويرى الفلسطينيون أن هذه الإجراءات ليست سوى جزء من مخطط صهيوني ممنهج لتهويد القدس وطمس هويتها العربية والإسلامية، حيث تتزامن هذه القيود مع استمرار عمليات الاقتحام التي ينفذها المستوطنون لباحات المسجد الأقصى، في محاولة لفرض التقسيم الزماني والمكاني. وفي ظل هذه التطورات، يبقى الفلسطينيون صامدين في وجه الاحتلال، مصرّين على الدفاع عن مقدساتهم رغم القمع والممارسات التعسفية التي تستهدف وجودهم وهويتهم في القدس والخليل وسائر الأراضي المحتلة.