بين الحرب والسياسة.. حين تنتصر حماس لثقافة الدولة

لم تكن عملية 7 أكتوبر 2023، هي من أبرزت حركة المقاومة الإسلامية “حماس” إلى ساحة الاهتمام الدولي، فالحركة التي في منتصف الثلاثين من عمرها، أشغلت العالم فعلا بإطلاقها الانتفاضة الفلسطينية الأولى في نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم من خلف الكواليس، وأشغل اسمها المنطقة والعالم بعد أن تحوّل نضالها من شكل الانتفاضة الشعبية، إلى الجهاد المسلّح، الذي بدأ بعمليات فردية هنا وهناك، ثمّ تطوّر إلى العمليات الاستشهادية التي أوقعت العدو الصهيوني في خسائر لم يكن يتوقّعها في أسوأ كوابيسه، وتصاعد اسمها حتى طبق الآفاق، بعد أن انتقل شكل مقاومتها للعدو من المواجهات المتفرّقة، والرشقات الصاروخية، إلى خوض حروب حقيقية براً وبحراً وجواً، أبرزها عام 2014، ومعركة 7 أكتوبر 2023 وما تلاها حتى اللحظة، فما التغييرات التي طرأت على هذه الحركة المقاوِمة وما مآلاتها؟

بداية، تعتبر حركة حماس نفسها امتدادا للحركات الإسلامية الفلسطينية المناضلة، والتي قاومت الاستعمار البريطاني لفلسطين، ثمّ وريثه وربيبه الاحتلال الصهيوني، ومن هنا جاءت تسمية ذراعها المسلّح بكتائب عزّ الدّين القسّام، القائد الشّيخ المجاهد، الذي قاد الثورة ضد الإنكليز، واستشهد ورفاقه وهو يقاوم، حيث ورد في المادة السابعة من ميثاق الحركة التأسيسي: “وحركة المقاومة الإسلامية حلقة من حلقات الجهاد في مواجهة الغزوة الصهيونية، تتّصل وترتبط بانطلاقة الشهيد عزّ الدّين القسّام وإخوانه المجاهدين”.

انتشر نفوذ الحركة بشكل كبير، بعد المشاركة، التي وصفها مراقبون سياسيون بالفاعلة والقوية، في مواجهة ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة، حملت حركة حماس السلاح عام 1987، من خلال تأسيس جهاز عسكري أسمته “المجاهدون الفلسطينيون”، بقيادة الشّيخ صلاح شحادة، وقد نشرت الحركة ميثاقها في 18 أوت 1988، وحدّدت فيه هويتها، وقدّمت نفسها على أنّها “جناح من أجنحة الإخوان المسلمين بفلسطين”.

وبحسب مراجع تاريخية، تمكّن “المجاهدون الفلسطينيون” من اختطاف وقتل الرقيب الإسرائيلي “آفي ساسبورتس” في 3 فيفري 1989، والجندي إيلان سعدون في 3 ماي عام 1989، وفي المقابل، شنّت “إسرائيل” في ماي 1989 حملة ضد “المجاهدون الفلسطينيون” ما أدى إلى تفكّكه، ودفع الحركة لاحقًا إلى تشكيل كتائب “عزّ الدّين القسّام”، ففي عام 1992 أسّست حركة “حماس” جناحها العسكري المسلّح، كتائب عز الدين القسّام، حيث أعلن عن اسم الكتائب في أوّل بيان صدر في 1 جانفي من ذلك العام.

التجربة السياسية

سياسيا، انخرطت حركة “حماس” في العملية السياسية الفلسطينية للمرة الأولى عندما شاركت في الانتخابات التشريعية التي عقدت عام 2006، وفازت الحركة آنذاك بغالبية مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني، هذا النجاح لاقى رفضا “إسرائيليا” وغربيا، وتعاطى خصوم حماس الفلسطينيون بسلبية مع تبعات فوزها الشرعي، فقد رفضت حركة فتح (المنافس السياسي لحماس) وبقية الفصائل، المشاركة في الحكومة التي شكّلتها الحركة آنذاك، برئاسة إسماعيل هنية، بحجة “عدم الاتفاق على البرنامج السياسي”، هذا وقد شهدت تلك الفترة اختلافات ومشاكل داخلية بين الطرفين حول الحكومة وشرعيتها، تطوّرت في وقت لاحق إلى اشتباكات مسلّحة، انتهت بسيطرة حركة حماس على قطاع غزّة عام 2007.

في ماي 2017، أصدرت حركة “حماس” وثيقة سياسية جديدة، سعت من خلالها إلى الحصول على القبول الإقليمي والدولي، وإبعاد سمة “الإرهاب” عنها، وفي هذه الوثيقة، وافقت حماس على إقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من جوان عام 1967، دون الاعتراف بشرعية “إسرائيل”، وبعدم “التنازل عن أي جزء من أرض فلسطين مهما كانت الأسباب والظروف والضغوط، ومهما طال الاحتلال”، واعتبرت أنّ إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967 “صيغة توافقية وطنية مشتركة”.

واحتوت الوثيقة على العديد من البنود التي تؤكّد رفض الحركة للتطرف، وتؤكد على “الوسطية والاعتدال”، كما عرّفت حماس نفسها في الوثيقة على أنّها حركة فلسطينية، وأنّ صراعها مع اليهود، ليس دينيا، وأنّها لا تعاديهم، بل تقاوم من احتلّ الأرض الفلسطينية.

7 أكتوبر ومآلاته

شكّل السابع من أكتوبر 2023، ضغطا كبيرا على كل من طرفي الصراع، فقد عانت حماس من عبء تحمّل الدمار الوحشي الهائل الذي أوقعه الجيش الصهيوني على غزة، والعدد المهول للشهداء والمصابين والنازحين المدنيين الفلسطينيين، في ظل خذلان عربي وإسلامي وصل من بعضهم حد التواطؤ ضد غزة، والمساهمة في حصار أهلها وتجويعهم ومضاعفة معاناتهم، وفي ظل صمت دولي لا أخلاقي على جرائم ترتكب ليل نهار على مرأى ومسمع من الجميع.

في حين، عانى العدو الصهيوني من تحطيم سمعته العسكرية المزعومة، وسقوط وهم “الجيش الذي لا يقهر”، سواء يوم 7 أكتوبر 2023 أو ما تلاه حتى اليوم من عمليات بطولية مؤثّرة توقعها المقاومة الباسلة بآلياته وجنوده وضبّاطه، وما يرافق ذلك من تعاطف عالمي شعبي غير مسبوق، وانهيار أكاذيب معاداة السامية وانكشاف الوجه القبيح للصهيونية حتى لليهود أنفسهم. كل ذلك دون تحقيق أي من الأهداف الإستراتيجية التي أعلنها قادة الكيان عند بداية عدوانه على غزة.

وفي ظل الحديث عمّا سيكون بعد وقف إطلاق النار، وعن الوضع الذي تقبله حماس، شكّلت تصريحات بعض قادة حماس، وفي مقدّمتهم إسماعيل هنية وخليل الحيّة، مادّة دسمة لتحليلات المراقبين، حيث اعتبرها البعض تراجعا في ثوابت حماس، بزعم أنّ الحركة وافقت على الاعتراف بـ”إسرائيل”، وبإلقاء السّلاح. وبالعودة إلى ما قاله الرّجلان نجد أنّ إسماعيل هنية قال: “هناك خيارات وبدائل تطرح بوجود قوّة عربية مثلا ونرحّب بأيّ قوّة عربية أو إسلامية إذا كانت مهمّتها مساندة شعبنا الفلسطيني ومساعدته على التحرّر من الاحتلال”.

وأشار إلى أنّ “حماس ليست متمسّكة بالتّمثيل المنفرد: “نحن جزء من الشّعب الفلسطيني ويمكن أن نبني حكومة وحدة وطنية وأن نتوافق على إدارة غزّة على قاعدة الشراكة”، مشدّدًا على أنّ “إدارة غزّة يجب أن تتمّ بإرادة فلسطينية”.

وشدّد أيضا هنية على أنّ حماس تؤكّد “دائما أنّ مطالب الشعب الفلسطيني لا يمكن أن نفرّط فيها ولا يمكن أن نتنازل عنها، سواء فيما يتعلّق بقضية غزة وشروط وقف العدوان، أو فيما يتعلّق بحقوقنا الفلسطينية التاريخية الثابتة في أرضنا، وفي وطننا وعودة الشعب الفلسطيني، وإقامة دولته كاملة السيادة وعاصمتها القدس بلا أيّ تفريط أو تردّد”.

فيما قال خليل الحيّة: “الحركة مستعدّة لهدنة مع “إسرائيل” مدّتها 5 سنوات أو أكثر والتخلّي عن السّلاح، شريطة إقامة دولة فلسطينية مستقلّة على حدود عام 1967″، وصرح القيادي لوكالة “أسوشيتد برس” بأنّ الحركة مستعدّة لهذا الأمر في حال جرى تلبية هذه الشّروط وأنّها ستتحوّل إلى حزب سياسي. كما عبّر عن الرّغبة في الانضمام إلى منظمة التّحرير الفلسطينية برئاسة حركة “فتح” لتشكيل حكومة موحّدة لغزّة والضفّة الغربية، وأضاف: “كلّ تجارب الذين ناضلوا ضد المحتلين، عندما استقلّوا وحصلوا على حقوقهم ودولتهم، ماذا فعلت هذه القوى؟ لقد تحوّلت إلى أحزاب سياسية، والقوات المقاتلة المدافعة عنهم تحوّلت إلى الجيش الوطني”.

وبنظرة إلى ما قاله الرجلان، نجد انسجاما بينهما وتكاملا في الطرح والأفكار، وكذلك انسجاما مع المواقف التاريخية للحركة ومع ثوابتها، فهي تعلن استعدادها لهدنة مؤقّتة مع العدو لا الاعتراف، وأنّ قوّاتها ستندمج ضمن الجيش الفلسطيني في الدولة الفلسطينية كاملة السيادة، لا أنها ستلقي السلاح، وهذه رؤية وليست مجرّد مطالب، سعت إلى تحقيقها الحركة دوما وما زالت.

حركات المقاومة ومآلات النّضال

باستعراض سريع لبعض أشهر حركات النضال في التاريخ الحديث، نجد أنّ الحركات المقاومة في حالة الثبات تقطف النصر، لكن ما يحدّد مصائر الشعوب وتلك الحركات هي التفاهمات الأخيرة التي تسبق صمت المدافع، حيث يعمد المستعمر عند تراكم خسائر احتلاله العسكري للشعوب إلى إيجاد كيانات سياسية محلية، تقوم مقامه في حكم بلادها بما يحقّق مصالح المستعمر دون أن يستمرّ نزيف خسائره العسكرية، ومثال ذلك معظم دول العالم الثالث بما فيها العربية، أمّا إذا أحسّ بقرب هزيمته فإنّه يلجأ إلى إيقاع خسائر هائلة في حاضنة النضال الشعبية، ليرغم المناضل على الاستسلام صونا لشعبه كما حصل لليابان، التي رغم ثرائها الفاحش ونهضتها العلمية والصناعية لا زالت تئنّ بمهانة تحت الحذاء الأمريكي، ومن تلك الحركات من يثبت ويصمد رغم الجراح والخسائر ويصمّم على نيل حقوقه، كما فعل شعب روسيا وجنوب إفريقيا، فيتحقّق له النصر بعزة وكرامة وينال احترام العالم، فأين تقع حماس من تلك الحركات؟

إنّ الحركة التي كانت مجرّد قسم في تنظيم، ثمّ تطوّرت فأصبحت فصيلا مقاوما، ثمّ لاعبا أساسيا في العملية السياسية الفلسطينية والإقليمية، ثمّ حركة فلسطينية تحقّق منجزات على مقاس دولة، ثمّ ثبتت وصمدت رغم الجراح ولا زالت تصمّم على نيل حقوق شعبها العادلة، رغم عداوة البعيد وخذلان القريب وخيانة الشقيق، يحقّ لها أن تسعى إلى دولة هي مؤهّلة لقيادتها بما تملكه من رصيد سياسي وعسكري وعقائدي ودعم شعبي داخلي وعربي وعالمي عارم، بل يحقّ لها أن تكون طليعة صحوة أمّة طال سباتها، وشعلة حقّ وخير ونور في عالم طال ليل ظلمه.

إبراهيم بن طه العجلوني - أكاديمي أردني

إبراهيم بن طه العجلوني - أكاديمي أردني

اقرأ أيضا