يختلف تاريخ الاحتفال بعيد الأم من بلد عربي إلى آخر، فبينما يكون الاحتفال في آخر أسبوع من شهر ماي في بعض البلدان العربية، فإن الاحتفال يكون في 21 مارس في بعض البلدان الأخرى.. ولأن التاريخ الثاني (21 مارس) يوافق أول يوم من فصل الربيع مع ما يعنيه هذا اليوم من ارتباط بالأرض، وتجدّدٍ في الطبيعة، وتدفّقٍ للجمال، وحيويّة في الحياة.. فقد ارتأت جريدة “الأيام نيوز” هذا اليوم للاحتفال بعيد الأم الفلسطينية – رغم أنه جاء متأخرا بأيام – التي تكتنز في معانيها كل ما يتعلّق بالأرض والعطاء واستمرارية الحياة رغم كل الظروف الهدّامة والمُدمّرة للحياة التي تعيشها منذ أكثر من سبعة عقود.
وماذا عسانا نقدّم من هدايا إلى الأمّ الفلسطينية سوى رسائل من كلمات.. وقد تركنا لكتّابنا الأفاضل المجال مفتوحا ليخطّوا فيها – الرسائل – ما شاؤوا من موضوعات حول الأمّ والأرض والعطاء المتواصل من أجل أن تستمر الحياة.. وأيضا، توجيه الرسائل إلى كل أمٍّ، فلعلّ أدبًا يُولد يومًا ما ويُسمّى: “أدب الأم”.
وقد توالت عدّة مناسبات فلسطينية خلال شهري مارس وأفريل، الأولى هي مناسبة “يوم الثقافة الفلسطينية” في الثالث عشر مارس الذي يُصادف يوم ميلاد شاعر فلسطين “محمود درويش” عام 1941، والثانية هي مناسبة “يوم الأرض” الفلسطيني في الثلاثين من الشهر نفسه، والثالثة هي مناسبة “يوم الطفل الفلسطيني” في الخامس من شهر أفريل.. وجميعها مناسبات يُمكن اعتبارها عيدًا للأم الفلسطينية، فهي ليست كائنا إنسانيًّا مثل باقي البشر، بل هي استثناءٌ إنسانيٌّ تعجز أبلغ اللغات عن استيعاب معانيه والتّعبير عنه.. لأن الأمّ الفلسطينيّة لغةٌ قائمة بذاتها تفيض بأسمى المعاني النبيلة وتجسّدها على أرض الواقع، فهي الولاّدة التي تزّف إلى الموت قوافل الشهداء من أجل أن تستمرّ رسالة النضال والكفاح وتترسّخ أقدام أبنائها على أرضها الطاهرة.. هي التي تزّف ابنا إلى عرسه وفي الوقت نفسه تشيّع آخر إلى مقام الاستشهاد، تزغرد من أجل الأول فرحًا به، وتزغرد للثاني ألمًا على فقده. هي أمٌّ ولاّدةٌ بنّاءة مناضلة مجاهدة أسيرة شهيدة عاملة مُربّيةٌ فيّاضةٌ بالأمل والصمود.. هي آيةٌ ربّانية تمشي فوق الأرض وتجسّد أرقى مثالٍ إنسانيٍّ جمع بين الطُّهر والنّقاء والصفاء والمحبّة والإصرار على الحياة برغم كل آلات الموت ومشاريع الإفناء التي تتفنّن في تعذيبها وترهيبها وتقتيلها ومحاولة اغتيال عناصر الحياة في دخيلتها ومن حولها..
وأنت عزيزي القارئ، هل لديك رسالة توجّهها إلى الأم الفلسطينية لتكون عيدًا دائما للإنسانية في كل يومياتها وفصولها وأزمنتها؟ إن أقلّ ما نستطيع تقديمه إلى هذه الأم الأسطورة هو أن نكتب لها رسالة تشدّ من أزرها وتهمس لها بأنّها ليست وحدها بل هناك قلوبٌ تنبض من أجلها وتدعمها بالدعاء الصادق.. وذلك أضعف الإيمان!

أمّي.. هزّت عالمي بيسارها
لا أحبّ نابوليون، أو لكي أكون أكثر وضوحًا، لا أحبّ ما قام به نابوليون، ولن أستعرض تاريخًا قد طواه الزمن واحتلّ الغبار رفوفه. لكنّني أذكر جيّدًا جملةً سمعتها منذ الصِّغَر، ولم تزل عالقةً إلى الآن في دماغي إذ قال: المرأة التي تهزّ المهد بيمينها، تهزّ العالم بيسارها.
كنتُ في الرّابع الابتدائيّ، أو ربّما الخامس، لا يهمّ، احذفوا ما شئتم ممّا أقول. في تلك المرحلة الدّراسيّة كنّا قد أصبحنا نحن التلاميذ الأطفال قادرين نوعًا ما على صياغة موضوع إنشاء من عشرة سطور عن فكرةٍ معيّنة، وقد طلب أستاذ اللغة العربيّة آنذاك كتابة موضوع إنشاء عن الأم. لم يكن المطلوب مفاجئًا، إذ إنّ الطفل في تلك المرحلة لن يفكّر خارج الصندوق العائليّ، فإن سنحت له الفرصة بكتابة أمرٍ ما من تلقاء نفسه سيكتب عن بيته، أو عن أبويه أو عن رحلةٍ في أرجاء الطبيعة في يومٍ مشمس، وهذه الأخيرة، كانت خياليّةً في غالب الأحيان، لقد تعلّمنا أن نتعاطى السعادة كمخدّرٍ من كلمات وخيال منذ نعومة أظفارنا.
كنت أراقب أمّي كلّ يوم في كلّ ما تقوم به، حسبي أنّني طفلٌ جُبِل على استخدام عينيه أكثر من أيّ شيءٍ آخر، لستُ بقادرٍ حتّى الآن أن أصنّف هذه الصفة ضمن صفاتي السّلبيّة أم الإيجابيّة، لا يهمّ، لكنّني أدرك الآن أنّ حاسّة النظر كانت تقضم باقي الحواس شيئًا فشيئًا حتّى تحوّلت إلى طفلٍ صامت، جلّ همّه أن يراقب، يسمع، ويقرأ ما تقع عليه يديه من أوراق، ثمّ وجدتُني في آخر الأمر أكتب.
كانت كتابتي عن أمّي لا تشبه باقي الكتابات التي قدّمها أطفالٌ من عمري، هذا ما قاله أستاذ اللغة. أذكر جيّدًا أنّه عند توزيع أوراق النتائج ترك ورقتي بيده حتى النهاية وقال: صديقكم هذا كتب ما أنا عاجزٌ عن كتابته، صفّقوا له.
شعرت بفخرٍ يعتريه الخجل، صفّق الرّفاق لي، ربّت الأستاذ على كتفي وقال: اكتب دائمًا ما تشعر به.
لم أفهم حديثه في ذلك الوقت، ولم أعلم لماذا اختارني أصلًا من بين كلّ الرفاق، لكنّني علمت مع مرور الوقت بأنّه زرع في رأسي بذور الشغف وأخبرني بكيفيّة سقايتها.
كانت أمّي تهزّ السرير بيمينها وكنت أراقبها فأذكر جملة نابوليون التي كنت قد كتبتها في ورقة موضوع الإنشاء، لكنّني أذكر دموعها أيضًا، دموعها التي كانت تهزّ العالم بيسارها، العالم الذي يسكنني وأسكن فيه. بالمناسبة أعيد وأذكّركم بأنّني أُبغض نابوليون، لا يهمّ، لا بأس إن أبغضتموه أم أحببتموه.
لم أكتب عن أمّي التي تطعمنا وتغسل ثيابنا وتغطّينا قبل أن تغفو وتحرص على أن نشبع، بل كتبت عن أمّي التي علّمتنا، رغم عسر الحال وضيقه كانت مصرّةً على أن نتعلّم، هي نفسها التي كانت تهزّ المهد بيمينها هزّت العالم بيسارها، وهي التي كانت تطلب من إدارة المدرسة أن يمدّ في أجل دفع الرسوم لكيلا نخسر سنةً دراسيّة، ما زلت أذكر وجهها المصمّم على تدبير رسوم التسجيل رغم ما كنّا نعانيه من ضائقةٍ ماديّة، هذا ما كتبته حينها، هذا ما جعلني متميّزًا عن رفاقي في عينَي أستاذ اللغة. الآن أدرك ما قاله حينها بجملة: اكتب دائمًا ما تشعر به.
أنا أُميّ لولا أُمّي. هذا ما أودّ قوله، وأمّي هي كلّ أمّ صنعت أُمّة وهزّت العالم بأسره. في فلسطين كانت أمٌّ تفتّش عن ابنها بين ركام الأبنية صائحةً: “ابني يوسف حلو، أبيضاني، أبو شعر كيرلي، شفتو ابني؟”، لم تبحث عن بيتها وزوجها وأهلها ونفسِها، بل كان جلّ همّها البحث عن ابنها، كانت تعلم أنّها تبحث عن جثّةٍ في كومة قشٍّ من همجيّة، لكنّها بحثت وأنطقها الله بهذه الكلمات لكي تعلنها صرخةً في أذن الكون الذي صمّ آذانه عن سماعها، أعلنتها صرخةً مدويّةً أمام الملأ لعلّها تسمع لصوتها صدى، ولكن لا حياة لمن تنادي.
لقد هزّت العالم بيسارها، هذه الأم الفلسطينية التي نزح الدمع من عينيها أمام العالم كلّه، وخلفها كانت أمٌّ تزغرد صائحةً: “ابني شهيد، الحمد لله يُمّا، سلّملي على خوَاتَك”، أيُّ روحٍ هذه التي تحملينها يا أمّي؟ أيُّ روحٍ وضعها الله في جسدك المُدمَّى حين تصرخين بهذا الوجع كله في وجه الكون؟
أُمّي هنا، وأُمّي هناك، أُمّي هي التي علّمتنا أنّ النصر صبر ساعة، هي التي هزّت سريرنا بيمينها والكون بيسارها، أمّي هي كلّ أمٍّ فقدت أبناءها فلم تجزع، أمّي في جنوب لبنان، وفي بيروت، وفي غزّة، وفي فلسطين كلّها، أمّي هي التي علّمتني أن أعانق كلّ أمّهات الكون الثكالى.
ما زلت أذكر كلام أستاذي، ما زلت أذكر كلمات أمّي، ما زلت أذكر دموعها، ما زلت أذكر كلّ ما كتبته وما لم أكتبه، ما زلت أذكر أنّني أنا الشاب الأميّ لولا أمّي، وما زلت أذكر أنّ أمّي في فلسطين وفي لبنان وفي كلّ بقاع الأرض هي التي صنعت أمّةً لا تحني رأسها إلا لمن خلقها.
هند سليمان أبو عزّ الدين (باحثة وكاتبة من لبنان)
الأمّ بطولةٌ صامتة
غصن الزّيتون في يدك، وقصّة دمع خرقت جدار السّكوت بصوتها المُثقَل بالألم، والمُفعَم بضجيج الحياة، تنبت ورود صلابتك من عمق الدّمار، لتُزيل الشّوك من دروب القلوب الحائرة، وتزرع فيها حقولًا من الأمل والقوّة والنّجاح، فأنت الصّرخة التي تدوّي في الظّلام، واليدُ الممدودة إلى المستقبل بعزم وثبات، والحلم المصنوع من حزن الذّكريات، والجرح الذي ينزف بصمتٍ في عتمة الأيّام، ويُخبّئ الأماني في علب الحلوى، ليُقدّمها إلى الأطفال في العيد، علّها تُزهر حقولًا ملوّنة.
وأنت أيّتها الأمّ المثقلة بهموم الحنين، وبرياح القلق والغربة، تحملين في ملامحك منديلًا يمسح عن جباه الأولاد آثار الخوف والضّجر، فتتوقّد على ذراعيك ذكريات الأحلام المنسوجة من تعب الماضي، ويضيء من عينيك بريق الأمل، ويُخفي صمتك حكايات أوجاع كثيرة رقدت خلف ابتسامة تنشر الطّمأنينة في أرجاء البيت، وترسم دفئًا على الجدران، وتمرُّ على آلام الخوف لتُداويَها بمشاعر المحبّةِ، وتضيء ليالي الغربةِ والوحشةِ، فكم أطلَّ من صمتِ عينيكِ ربيعٌ! وكم أشرقَت نجومٌ من همساتِ صوتِك المزروعة بالأمان!
ومنك يلوح بريق العطاء، ويفوح عطر غريب يُخفّف قسوة الحياة، فأنت الحكاية المنسيّة في خوابي الزّيت، وفي جدران منزل شهد تضحياتك اليوميّة، حين تصنعين من طحين الفقر خبزًا ساخنًا، ومن خوفك جناحًا للهدوء والتّفاؤل، ومن حطام أحلامك زهرة تنمو في بساتين الحياة، ومن أنين عمرك ثياب الشّتاء، فأنت سراج الأمل، ومصباح العزّ والوفاء، وأمانيك تتلخّص في سلامة أبنائك وراحتهم، فكم ضُمِّدت على يديك جراح! وكم كُفكِفت دموع! وكم تبدّد همّ في نظرات عينيك الحالمتين!
أراك ظلًّا يحوم خلف قصص البطولة، ووردة في حقول الياسمين، ونخلة تُستمدّ منها القوّة، ونبعًا تفيض منه التّضحية، ومطرًا يروي عطشَ السّنين، فأنت الدّفءُ المنسوجُ من صقيع الهموم، ومنك يستقي الإنسان معنى الإنسانيّة والتّسامي فوق الوجع، لأنّك تصنعين من الدّمع ابتسامات مرسومة على وجوه الأطفال، ومن العتم قنديلًا يضيء طريق الرّجال.
وفي لمستك يذوب الألم ويتلاشى، ويهمس في القلب حنين يُزيل عنه القلق والتّوتّر، ويغرس فيه الشّجاعة، ويبقى الصّمت عالقًا في صدرك يُخفي همومه وأحزانه عن العيون، ويغرق دمعك تحت الجفون، فتبدو على أخاديد وجهك مشقّات خطّتها يد التّعب والعناء، وحكايات ترويها التّضحيات، وتسأل عن عمرٍ مضى غارقًا بين أمواج الآلام والأحلام.
لك أيّتها الأمّ التي طالما تحمّلت مرارة الأيّام، تحيّة معطّرة بأريج التّقدير والثّناء، ومزدانة بألوان الفرح والضّياء، وناصعة كبياض الثّلج على الجبال، فأنت العبير العابق من حروف الكلمات، والنّسيم العليل في صيف الذّكريات، وأنت بطولة صامتة تروي مآسي العمر، وليالي السّهر، وقصّة نظرة احتضنَت الصّعاب وحوّلتها حبًّا وحنانًا، ولمستِ اليأس فصار وردًا وريحانًا، وأنت في كلّ بيت نعمة تنمو بها الأسرة، وقدوة يتعلّم منها المرء الصّبر والقوّة والقدرة على تجاوز الأزمات والأحزان.
لك أيّتها الأمّ التي اختصرت أحلامها بالسّعي إلى رسم ابتسامات على وجوه أبنائها، وحصرَت آمالها في انتظار عودتهم في المساء، تبتسم البراعم، ويُزهر الرّمان، وتغرّد البلابل، وتُورق الأغصان، فأنت الأمنيات المخبّأة في أوراق الهدايا، يا من سطّرت أمجاد التّحمّل والرّعاية، وأنت الكنوز التي تفيض باللّؤلؤ والمرجان، فلا أحد يعرف كم عانيت بصمتٍ في تفاصيل حياتك، لتُقدّمي لعائلتك التّربية والتّعليم، والحضن والأمان، ولا أحد يعرف كم صبرت حين كانت الدّموع في كلّ مكان.
وفي الختام، قد يعجز عن التّعبيرِ الكلامُ، وقد تخجل الحروف حين تصف حكاياتك المحفورة في ذاكرة المنازل، ولكن تبقى سيرتك فوّاحة بعطور الياسمين، تنشر في كلّ بيتٍ أريجَ المحبّة والصّبر والتّضحية، وترنو بصمت إلى المستقبل.

أما آن للأم الفلسطينية أن تحيا مثل كل الأمّهات؟
الأم الفلسطينية ليست الأم العادية التي تستطيع إعداد الطعام وغسل الثياب وتنظيف البيت وتدريس الأبناء بسهولة حيث الروتين يسكن جدولها اليومي. الأم الفلسطينية جدولها تضبطه حسب قوانين وساعات الاحتلال، حيث لا تعرف متى ستحضن ابنها الذي قد يكون في المدرسة لكن فجأة قد يدخل جنود الاحتلال المدرسةَ ويخلقون فوضى في الصفوف ويلقون القبض على المعلمين.. وإذا لزم الأمر قد يطلقون الرصاص والقنابل على المدرسة فيتحوّل التلميذ إلى رقم في قائمة الشهداء. وإذا كان الابن عاملا فقد يلقون القبض عليه بعدّة حُجج.. فيجد الابن نفسه داخل الزنزانة وعندها تتحوّل الأم إلى سفيرة الوجع والدموع والانتظار حيث تحاول معرفة في أيّ سجن الآن هو مُعتقَل.. لأن عناوين السجون موجودة في أرشيف وذاكرة كل فلسطيني، وكل سجن له ميزة خاصة. بعض السجون قد يكون فيها التعذيب والمعاملة أفضل من غيرها مع أنه تعدّدَت السجون والسجن واحد، ولكن عند الاحتلال للسجن عدّة درجات.. وهنا الأم الفلسطينية عليها أن تكون “رياضيّة” في الركض من مكان إلى مكان ومن محام إلى محام، والابن يحاول من وراء القضبان – هذا إذا سمحوا لوالدته برؤيته – أن يحيطها بالتفاؤل وأنه بخير مع أن جسده قد تحوّل إلى خرائط تدلّ على دروب المعاناة والأوجاع التي عاشها..
الأم الفلسطينية تزغرد لابنها الشهيد وهذه ظاهرة بقدر صعوبتها وجنونها الإنساني حيث الموت يخطف فلذة كبدها.. غير أن الأم تريد أن تنقل رسالة إلى الاحتلال بأن استشهاد ابنها فخرٌ لأنه استشهد واقفا على قدميه، شامخا مضحيًّا بنفسه في سبيل وطنه.. هذه الرسالة في زمن الخذلان العالمي والعربي، تجعل من تلك الأم البسيطة أيقونة للمقاومة والدفاع عن التراب والأرض..
الأم الفلسطينية الآن تعاني النزوح من مكان إلى آخر في غزة، وتحمل فوق كاهلها عبء الأسرة والأبناء وتوفير أدنى مقومات الحياة للأطفال، وهي تصارع الموت في كل لحظة، وتحاول أن تكون ثابتة قادرة على مواجهة هذه المرحلة الجنونية بثقة وإيمان راسخ بأن المستقبل سيكون أفضل..
الأم الفلسطينية لا عيد لها مثل باقي أمهات العالم لأن الأبناء يحيطون بأمهاتهم ويقدمون لهن الهدايا احتفالا بهن.. أما الأم الفلسطينية فإنها تتذكر أولادها الذين استشهدوا أو مازالوا في السجون.. وإذا اجتمعوا حولها، ستتساءل هل السنة القادمة سيكونون حولها؟ ستبقى أمومتها تنادي وتصرخ إلى متى؟.
أما آن للأمومة الفلسطينية أن تترجّل عن ظهر العذاب؟ أما آن للأم الفلسطينية أن تنام وتحلم مثل باقي الأمّهات؟ أما آن للأم الفلسطينية أن تكفّ عن زيارة المقابر؟ والأصعب أنه في الحرب على غزة أصبحت الأم تتمنى أن تجد ابنها الشهيد كاملا لم ينقص عضو من جسده لأن الأبناء يخرجون من تحت الركام مجرد أشلاء..
أذكر إحدى الأمهات وهي تصرخ: (لقيت راسو).. لقد وجدت رأس ابنها بعد طول عناء. لقد وجدته بين ركام منزلهم الذي تعرض للقصف.. الأم الفلسطينية عيدها الحقيقي عندما تشعر بالأمن والأمان وتنظر إلى أولادها وهم نيام إلى جانبها، وتقول بهمس وحنان: شكرا لك يا الله.

خواطرُ أشتات.. عن الأمومة والأمّهات!
﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾ (سورة الأحقاف، الآية: 15).
– من أحَقُّ الناسِ بحُسن صحابتي يا رسول الله؟
– أمُّك.
– ثم مَن؟
– أمُّك
– ثم مَن؟
– أمُّك
– ثم مَن؟
– أبوك.
“إن كلَّ ما هو جميلٌ في الإنسان لا يعدُو أن يكونَ مستمَدًّا من أشعة الشمسِ ومن حليبِ الأم”! (مكسيم جوركي)
الأمُّ أعظــــمُ من خيــــالِ عُــقولِنا — ومن اللغات جـــديـــــدِها وقديمها
فإذا أردتَ الشعــرَ حُــبًّا خــالصًا — فانظِمْه من ألِف الحُروفِ وميمِها !
(البيتان من نظم الكاتب)
الأمُّ! وما أدراك ما الأم؟!
إنها حَوَّاء أمُّ البشر، وهاجر أمُّ إسماعيل، ويوكابد أمُّ موسى، ومريم أمُّ عيسى، وآمنة أمُّ محمد؛ بل إنها آسيا امرأة فرعون التي قالت: ﴿قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾ (سورة القصص، الآية: 9).
يذهب كثيرون إلى أن الأمومةَ (Motherliness) شيءٌ غريزي، وضعه الله تعالى في المرأة عند بَدء خلقِها، لحفظ النوع الإنساني وضمان تكاثره، وقد أُحيطَ بقدسيةٍ وجلالٍ سامِيَين لائقَين. وقد كلّل الله هذه القدسية وهذا الجلال بما وضعه في نفسية المرأة وروحها، وغرائزها التي انفردت بها وامتازت عن الرجل؛ فاللطفُ والعطف والحنان والرفق، والتجاوب الشعوري واللا شعوري من صفات الأم، ومن مستلزمات الأمومة لحضانة هذه المضغة الضعيفة والبضعة اللينة. وبواسطة هذه الصفات، مع عناية الخالق، تمكّنت الأمُّ من تنمية هذه البضعة وتعهُّدِها إلى أن اكتسبت صفة المخلوق البشري.
إن الأمومة كما يقول الدكتور “عز الدين فراج”: “قَبَسٌ من رحمة الله وعنايته بعباده، أودعه في قلوب الأمّهات، فأصبح في قلب كل واحدةٍ منهن شعلة من العطف والرحمة لا تخمد نارُها، وينبوعًا متدفقًا من البر والحنان لا ينضب معينُه. ولولا هذه الشعلة، وهذا الينبوع، لما تعاقبت الأجيال، ولما رأينا هذا الكون الشاسع قد امتلأ بالإنسانِ ونسلِه”.
وفي مقالها: “عاطفة الأمومة تفعل بالمرأة العجائب”، ترى الأستاذة “أمينة السعيد” أن المرأة لا تكتمل شخصيتها، ولا تنضج أخلاقُها واتجاهاتُها، قبل أن تصبح أمًّا، وذلك لأن الأمومة هي بوتقة الحياة الحق، وفيها تنصهر عومل النفس أيّ مادةٍ أفضل. وإذا كانت التربية الصحيحة ترسم الخطوط الرئيسية لشخصية الإنسان، والمدارس تبني هيكلها العام، فإن الأمومة بمؤثراتها القوية تكمل بناء شخصية المرأة، ثم تصقل ذلك البناء وتهذبه بما يجعله أقرب ما يكون إلى المعاني الإنسانية السامية.
بمَ تفضُلُ الأمُّ الأب؟
إن صعوبة الحمل والوضع والرّضاع والتربية تنفرد بها الأمّ وتشقى بها دون الأب، فهذه ثلاث منازل يخلو منها الأب، وقد جرى لـ “أبي الأسود الدؤلي” مع زوجته قصة أبان فيها هذا المعنى، ذكر “أبو حاتم عن أبي عبيدة” أن “أبا الأسود” جرى بينه وبين امرأته كلام وأراد أخذ ولده منها، فسار إلى “زياد” وهو والي البصرة، فقالت المرأة له: أصلح الله الأمير، كان بطني (وعاءه)، وحجري فناءه، وثديي سقاءه، أكلؤه إذا نام، وأحفظه إذا قام، فلم أزل بذلك سبعة أعوام، حتى إذا استوفى فصاله، وكملت خصاله، وأملت نفعه، ورجوت دفعه، أراد أن يأخذه مني كرها!
قال “أبو الأسود”: أصلحك الله، هذا ابني حملته قبل أن تحمله، ووضعته قبل أن تضعه، وأنا أقوم عليه في أدبه، وأنظر في أوده. فقالت المرأة: صدق أصلحك الله، حمله خفًّا وحملته ثقلا، ووضعه شهوة ووضعته كُرها. فقال له “زياد”: أُردد على المرأة ولدها، فهي أحق به منك، ودعني من سجعك.
ويقول الشاعر “إدوار حنا سعد” في قصيدة “الأمومة” (مجلة العربي، مايو 1959):
قدَّر الله أن نَـــــــــدين بمَــحيـا ** نا لفضلِ الإناث قـــــبل الذّكورِ
أمُّنا الأرضُ بالنسائم تحـــــييـ ** ــنا وبالنبت والفــــــرات النميرِ
أمنا الشمسُ مـــــا تزال تغاديــ** ــنا وتسعى لنا بدفءٍ ونــــــورِ
أمُّــنا الأمُّ من دمـــــاها روينا ** في بطونٍ كــــــــريمةٍ وصدورِ
ما لِبانُ الثُّدِيِّ إلا دمــاهــــــا ** قطرَتها مــــــــن رحمةٍ للصغيرِ
إنَّــــــه المضغة التي أنجبتها ** فغَدَت كـــــــونَها وبرجَ السرورِ
دار بالسعد نَجمُه وهـو يجلو ** مشرق اليسر في الزمان العسيرِ
الكـلالُ الثقيلُ والألم المضــ ** ــني وسهد الدجَــى وقوم البكورِ
صوَرٌ من سخائها ظاهراتٌ ** غير نعمَى سخـــــــائها المستورِ
أجرُها أن تراه وهــو قريرٌ ** بارك الله أجــــــرَها في الأجورِ!
أمَّهاتٌ لم يَلِدنَ أبدا
في أفريل 1971، صدرت في سلسلة “كتاب اليوم” مجموعة قصصية للأستاذ “يوسف جوهر”، عنوانها (أمَّهاتٌ لم يَلِدنَ أبدًا)، وهو اسمُ واحدةٍ من قصصها العشر، تدور حول معلمة كان التدريس هو كل حياتها، لا زوج ولا ولد، وأقاربها في بلدٍ سحيق. لقد مرَّ بها الشباب، ومسَّها بجناحه الساحر، وكان شَعرُها فاحمًا، وجسدُها خصبًا، وقلبها كان يستطيع الحب، ولكن لم يتقدّم أحدٌ ويطرق بابه.. ثلاثون سنةً والحركة الرئيسية في حياتها أن تعبر الشارع الضيق بين سكنها والمدرسة عدة مرات في اليوم… والآن هذا انتهى، ولم يعد من حقها أن تدخل الفصول، ووجدت نفسها فجأةً مع الفراغ والذكريات… والرغبة المستحيلة كي تعود إلى تلميذاتها اللائي كن يملأن حياتها بهجةً وأنسًا، بمرحهن الصاخب وشقاوتهن المحببة.
وذات ليلة صادفت عيدَ الأم، جاءتها إحدى طالباتها القدامى، كانت قد قاست في حياتها، وفشلت في زواجها، وكتبت عليها المقادير أن تكون عقيمًا، فلم تجد غير معلمتها، “وتولاني الشعور أن النظرات تحيطني بحلقة مُحكمة، وأني في حاجةٍ إليكِ لكي تحطمي الحصارَ وتضميني إلى صدرك، وتهمسي في أذني بحنان: لا ذنب لك في هذا.. لا ذنبَ لك”.
وبكت المعلمة كما لم تبكِ من قبل في حياتها، وطاب لها أن تجد بنتًا تريح رأسها على صدرها، وتلاقي في دمعها الشعور بأن في قلب كل امرأةٍ قبسًا من الأمومة، وأن العالم يعتز بأمّهاتٍ لم يلدن أبدا.
والقصة بسيطة في بنائها، إنسانية في مغزاها، وفكرتها قد تكون طريفة، لكنها ليست جديدة؛ وأذكر أن للأستاذ “محمد سعيد العريان” قصة عن “ثمن الأمومة” (مجلة الرسالة، سبتمبر 1940) تشبهها إلى حدٍّ بعيد، ولا مجال هنا للموازنة بينهما، وقريبٌ منهما أيضًا قصة “الأمومة” لـ “محمود تيمور” (مجلة الهلال، مارس 1932). وأذكر أنني في طفولتي الأولى كنت أتأذَّى كثيرًا من بعض نسوة الحي وهن يعيِّرن إحداهن بأنها لم تنجب، ولم تكن هذه المرأة المسكينة تملك غير دموعها، وغير الدعاء عليهن بأن يذقن ما هي فيه. وقد أوحت إليَّ مأساتُها بهذه الأبيات التي نظمتها منذ سنين، ونشرتها في ديواني (ثورة حواء)، الذي يضم خمسين قصيدةً كلُّها على لسان المرأة ومن وحي تجاربها، استعَرت فيه ضميرَها وتحدثت نيابةً عنها. وهي عن (الأم التي لم تلِد)، ومؤدَّاها: “رُبَّ أمٍّ لم تلِد، ولها ألفُ ولد”:
يُعَيِّرُنـي الأُلَى جَحَدوا ** بما رُزِقوا وما وجدوا
وقالوا: أنتِ لم تلِــدي ** وقـد أغرى بهم حَسَـدُ
فلا قنعوا ولا رحــموا ** عقيمًا مـــا لها سنـــدُ
تعالج حسرة الحرمان ** بالأقــــــدار تـعتــــقدُ
وقد آذَوا بما قــــــالوا ** فــــــؤادًا مِلؤه الكـمَدُ
ولم يَــــدرُوا بما ألقاهُ ** أو مــا يفعلُ النَّكَــــــدُ
عقيمٌ.. صحَّ ما قالوا ** ولـــكن فاتَهــم رَشَـــدُ
أنا أمٌّ بــــلا ولـــــــــدٍ ** فليس الأم مَــــــن تلِدُ
وأبحثُ تحت أقدامي ** عن الفردَوسِ لا أجـدُ
ومــــا في حيلتي أمرٌ ** قضاهُ الواحــدُ الأحـدُ
ولكنْ كَم من الأطفال ** بي وبرحمــتي سَعِدوا!
هل المرأةُ أمٌّ بطبيعتها؟
وأذكر أنني قدر قرأت ما يؤكد هذا في كتاب “سيكولوجية المرأة” للدكتور “زكريا إبراهيم”، حين أوردَ ما قالته “هيلين دويتش” من أن “حب الأم” ليس غريزة، بل هو عاطفة، أو حالة وجدانية؛ فليس حب الأم مرتبطًا بالضرورة بالحمل، وإنما يكون في استطاعة المرأة أن تبديَ “عاطفة الأمومة” نحو طفلٍ تبنَّته، أو نحو أبناء الزوج الذين أنجبهم من فراش الزوجية الأول. وليس غريبًا أن نجد بين النساء من تتّجه بحاجتها الطبيعية إلى الأمومة نحو موضوعات أخرى (غير أبنائها)، فنراها تعطف على أبناء الآخرين، أو تبدي حنان الأمومة نحو طائفةٍ من البالغين.
وللشاعرة السورية “عزيزة هارون” قصيدة تحمل هذا المعني، سمّتها (نداء الأمومة)، وأهدتها “إلى الطفلة البائسة المحرومة من الحنان، إلى التي نادتني ماما، وتعلَّقت بي دون معرفةٍ سابقة، إلى من فجَّر نداؤها في نفسي ينابيع حبٍّ عميقٍ كنتُ أجهلُه”:
أنا ماما يا بنية — هكذا ناديتِني
فانتشت بي آه — في كلِّ حَنيَّة
يا سخية
أنت أغليت الهدية
أنت أترعتِ كؤوسي — بالنداءات الندية
فأنا ظمأى إليها يا بنية…
اغمريني بالدلال الطـــــــفلِ تغمرك حياتي
أنا عطشى للهوى النشوان في أعماق ذاتي
للحـــــــــــنان الثرِّ يرويني ويروي لهفاتي
اغمــــريني فأنا مثلُكِ عطشَى يا فـــــتاتي
أنا أمٌّ رددي هذا النداء — ردّديه أنت فيه
نغمات ورواء
أنا أمٌّ وتجلَّى الله في نفسي
ورويت الهوى والكبرياء
هذه الروح وهذا الحسن من روحي
ففي روحي كَنزٌ من ضياء!
الأمُّ مدرسة
وإذا كنا نترنم كثيرًا بقول “حافظ إبراهيم”:
الأمُّ مدرســـــــةٌ إذا أعددتَها ** أعددتَ شعبًا طيبَ الأعـــراقِ
فإن للشاعر “معروف الرصافي” قصيدةً بديعةً توشك أن تكون شرحًا بيانيًّا ومفصَّلًا لهذا البيت، وهي أولى بأن نرددها ونقرِئها أولادَنا وبناتَنا:
ولم أرَ للخـــــــــــلائق من مَحَلٍّ ** يُهَذِّبُـــــها كحِضن الأمــــــهاتِ
فحِضنُ الأمِّ مـــــــدرسةٌ تسامَت ** بتـــــــــــربية البنـين أو البناتِ
وأخـــــــــلاقُ الوليدِ تقاسُ حسنًا ** بأخـــــلاق النساء الـــــوالداتِ
وليس ربيبُ عالية المـــــــــزايا ** كمثل ربيب سافلةِ الصــــــفاتِ
وليس النبتُ ينبُتُ في جــــــــنانٍ ** كمثل النبتِ ينبت فـــــي الفلاةٍ
فيا صدرَ الفتاة رحُبتَ صــــدرًا ** فأنت مَـــقرُّ أســــنى العاطفاتِ
نراك، إذا ضممتَ الطفلَ، لوحًا ** يفُــــــوقُ جميع ألـــواح الحياةِ
إذا استند الوليـــــدُ عليك لاحت ** تصاويرُ الحــــــنان مصوَّراتِ
لأخــــــلاق الصبيِّ لك انعكاسٌ ** كما انعكس الخيالُ على المِرآةِ
وما ضــربات قلبك غير درسٍ ** لتلقين الخـــــــصال الفاضلاتِ
فأولُ درسِ تهذيب السجــــــايا ** يكـــون عليك يا صــــدر الفتاةِ
وهــــــــل يُرجَى لأطفالٍ كمالٌ ** إذا ارتضــعوا ثُدِيَّ الناقصات؟!
يُتمٌ في الكهولة
حين فقد الشاعر “محمد الهراوي” والدته كان في سن الكهولة، فهزت ضربة القدر المفاجئة مكامن الحزن والألم، فاهتاجت شاعريته وتدفقت، وكتب قصيدته الرائعة “إلى أمِّي”:
تكشَّفت للأحداث بعدك يا أمي ** فيا طول ما ألقَى من الحـزن والهمِّ
لِيَ الله يا أمَّـاهُ ما أنا بالــذي ** تعوَّدَ أن يقوَى على الحـــــادثِ الجَهْمِ
تلمَّستُ حزني في المُصابِ وعزَّني ** لقد غاب عني في الثرى مصدرَ الحِلْمِ
فقدت أبي طفلًا فلم أدرِ ما الأسَى ** واُفقِدتها كهلًا فهدَّ الأسى عــــــــزمي
سلوني أحـدِّثكم عن اليتم بعدها ** فإن اليتيمَ الكــهلَ أعـــــرَفُ باليُتمِ
فيـا ليت أيام الحياةِ وقفْن بي ** لدى موضعي منــها مــن اللثمِ والضمِّ
ولم يكن “الهراوي” نسيجًا لوحدِهِ في حزن الكهول على موت أمهاتهم؛ فلم تكد أمّ “أبي العلاء المعري” تغادر هذا العالمَ الفاني حتى جُنَّ جنونُه، وخانه تجلده ونفد صبرُه، فأجهش بالبكاء والعويل، وملأ الدنيا رثاءً لأمه في قصائد ومقطوعاتٍ بث فيها نار جواه، ونفث فيها مرارة ألمه، وتمنى لو سبقها إلى الموت فقال:
وأمَّتني إلى الأجـــــداث أمٌّ ** يعِزُّ عليَّ أن ســـارت أمامي
مضت وقد اكتهلتُ فخِلتُ أني ** رضيعٌ ما بلغت سوى الفطامِ
ولـ “الشريف الرضي” مُطوّلة موجعة في رثاء والدته، أمعن في بكائها، وخانه تجلُّدُه عند فراقها، واستهلَّها بقوله:
أبكيك لــــو نقَـــــع الغليلُ بكائي ** وأقول لــــو ذهب المقالُ بدائي
فارقت فيـــــكِ تماسكي وتحمُّلي ** ونسيت فيــــك تعززي وإبائي
وصنعت ما ثلم الـــوقارَ صنيعُه ** مما عراني من جوى البرَحاءِ
قد كنت آمل أن أكون لك الفِدى ** مما ألمَّ فكنتِ أنــتِ فــــــدائي
لقد صدق من قال إن الكهولة معرفة وخبرة ونضوج، وقوة إحساس، وسعة أفق ومدارك؛ فإذا اصطدمت بالألم الصاعق فإن وقعَه يكون أليمًا وشديدًا عليها، والطفولة لا تستوعب الألم، ولا يعمق في نفسِها، لأنها لم تقبض على جذور حياتها، ولم تتمكن من تثبيت قواعدها في الحياة، فإذا ما واجهت الألم فإنه لا ينفد إلى الصميم من عقلها وفؤادِها، ويمرّ عنها دون أن يحتفر له مسالك ودروبًا في حناياها.
أمَّا اليتيم الكهل فإن له شأنًا آخر؛ فالألم ينضجه، والحزن يُلهِب أعصابَه، ويصحو منه إنسانًا جديدًا، استقرت معاني الحياة في نفسه. إن افتقاد الأصل الذي ننبعث عنه ينمّي عقلية الإنسان، فيسعى لتأصيل جذوره، وإحياء صورة تماثله، تسير في الحياة، ترثُ عنه جميع مقاوماتها ابتغاء للبقاءِ والثبات. ولعل هذا ما دفعني إلى نظم هذه الأبيات بعد وفاة والدتي وأنا أخطو نحو الخمسين:
أُمَّاهُ.. شَيَّبني الزمـــانُ وصرتُ فيه أباً وجَدَّا
وتعبتُ من هــــذي الحياةِ وعِفتُها هَزْلا وجَدا
هي في النهاية لُعْبةٌ نجتازها: كسلاً وجِـــــدَّا
لكنني الطفلُ الـــــذي أَوْحَشتِهِ يا أمِّ جِــــــــدَّا!
الأمومة الأولى
ويذهب الدكتور “أمير بقطر” في مقاله عن “الأمومة الأولى” (مجلة الهلال نوفمبر 1938) إلى أن في الأمومة الأولى نشوةً تستولي على مشاعر الفتاة لا تعادلها نشوةً أخرى في أيّ طورٍ من أطوار حياتها. وإذا كان القِران السعيد أجمل حادثٍ في حياة الشاب، فإن الأمومة الأولى أبهج حادثٍ، وأروع مناسبة في حياة الشابة. المرأة بطبيعتها شديدة الشغَف بقدوم هذا اليوم السعيد؛ لأن عقلها الباطن يحدِّثُها في كل حين بأن رسالتها الحقيقية في الحياة تبدأ منذ ذلك الحين، وبأنها.. كالتربة الرملية المجدِبة، تحترق بحرارة الشمس، ولا تنبت من الخضرة ما يروِّح عنها هذه الحرقة، أو تجد من الأشجار الوارقة ما يأويها ويظللها.
وليس ثمة مجالٌ للشك في أن منشأ هذه العاطفة غريزةٌ تكاد تكون ملموسةً في المرأة منذ نعومة أظفرِها. فالطفلة تلعب “بعروسها” وتحرص عليها أكثر من كل أنواع الدُّمَى الأخرى، وإذا ما حملتها بين ذراعيها رأيت في حسِّها واتجاه حواسِّها وحنوّها وعطفها وسائر حركاتها وسكناتها، ما تراه في أمٍّ كاملةِ النمو.
ولئن كان هذا التعليلُ الذي ذكرناه نفسانيًّا (سيكولوجيًّا)، فإن هناك علةً أخرى وظيفية جثمانية (فيزيولوجية)، هي من الأسباب التي تغمر الفتاةَ الشابَّةَ بنشوة الفرَح، في أول عهدها بالأمومة، وذلك أن الاتصال والملاصقة واللمسَ من الظواهر الفيزيولوجية التي ترتاح إليها الكائنات الحية. ولمَّا كانت هذه الظواهر تتمثل أجمل تمثيل في الأمومة، لاتصال الجنين بالأم؛ فإن أول لحظة تحس فيها الفتاةُ بهذا الاتصال، تبعث فيها من دواعي الغبطة والسعادة، وألوان الوجدان والعاطفة، ما تعجز لغة البشر عن التعبير عنه. وما قُبُلاتُ الأم لمولودها إلا مواصلة لهذا الوجدان وتخليدًا لهذه العاطفة.
ولا أنسى أبدًا يوم حكَت لي صديقةٌ سورية مأساة حياتها الكبرى، حين فقدت منذ عشرين سنةً ابنها الرضيع قبل أن يتمَّ عامَه الأول، وفقدت معه كلَّ أملٍ في الحياة، وكلَّ رغبة في العيش، وظلت تحيا على ذكراه إلى يومنا هذا، وتتخيله كل يومٍ وهو يكبر أمام عينيها، حيث لا يراه ولا يحس به أحدٌ غيرُها؛ وتتخيله وهو يلهو مع رفاقه، أو وهو عائدٌ من المدرسة، ثم تذهب إلى أبعد من هذا فيرتسم أمامها وهو يحب فتاة من الحي ويحدثها لتخطبها له، ولولا بقيةٌ من إيمانٍ ويقين لأدَّى بها خيالُها الحزينُ إلى هاويةِ الموت أو الجنون. فنظمتُ لأجلها هذه القصيدة “من وحي تجربة أمٍّ فقدت رضيعَها”:
عشرون عامًا مِلْؤها حُـــــزني ** أبكي بــــلا صــــــــــوتٍ ولا لَحنِ
عشرون عـامًا مــنذ أن دفنوا ** أنسامَ عطرِك فــي الثرى يا ابني!
عشــــرون عــامًا أنت في قلبي ** في خــاطري في الروح في عيني
قم يا صــغيري وابعث الدنيا ** بلحــــــــــــونك العذراء في أذْني
وافتح عيــــــونك إنني ظـمأى ** لبريق عيـنك فاتــــــنِ الحُـــــسْــنِ
ويداك.. هيــا ضُــمَّني بهــــما ** أرني صغيري روعــــــةَ الحِضـنِ
يا ابن السنين وعامٌ كنتَ فيه معي ** والعــــــمرُ بالأشـــواق لا السِّنِّ
ها أنت حـــيٌّ.. لــــم تغبْ أبداً ** وأكـــاد أشـــــعر: أنت في بطني
لا يا حبيبـــــي.. لا تصــــدقهم ** أنا لا أحــسُّ بـــــــلوعة البَـيْـــنِ
إني أراك تطــوف فــي رئتي ** مــــــن قال إنك متَّ… يا إبني!!!
قصائدُ منسية عن الأم
كثيرةٌ جدًّا تلك القصائد الجميلة التي نظمها الشعراء عن الأمّ، ومنها ما هو منسيٌّ أو مجهول، ولعل من بينها قصيدة طالعتها منذ زمنٍ في كتاب “المحفوظات المختارة” الذي كان مقرَّرًا على طلاب السنة الرابعة الابتدائية سنة 1940، وهي للشاعر العراقي “معروف الرصافي”:
أوجَـبُ الواجبـاتِ إكــرامُ أمِّــــي ** إن أمـــي أحـــقُّ بـــالإكـــــــرام
حملتنــي ثقلا ومـن بــعـد حملـي ** أرضـعتني إلى أوان الفـــــــطام
ورعتنـي فـي ظلمة الليـــل حتى ** تركــت نومَهــا لأجـــــل منــامي
وبلطـــفٍ تــــعهـــدتني إلى أن ** زال ضـعفي واشـتد ليـن عظامي
عنيـت بـي عـــنايــة واسـتمرت ** بشـــرابي مُــــهتمـــة وطعـــامي
أنـا مـذ كنـت قبل في حضن أمي ** يــوم كـانت تـــــربّنـي باهتمـام
لـم أكـن عنـد يقظـتي ورقــــادي ** في أولى العقل أو أولى الأحــلام
إنمــا كنــت كالســخـــــيلة طـفلا ** فاقـد الفهـم عـاجزا عـن كـــــلام
فــترعرعت ناشـئا ثـم قــد صـر ** ت غلامـــا ولـــم أكــن بــــغلام
وتفهمـــت حــــــق أمــي كــبيرا ** عنـدما صـرت مـن أولي الإفهام
كـل هـذا مـن فضـل أمـي ولولا ** فضــلها كنــت عــرضـة للحِمـام
إن أمــي هــــــي الـتي خلقتنـي ** بعـد ربـي فصـرت بعـض الأنام
فلهـا الحمـد بــــعـد حمـد إلهـي ** ولهـا الشـكر فـي مـــــــدى الأيام
وفي قصيدته “كنز الأمومة” يرى الشاعر “أحمد عبد الحفيظ سلَّام” أن الأمومة هي أغلى وأبقى مواهب المرأة؛ وليس حُمرة الخدِّ واعتدال القوام:
حــوَّاء أسمى أن يقال لها ** فتَّانةٌ في محفل الطُّهْرِ
إن أقدِّسُ فيكِ موهــــــبةً ** جلَّت عــن التقديرِ والقدرِ
يا أم أبنـائي ومن وهبَت ** أثمـــــــارَها حُيِّيتِ بالشكْرِ
ما أنتِ إلا دوحـةٌ نثرَت ** أزهارَها للأرضِ فـي يُسْرِ
كَنزُ الأمـــومةِ لا يعادِلُه ** سحرُ العيــونِ ورِقَّـة الثغرِ
ويُروى أن “عبد الله بن الزبير” حين حاصر “الحجاج بن يوسف الثقفي” مكة يريد هدم الكعبة ويعرض عليه أن يُسَلِّم، جاء أمَّه “أسماء بنت أبي بكر”، يشكو لها انفضاض أصحابه من حوله وتخلّيهم عنه، فأوصته بالثبات في المعركة حتى النهاية؛ فالأبطال لا يتسحبون من المعركة ولا يهربون من الميدان، فقاتل حتى قُتِل، وقد نظم “المنفلوطي” الحوارَ الذي دار بينهما في هذه الأبيات الرائعات:
إن أسماء فـــي الـــورى خيرُ أُنثى ** صنعت في الوداع خـير صنيعِ
جـــــاءَها ابنُ الزبيرِ يسحبُ دِرعاً ** تحتَ درعٍ منسوجةٍ مـن نجيعِ
قـــال يا أُمّ قـــــد عييتُ بأمـــــري ** بين أسْـــرٍ مُـــــــرٍّ وقتلٍ فظيعِ
خانني الصحبُ والزمـــان فما لي ** صـــاحبٌ غيرَ سَيفي المطبوعِ
وأرى نـجـــــمي الــــــذي لاحَ قبلاً ** غــــــابَ عني ولم يَعد لِطلوعِ
بذل القـــــومُ لــــــي الأمانَ فما لي ** غيــــــــــره إن قبلته من شفيعِ
فأجابت والجــــــفن قـــفر كــأن لم ** يك من قبــــــل موطناً للدموعِ
واستحالت تلك الدمــــــوعُ بُخــاراً ** صاعداً مــن فؤادها المصدوعِ
لا تسـلِّـــــم إلا الحيــــــــــــاة وإلا ** هيكلاً شأنه وشــــــأن الجُذوعِ
إن موتاً فــــي ساحة الحربِ خيرٌ ** لكَ من عيش ذلةٍ وخضـــــوعِ
إن يكن قد أضاعك الناسُ فاصبر ** وتثبت فالله غيــــــــــــرُ مُضيعِ
مت هماماً كما حييتَ هـــــــماماً ** واحْيَ في ذكرِكَ المجــيدِ الرفيعِ
ليس بين الحـــــــياةِ والموت إلا ** كَرَّةٌ في ســـــــوادِ تلك الـجموعِ
ثُــــــم قامت تضمُّه لــــــــوداعٍ ** هائلٍ ليس بعدَهُ مــــــــن رُجـوعِ
لمست دِرعَـــــــه فقالت لعهدي ** بك يا ابن الزبيرِ غــيرَ جَــزوعِ
إن بأس القضاءِ في الناس بأسٌ ** لا يُــبالي ببأس تلك الــــــدروعِ
فنضاها عَنهُ وفـــرَّ إلى الموتِ ** بــــــــدرعٍ من الفخــــــــارِ منيعِ
وأتى أمَّــــــــــه النعيُّ فجادَت ** بـــــعـــــدَ لأيٍّ بدمعِــها الممنوعَ!
أمُّ الخائن
وتذكّرني هذه الأبيات بما كتبته الدكتورة “مكارم الغمري” عن “الأمومة عند جوركي” (مجلة البيان الكويتية، سبتمبر 1989)، وروت عنه قصة “أم الخائن”، وفيها يصور “مكسيم جوركي” دراما المشاعر في نفس أمٍّ تحبُّ ابنها وتقدس وطنها. كان الابن خائنًا، باع وطنه مقابل مجدٍ زائف، فترك أهلَه وعشيرته وسلَّم نفسَه للشيطان وأصبح خادمًا في جند الأعداء، يرابض مع جنوده، ويتربص لحظة ينقض فيها الأعداء على أهله ومدينته ليفوز بالغنيمة الموعودة..
كانت الأم تعيش وحيدةً في المدينة المحاصرة، وتعرف أن ابنها يقف هناك مع أعداء وطنها، فكانت تخرج في الليل السحيق هائمةً على وجهه، لا تهابَ وحشة الظلام أو تحذيرات الموت، كانت تهيم في صمتٍ منكسرٍ وحزن دفين، فابنها الخائنُ هو نفسُه ذلك الابنُ الذي كانت تنظر إليه في فخرٍ من وقتٍ ليس ببعيد، مثلما تنظر إلى هديةٍ غاليةٍ تقدّمها إلى الوطن، ومثلما تنظر إلى قوة طيبةٍ أثمرتها من أجل مساعدة المدينة التي ولدت بها، ثم أنجبته وأرضعته على ترابها…
وتبلغ دراما المشاعر قمّتها حين يخبر الابنُ أمَّه بعزمه الهجوم على مدينته في الليل القادم، حينئذٍ تقْدِمُ الأمُّ على “جريمة” قتل ابنها الذي تطعنه بخنجرٍ في صدره ليخرَّ صريعًا في الحال، فقد كانت تعرف جيِّدًا أين يخفق قلبُ ابنِها، وبنفس الخنجر الذي كان ما يزالُ دافئًا من دمه: دمها، وبيدٍ واثقةٍ غرزت الخنجرَ في صدرِها، فأصابَ قلبها بالضبط، فالقلب حين يتوجَّع يسهلُ التصويبُ إليه.
وتأني كلمات الأم قبل لحظةِ انتحارها، لتؤكد على عنف الصراع التراجيدي بداخلها، والذي لم يكن له من ثمَّ حل: “كإنسانةٍ: صنعتُ كل ما يمكن من أجل وطني، أمَّا كأم.. فسأبقى مع ابني!”.
ولـ “جوركي” نفسِه روايةٌ كبيرة تحمل اسم (الأم)، تشغل الأمُّ فيها مكانةً محورية، حيث تظهر لنا في الصفحات الأولى كامرأةٍ بسيطةٍ يطحنها الفقر والجهلُ والحرمان، لكن شعلة الحب الجارف لابنها تضيء من أمامها الحياة، لتنير لها الطريق الذي يسيرُ على دربه ابنُها ورفاقُه، وبالتدريج تتحول هذه الأمُّ الجاهلةُ إلى امرأةٍ تعي وتفهم، بل وتتبنى القضية التي يدافع من أجلها ولدُها. إن هذه المرأة الضعيفةَ تنزع عن كاهلِها حِمل العبودية الذي حملته لسنواتٍ طوال، ليحل محله شعورٌ بالكرامة وعزة النفس. ويصبح “البعث” الذي يزلزل كيان هذه المرأة: الأم رمزًا لإمكانية حدوث صحوةٍ عامةٍ تكون الطريقَ إلى حياةٍ أفضل.
إن الأمومة في تصوير “جوركي” هي تعبير عن “كل” ما هو جميل في العالم، والحب في تصويره يحمل دائمًا نفحات من مشاعر الأمومة، ومكانة الأم في المجتمع هي دلالةٌ على مستوى رقي هذا المجتمع.
هل تختفي (أسطورة الأمومة)؟
هل معنى ذلك أن الأمهات جميعَهن رحيمات لا يعرفن القسوة، وحانيات لا يمارسن الشدة؟ وفضليات لا يقعن في الخطيئة؟ أليس هنالك الأمُّ اللعوبُ التي لا تحبُّ إلا نفسَها ولا تعيش إلا لملذاتها؟ والأمُّ التي تكره أولادَها، نعم تكرههم، ولا تريد أن تضيع شبابها وصحتها وجمالَها في تربيتهم والعناية بهم؟ لقد قرأت ذات يوم مقالًا مخيفًا كان يتوقع اختفاء أسطورة الأمومة بعد أن تقدمت أبحاث زراعة الأطفال في الأنابيب والتحكم في عناصر الوراثة؛ فعندما يصبح من الممكن، مثلًا، تنمية طفل داخل إناء بالمعمل، ماذا سيحدث عندئذٍ لمفهوم الأمومة؟ وماذا سيحدث لصورة الأنثى في المجتمعات التي نشَّأَتها منذ بداية وجود الإنسان على فكرة أن رسالتها الأساسية في الحياة هي حفظ الجنس البشري وتنميته؟
ثم ماذا عن “الأم غير المتزوجة” التي انتهت بها سيرتها السيئةُ إلى أن تحمل سفاحًا وتِلد، ثم تترك ابنها للشارع أو الملجأ؟ وأسئلةٌ أخرى كثيرة، وشائكة، قد يتسع لتفصيلها والإجابة عنها مقالٌ قادم.. فإلى لقاء!
سمر توفيق الخطيب (كاتبة وباحثة فلسطينية – لبنان)
رسالة إلى الأم الأسطورة
بعد التحية، أكتب لك لأعبر لك عن مدى افتخاري بك يا أشجع نساء الكون. فأنت رمز القوة والعزيمة والإصرار، لا بل أنت الأسطورة، لأنه مهما عصفت الدّنيا في وجهك تبقين مناضلة وصامدة كشجرة الزّيتون.
في عيدك اليوم أردت أن أساندك برسالتي هذه، آملة منك أن تكوني الأقوى والأكثر صلابة وعزيمة؛ فأنت فخر كل الأمم، صغيرها وكبيرها، شيبِها وشُبانها.
أيتها الأم الشامخة
لو تدركين كم أتمنى لو أشبهك لأكون على قدر هذه التّحديات، وأرجوك كوني كما عهدناك شجاعة وصلبة؛ أنا أطلب منك بل أرجوك أن لا تيأسي، مع أني متيقّنة بأنك لن تُحبَطي، لأنك تستمدّين قوتك من إيمانك بالله، عز وجل، وهو لن يخذلك أبدًا. صعابٌ مرّت وأخرى تمرّ، ولكن أنت لها، وستتخطّينها حتمًا كما فعلت دائمًا وأبدًا، أنا أثق بقدراتك وأعرف تمامًا كم أنت متفرّدة عن غيرك من النساء؛ نعم، فالأخريات لا يمكنهن أن يتحمّلن مصابك ويبقين مثلك شامخات… أنت مدرسة، فكم نتعجب من بطولاتك، ومن صمودك، ومن قوة إيمانك، ومن اهتمامك بكل شيء، مع أنك تفتقرين إلى كل شيء.
كوني على يقين أننا نفتخر بك، ونفتخر بمن أنجبتِ وربّيتِ من الأبناء البواسل. فكم أنت رائعة لأنك كنت القدوة لأبنائك وبناتك الذين علّمتهم الدفاع عن الأرض والعرض. فها نحن اليوم نرى كثرة المتخاذلين حولك؛ في حين أبطالك يحاربون بنُبل وشجاعة، ليحافظوا على ما تبقّى من أرض فلسطين. وكم جميل أنهم لم ييأسوا رغم هول الأحداث؛ إنهم نِعم المجاهدون وحفظة القرآن والدّين، فقد اتبعوا سُنن الرّسول الكريم صلى الله عليه وسلم. فأنت رمز للعطاء ورمز للاستمرار، وكل رموز الدنيا لا تفيك حقك فعندما نقول الأم الفلسطينية، يكفيك ذلك فخرًا وعزًا.
أيتها الأم الجبّارة
مهما قلنا أو فعلنا، فإننا نقف عاجزين أمام صبرك وجبروتك… يا لك من امرأة يفتخر بها العالم بكل أطيافه ومذاهبه، فحياتك أبدًا لم تكن سهلة ولم تكن طريقك معبّدة، بل كانت مليئة بالأشواك التي دُست عليها مرات ومرات، ورغم التّعب والألم فإنك لم تستسلمي؛ وكم عصرتك المحن ولم تهادني، وكما عهدناك فإنك حتمًا ستسلكين طريق التّحرير الموعود؛ فالجنة تحت أقدامك ومفتاح القدس لا بد وأن يستكين بين يديك…
أيتها الأم الثّائرة
آه، كم مرّة ودعّت من شهداء… قوافل تصعد نحو الجنان… وبقيت رمزًا لتقديم التّضحيات… فهنيئًا لك أيتها المؤمنة. لو تعلمين كم نُحبّك، وكم نتمنى أن نكون مثلك أقوياء.
أيام عجاف وستمضي، لا تخافي ولا تجزعي، أراسلك لأزرع بك المزيد من الأمل لأنك لم ولن تفقديه. بك يكبر القلب، أدامك الله ذُخرًا لنا وذُخرًا للأمتين العربية والإسلامية. في حال راودك اليأس، لا سمح الله، وأنا متأكدة من أنك لن تسمحي بذلك، فأرجوك لا تستسلمي، ودوسي على ما تبقّى من الأشواك وتابعي الطريق… لأنك شارفت على الوصول، نعم… اطمئني فها هي بشائر النّصر تلوح في الأفق، يقول تعالى: “وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ” (القرآن الكريم، النور: 55).
أيتها الأم المناضلة
كم رابطتِ في وجه الاحتلال، وكم تشرّدتِ من مكان إلى آخر وفي كل مكان تركت بصمتك ليراها العالم بأسره، عبر قرية الإنترنت الصغيرة، حيث تمكّنا من معرفة بعض أخبارك، نظرا للظروف الصّعبة… كم كان رائعًا عندما رأيناك وقد نسجت الأمل بيديك فصنعت القبعات الصّوف لتحمي فيها من استطعت من الأطفال من برد الخيام القارس؛ وبالإبرة والخيط نسجت أجمل الأثواب التّراثية، وفي كل قطعة قمت بحياكتها رويت من خلالها قصة صمود مُشرّفة. كم أنت مناضلة وقادرة على الوقوف من جديد والمضي قدمًا رغم كل الخيبات التي واجهتها.
رغم الحصار والجوع فإنك لم تتواني عن أن تكوني رمزًا للمرأة العاملة والمنتجة والمتفانية والمتعلمة… ما أجملك… وكم أنك باقية ما بقي الزّعتر والزيتون..
حبيبتي
كم أتمنى أن أحضنك لأخفّف بعض ألمك، مع أني متيقنة أنك ستتعجبين لأنك تدركين حقًّا أنك من يبث الأمل في أرواحنا وينزع عنها كاهل هذه الأيام الثّقال. إنك مَثلُنا الأعلى، فها هن النّساء الأجنبيات يتعجبن كيف تزرعين الأمل وكيف أنك لا زلت قادرة على العطاء رغم كل ما حلّ بك وبأهلك وبوطنك الذي ينزف دمًا طاهرًا.
أنا أتعجب كيف أوجّه لك هذه الرسالة في حين أنك قادرة على توجيه رسائلك إلى كل العالم، إلا أنها محاولة للوقوف إلى جانبك في هذه الظروف المعقدة… فأنت القدوة وأنت كل شيء جميل يمكن أن يخطر في بال أحدنا. فعجبا لهذا الثبات! كيف تستطيعين؟ وكيف لا، وأنت تتمتّعين بأخلاق عالية وإيمان صادق؟
أيتها الأم الأبيّة
هنيئًا لك سيدتي، لأنك أبيت ولم تهادني أبدًا، في زمن الذّل، في زمن أصبحت الشجاعة فيه تهوّر، والجبن حكمة؛ في زمن أصبح الجهاد فيه إرهاب، والنّخوة عار؛ في زمن جفّت فيه الضّمائر، وماتت القلوب.
سامحينا، واعذري من خذلك من علماء الدّين، وأعذري أشباه الرجال الذين باعوا الدّين، فخانوا الأمانة. يا ليتهم كانوا كـ “الوشق” الذي على العروبة بصق وانطلق لنصرتك ونصرة فلسطين. فكم استصرخناهم لأجلك ولكنهم أبوا صامتين… يا لهذا الهوان، تركوكِ لمصيرك مع هذا العدو الظالم، ولم يقتدوا برسولهم محمد، صلى الله عليه وسلم، الذي هزم أعداء الدّين ورفع راية المسلمين.
فصبرا يا أمّنا عسى أن يستيقظ المسلمون الغافلون، وينفضوا عنهم غبار الوهن والخضوع والخنوع، ويشدّوا الرحال وينصروا أمّهم وأهلهم في فلسطين، مع أنك وأهلك “مكفيين وموفيين”، يقول تعالى: “أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ” (القرآن الكريم، يونس: 62-63).
أيتها الأم الصابرة
اصبري وصابري، فلا بدّ أن يصحى الغافلون، ويعلموا أن الجهاد في سبيل النّصر لن يكون إلا للمخلصين، ممن لم يفرّط بشيء من الدّين؛ يقول تعالى: “كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَة بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِين” (القرآن الكريم، البقرة: 249)؛ لا تجزعي، لأننا معك مستيقنين أن النَصر المبين آتٍ فهذا وعدٌ من رب العالمين؛ فهناك رجال لا تستكين، وتُعدّ العدّة لنصرة الدّين، إذ إنهم يقتدون بقوله تعالى: “وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ” (القرآن الكريم، الأنفال:60)؛ ويتاجرون مع الله خير تجارة، يقول تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ” (القرآن الكريم، الصف:11)؛ فكوني من المطمئنين، لأنك وأهلك من الفائزين. وها نحن نتضرّع إلى الله أن يردّ إليه المسلمين ردًّا جميلًا وأن يجعلهم من أهل التّمكين وينصرهم على أعدائنا وأعداء الدّين.
وعذرا لأننا مقصرون، ولك الله يا فلسطين… والله لا أستكين ولا أزال أقول إننا مقصرون… اللهم نسألك جبرا لقلب أمّنا في فلسطين، ونسألك أن تجبرها جبرا يتعجّب منه أهل الأرض والسماء.
وعزاؤنا أننا نشعر وكأن سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، يخاطبك من خلال مخاطبته لابن عمه ابن عباس رضي الله عنهما وهو رديفه إذ يقول: “يا غُلامُ إنِّي أعلِّمُكَ كلِماتٍ، احفَظِ اللَّهَ يحفَظكَ، احفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تجاهَكَ، إذا سأَلتَ فاسألِ اللَّهَ، وإذا استعَنتَ فاستَعِن باللَّهِ، واعلَم أنَّ الأمَّةَ لو اجتَمعت علَى أن ينفَعوكَ بشَيءٍ لم يَنفعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ لَكَ، ولو اجتَمَعوا على أن يضرُّوكَ بشَيءٍ لم يَضرُّوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ عليكَ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحفُ”.
أيتها المرابطة في وجه الاحتلال، إنك ظاهرة غريبة قد لا تتكرّر، فأنت شهيدة، وأم شهيد، وأرملة شهيد، ووالدة أسير، وأم أسيرة، وبنت شهيد… فعادة يُقال: “وراء كل رجل عظيم امرأة عظيمة”، ولكننا وبكل فخر نقول: “إن وراء كل مقاومٍ أمٌّ فلسطينية مناضلة”.
دمتِ لنا عزًّا وعزوة، أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه. آواكِ الله، حفظكِ الله، نصركِ الله، ثبَّتكِ الله، أيَّدكِ الله؛ ولا يسعني إلا أن أقول: لا سامح الله أبدًا كل من خذلك… كوني قوية… كوني أنت.

أخجل من دمع أمي!
القصف لا يُسكتها، فهي صرخة حنان تعلو فوق أنقاض الحرب: الأم الفلسطينية تُرضع أبناءها من زيتون الصمود.
الأم هي الإنسان الوحيد على الأرض الذي يعاملك بعطفٍ وحنانٍ مهما صنعَت بك الحياة. تحبّك بلا شروطٍ وبلا مقابل، وترى فيك الابنَ الأفضلَ والأجملَ والأطيبَ. تهذّبك وتربّيك بأفضل الأخلاق لديها، وتراك أنيقًا ونقيًا. تدعمك في كل الظروف، وتساندك في كل المحن، تُحدّثك بكلمةٍ طيبةٍ، وتشقى من أجلك. مهما كان حالها من ألمٍ أو تعبٍ أو إجهادٍ أو كِبَرٍ أو مرضٍ، تقابلك ببسمةٍ ودلال.
الأم هي الملجأ الذي لا يردّك، والمصدر الذي لا يُخيّبك. ومهما جارت عليك الدنيا، تبقى عزيزًا عندها ولا تهتزّ قيمتك. تراك ابنها وصغيرَها مهما كبرتَ. تلك التي سهرت الليالي تهزّك بين ذراعيها حتى تنام، والتي يؤلمها دمعُك صغيرًا عند المرض. تلك التي تجري خلفك وأنت تحبو، والتي تجثو على قدميها لمساعدتك في خطواتك الأولى. تلك التي ترافقك إلى باب المدرسة، ترتّب دفاترك، وتقرأ لك كتبك. وحتى إن كانت غير متعلمة، تجلس بجانبك لتتعلم كتابةَ حروفك الأولى بلغتها هي: “اللغة الأم”.
تلك التي تنتظر نتائجك الدراسية معك، تقلق معك، وتحتفل معك. تلك التي تتأكّد أنك لم تنسَ شيئًا حين تهمّ بالخروج من البيت، والتي تتبعك بمعطفٍ خَشِنٍ في يوم بردٍ حتى لا تمرض. تلك التي تهتم بما تحب أن تأكله وما لا تحب مذاقه، والتي توقظك في ساعة صباحٍ باكرةٍ كي لا تتأخّر. هي التي تقف إلى جانبك حين تكون بلا عمل، وأولُ مَن يطمئن قلبُه حين تبدأ العمل.
أمّك التي تسعد لزواجك، والتي يكون سرورها أكبر من سعادتك بمولودك. أمّك التي تراك دائمًا طفلَها الصغير حتى لو أصبحتَ كهلاً، حتى لو صرتَ جدًّا. تلك التي تسألك: “هل تناولت العشاء؟”، “هل عدتَ إلى البيت في المساء؟”.
أمّا حكاية الأمّ الفلسطينية، فهي حكاية نضال مستمر. في زواجها، لم تكن هناك حفلة كبيرة. الوقت لا يسمح بذلك، فالزمان زمن مآتم وحرب. لم تحتفل بعرسها مثل كل شابة في يوم فرحها. في حملها، لم تتوحّم، فلا شيء موجود في ثلّاجتها، ولا في دكاكين حارتها. وحين جاءها المخاض، لم يكن هناك مكان في العيادة، فالزمان زمن حرب، والأولوية للجرحى، وللمصابين، والمقصوفين.
بعد ولادة عسيرة وتقليدية، وجدت نفسها أمام مسؤولية كبيرة. من أجل أن يصبح ابنها رجلًا فلسطينيًّا، أصبحَت تخاف كثيرًا… تخشى أن يفزع رضيعها من صوت القصف خلف بيتها، أو أن يستيقظ على وقع انفجار عمارتها، أو أن يموت من الجوع والعطش. باتت تخاف من اليُتم على ابنها أكثر من خوفها من ترمّلها، فهي زوجة شهيد قضى من أجل الحرية وقضية أرضٍ مسلوبة. تخاف أن يُصاب بطلقة وهو يلعب مع أقرانه في الشارع، أو أن يستهدف انفجارٌ مدرستَه، لأن العدو الغاشم لا يعرف معنى الإنسانية، ولا يرحم حتى من هم في الطفولة…
لأنها أمٌّ، تخاف على ابنها من التشرّد بعد الدمار، تعيش القلق والخوف حتى أصبحا جزءًا من حياتها اليومية. لأنها أمّ فلسطينية، تبكي رجالَ بيتها شهيدًا شهيدًا: أبًا وأخًا، زوجًا وابنًا… لا تتوقف الجنائز والمراثي، فمنذ ولادتها، لم تعش سوى الحرب بأسماء كثيرة؛ مرة نكسة، ومرة انتكاسة، ومرة حرب على الأقصى، ومرة “غزة تحت النار”… والعدو الصهيوني لا يستحي، ولا رادع له.
وحين يقول العربي: “كفى اغتيالًا في غزة”، تقول أمريكا: “أنا الداعم لإسرائيل والحَكَم في الشرق الأوسط”. وبكاء الأم الفلسطينية لا ينتهي، فالقوة ملكهم، والسلاح صناعتهم، والقرار بأيديهم. وكما قال “تشرشل”، الذي هو واحد منهم: “لا يمكنك التفاوض مع النّمر عندما يكون رأسك داخل فمه”.. العرب، وكل الدول الإنسانية المسالمة في العالم، في موقف ضعف وتحت رحمتهم، ولا قدرة لهم على نجدة الأم الفلسطينية.
لكن الأم الفلسطينية وَلّادة للأسُود، فلا يُدفن أسدٌ شهيدًا حتى تلد من هو أعظم منه. الحرب مستمرة، والأمل مستمر، مثل قِدَم زيتون أرضها وأشجار تينها.
الأم الفلسطينية قوية بصبرها، وباستمرارها في الدفاع عن لغتها ودينها بزرعهما في أبنائها، صامدة لا تتأثر. فكما أنها نبع الحنان، فهي نبع الإرادة، والاستمرار على العهد حتى النصر. فالمظلوم لا حيلة لديه إلا استعادة حقه المسلوب.
منذ الصغر، نسمع عن شجاعة الأم الفلسطينية، وطيبتها، وعلو شأنها عند ابنها. فهي صورة راسخة في ذاكرة كل من درس الأدب العربي. فقد قال “محمود درويش” يومًا:
أَحِنُّ إلى خبز أمي
وقهوة أمي
ولمسة أمي
وتكبرُ فيَّ الطفولة
يومًا على صدر يوم
وأعشقُ عمري لأنِّي
إذا مِتُّ
أخجلُ من دمعِ أمي!
فإذا بالملايين من الأطفال، والرجال، والنساء، يردّدون معه تلك الكلمات التي خرجت من قلب ابن بارٍّ إلى أم بريئة، فصارت نشيد كل الأبناء الطيبين نحو الأمهات العزيزات. ووصف الأم الفلسطينية هو وصف لكل الأمهات البريئات في كل أنحاء العالم. وقد عرف عازف العود اللبناني الملتزم بالدفاع عن القضية الفلسطينية، “مارسيل خليفة”، كيف ينشد تلك الكلمات بصوت لامس كل القلوب الرحيمة، بصوته العذب، وأنغامه الجميلة التي لحّن بها قصيدة “درويش” عن أمّه، وأمّ كل فلسطيني.
في روايته “أم سعد” (1969)، يرسم “غسان كنفاني” ملامح الأمّ الفلسطينية التي تتجاوز حدود المأساة، متحولةً من امرأة بسيطة في مخيّم اللجوء إلى رمزٍ للمقاومة والأمل. يستلهم “كنفاني” على نحوٍ ما تجربة “مكسيم غوركي” في روايته “الأم”، حيث تبدو “أم سعد” شخصية “عادية غير عادية”، تعيش وسط القهر والفقر، لكنها تأبى الاستسلام. يصفها في مطلع الرواية قائلا:
” أم سعيد امرأة حقيقية، أعرفها جيدًا، وما زلت أراها دائمًا وأحادثها وأتعلم منها، تربطني بها قرابة ما، ومع ذلك لم يكن هذا بالضبط ما جعلها مدرسة يومية، فالقرابة التي تربطني بها واهية إذا ما قيست بالقرابة التي تربطها إلى تلك الطبقة الباسلة، المسحوقة والفقيرة والمرمية في مخيمات البؤس، والتي عشت فيها ومعها، ولست أدري كم عشت لها..
.. ومع ذلك فأم سعد ليست امرأة واحدة، ولولا أنها ظلت جسدًا وعقلًا وكدحًا في قلب الجماهير، وفي محور همومها، وجزءًا لا ينسلخ عن يومياتها، لما كان بوسعها أن تكون ما هي، ولذلك فقد كان صوتها دائمًا بالنسبة لي هو صوت تلك الطبقة الفلسطينية التي دفعت غاليًا ثمن الهزيمة.. والتي تقف الآن تحت سقف البؤس الواطئ في الصف العالي من المعركة، وتدفع، وتظل تدفع أكثر من الجميع”.
تسكن بطلة الرواية مخيم اللاجئين، حيث تحاصر البطالة الرّجالَ وتثقل النساء بأعباء الأسرة. تعمل خادمةً، لكنها ترفض استغلال الفقراء حتى لو كانوا لبنانيين، فتتنازل عن وظيفتها لامرأة من الجنوب، مؤكدةً أن القهر واحد والمقاومة لا تعرف الحدود. لا تمنع ابنها سعد من الانضمام إلى الثورة، بل تفخر به رغم القلق الذي ينهشها. تراه يكسر مهانة المخيم، وتقول: “ذهاب سعد ردّ شيئًا من روح أبيه”. فالأب، كما تصفه، كان “مدعوسًا تحت سقف الزينكو وكرت الإعاشة”، لكن المقاومة أعادت إليه كرامته.
بالنسبة إلى “أم سعد”، المقاومة ليست فقط بالسلاح، بل بالذاكرة والكرامة. حين يزورها “سعد”، تؤكد أنه “عاد” لا “ذهب”، فالنضال عندها ليس مغامرة، بل عودة رمزية إلى فلسطين. حتى ابنها يرى في كل فلسطينية أمّه، كما حين نادى سيدة مسنة بـ “يَمَّا” خلال إحدى العمليات، فاحتضنته كابنها.
وفي تمييزها بين “خيمة الفدائي” و”خيمة المخيم”، تقول: “خيمة عن خيمة بتفرق”. وعندما تعلق في عنقها رصاصة أهداها لها “سعد”، لا تزيّن جسدها، بل تعلن هويتها الجديدة: أمٌّ لفدائي، مقاومة بذاكرتها.
عبر شخصية “أم سعد”، يكشف “كنفاني” كيف يحوّل المخيمُ اللاجئينَ إلى مقاتلين، وكيف يصبح الحزنُ قوةً دافعة. الأم هنا ليست مجرد والدة، بل حارسةٌ للوطن، تقاوم بأسلحتها الخاصة: الصبر، والذاكرة، ورفض الظلم.
وهكذا، يجعل “كنفاني” من “أم سعد” أيقونةً تختصر روح الشعب الفلسطيني: “الفقر قد يحوّل الملاك إلى شيطان، لكن المقاومة تعيد الروح”.
الأمّهات الفلسطينيات يُجسِّدن أسمى معاني التضحية والصمود. أمّهاتٌ يودّعن أبناءهن شهداء، ويخضن غمار الحياة تحت وطأة الاحتلال.. أمهاتٌ يزرعن الكرامة في قلوب أبنائهن، ويرفعن راية العزّة رغم الدمع والألم.
هي الأمّ الفلسطينية، المربّية والمناضلة، التي لم تنكسر أمام تشريد الأسرة أو هدم المنزل. تمسك بزيّها المطرَّز رمز الهوية العريقة، وتواجه العدوان بصبرٍ يخطف الأنفاس. تبكي الجريح، وتدعو للأسير، وتزغرد في وجه القمع، كأنها تقول للعالم: “فلسطين لن تموت”.
في كل يوم، تُضحّي الأمّ الفلسطينية بجزءٍ من قلبها: زوجٌ يُستشهد، وابنٌ يُعتقل، وبيتٌ يُهدم. لكنها تظل شامخة كالجبل، تمنح الحياة معنى جديدًا، وتُذكّرنا أن الأمومة هنا ليست مجرد حنان، بل ثورةٌ لا تنتهي.

إضاءات حول الأمّ في الدين والأدب والحياة
لقد أحسن القائمون على الملف الثقافي بجريدة “الأيام نيوز” الجزائرية في طرح موضوع الاحتفال بعيد الأم الفلسطينية، ويختلف تاريخ الاحتفال بعيد الأم من بلد عربي إلى آخر، فبينما يكون الاحتفال في آخر أسبوع من شهر مايو في بعض البلدان، فإنَّ الاحتفال يكون في 21 مارس في بعض البلدان الأخرى.. ولأنّ (21 مارس) يوافق أول يوم من فصل الربيع مع ما يعنيه هذا اليوم من ارتباط بالأرض، وتجدّدٍ في الطبيعة، وتدفّقٍ للجمال وحيويّة في الحياة، ولهذا كان تخصيص هذا اليوم للاحتفال بعيد الأم الفلسطينية التي تكتنز في معانيها كل ما يتعلّق بالأرض والعطاء واستمرارية الحياة رغم كل الظروف الهدّامة والمُدمّرة للحياة.
وإنه لمِن يُمن الطالع أن يواكب عيد الأم هذا العام شهر رمضان المبارك وعيد الفطر فتتعانق الأعياد عسى أن تخفّف وطأة الحياة عن أهلنا في غزة العزة الذين يدافعون عن شرف الأمة الإسلامية وفي صدارتهم المرأة الفلسطينية الصابرة الصامدة التي تنجب الأبطال وتربيهم على حب الوطن وافتدائه بالروح وهي أغلى ما يملك الإنسان.
والأم لها منزلة عظمى في الإسلام الذي كرّم المرأة وأنزلها المحلّ الأرفع والمكانة السامية وقدّمها على الأب في حسن الصحبة كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله أحد الصحابة رضي الله عنهم: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أبوك.. فهل هناك تكريم أسمى من هذا التكريم؟!
وقد بلغ من تكريم المرأة أنه سُمِّيت سورة في القرآن الكريم باسم السيدة مريم العذراء أم سيدنا المسيح عليه السلام، كما سُمّيت سورة أخرى باسم “المجادلة”، وهي “خولة بنت ثعلبة” إحدى الصحابيات الفضليات التي جاءت تجادل رسول الله في زوجها الذي ظاهر منها حرصا عليه وعلى أبنائها، فقد كان رجلا كبيرا لا يستطيع خدمة نفسه، ولها منه أولاد إن ضمّهم إليه ضاعوا وإن ضمتهم إليها جاعوا… فنزلت فيها آيات الظهار وحلّت هذه المعضلة من فوق سبع سماوات.
ومنزلة المرأة في القرآن الكريم منزلة عظيمة أُلّفت فيها الكتب، ومن أبرزها كتاب “تحرير المرأة في عصر الرسالة” وهي دراسة جامعية لنصوص القرآن والصحيحين لـ “عبد الحليم أبو شقة”، وهناك رسالة دكتوراه بقسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية بكلية التربية جامعة عين شمس لابنتنا وتلميذتنا الدكتورة “نجلاء العدلي” عنوانها “المرأة في القرآن الكريم: دراسة في التفسير الموضوعي”، وغيرهما الكثير، مما يؤكد مكانة المرأة في الإسلام.
وقد ذُكرت المرأة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة بما يدعم هذه المكانة، ويكفي أنَّ الله عز وجل قال: “وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ” (سورة البقرة، الآية: 228)، وأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “النساء شقائق الرجال”، والآيات والأحاديث كثيرة في المساواة بين الرجال والنساء، بل في تكريم النساء وتفضيلهن، ولعل ذِكر القرآن الكريم لنماذج من النساء المؤمنات أصدق دليل على ذلك، فعندنا امرأة فرعون وامرأة عمران وابنتها السيدة مريم ابنة عمران أم سيدنا عيسى عليه السلام وملكة سبأ التي امتازت برجاحة العقل وآمنت مع سليمان لله رب العالمين بعد أن اقتنعت بنبوّته.
والنساء المسلمات منذ عهد النبوّة ضربن أروع الأمثلة في الفداء فمنهن أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، زوج النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأمّ أبنائه، وهي أول من آمن به وسانده وأيّده بالقلب والروح والعقل والمال والنفس والنفيس، حتى استحقّت البشرى ببيتٍ في الجنة والسلام من الله عن طريق جبريل عليه السلام، والسيدة أسماء بنت أبي بكر ودورها في الهجرة معروف، وموقفها مع ابنها عبد الله بن الزبير في محنته مع “الحجاج” مشهور ومشهود حين قوَّت عزيمته وربطت على قلبه وشجعته على الثبات على الحق قائلة له: هل يضير الشاة سلخها بعد ذبحها، وواجهت الحجاج بن يوسف الثقفي بعد مقتل ابنها وصلبه وعنّفته ووبّخته غير هيّابة ولا وجِلة، فكانت نعم الأم الصابرة المحتسبة، كما كانت نعم الأم المربية لابنها.
والسيدة الخنساء تماضر بنت عمرو الشاعرة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يستمع إلى شعرها ويستزيدها منه، والسيدة نسيبة بنت كعب المجاهدة في سبيل الله والمدافعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسيدة سميّة زوجة عمار بن ياسر رضي الله عنهما، التي بشّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة في قوله أثناء تعذيب الكفار لهما في مكة: “صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة”، وقتلها أبو جهل فكانت أول شهيدة في الإسلام.
وتتوالى العصور وتتّسع رقعة الدولة الإسلامية من الصين شرقا إلى الأندلس غربا وتنبغ كثير من النساء في شتى ضروب المعرفة والعلوم الإسلامية والعملية، فكانت منهن المقرئات للقرآن الكريم والمحدثات والفقيهات والمحتسبات ناهيك عن الشاعرات والأديبات اللواتي كثرن بتقدّم الزمن والارتقاء في الحضارة وبخاصة في العصرين العباسي والأندلسي، وقد تناول كثيرٌ من المؤلفين المرأة من جوانبها المختلفة قديما وحديثا، ومن هذه الكتب كتاب “المعارف” لابن قتيبة و”العقد الفريد” لابن عبد ربه، و”الزهرة” لأبي بكر محمد بن داود الأصبهاني، و”طوق الحمامة” في الألفة والألاف لابن حزم الأندلسي، وكتاب “أشعار النساء” للمرزباني وكتاب “الحدائق الغنّاء في أخبار النساء” لأبي الحسن علي بن محمد المعافري المالقي، وكتاب “أخبار النساء” لابن قيم الجوزية، وكتاب “بلاغات النساء” لابن أبي طاهر طيفور، وكتاب “تزيين الأسواق بتفصيل أسواق العشاق” لداود بن عمر الأنطاكي، وكتاب “مصارع العشاق” لجعفر بن أحمد السراج، وكتاب “المستطرف من أخبار الجواري” لجلال الدين السيوطي، وكتاب “نزهة الجلساء في أشعار النساء” لجلال الدين السيوطي، و”نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب” للمقري، وكتاب “الروضة الفيحاء في تواريخ النساء” للعلامة ياسين بن خير الله الخطيب العمري ( 1157ـ 1232هـ) و”موسوعة أعلام النساء في عالمي العرب والإسلام” لعمر رضا كحالة، وغيرها من الكتب.
وقد قام بعض الباحثين بجمع شعر النساء في الأندلس ودراسته، مُتّكئا على ما ورد في “نفح الطيب” الذي خصّص بابا من كتابه الموسوعي المهم لذكر النساء الأديبات والشاعرات المشهورات في الأندلس.
وقد قامت دراسات كثيرة على أدب النساء في العصر الحديث ومنها كتابي: “دراسات في الأدب النسائي” الصادر عام 2004م بالاشتراك مع الصديق الأديب أ. أحمد بن إبراهيم الديولي، ولي دراسات أخرى عن الأدب النسائي نُشر بعضها في كتابي: “في النقد التطبيقي” الصادر 2005م، وبعضها نُشر في كتابي “دراسات وبحوث أدبية” الصادر عام 2017م، وبعضها لم ينشر وفي النيّة، إذا نسأ الله في الأجل، جمع هذه المقالات والدراسات في كتابين أحدهما خاص بأدب النساء في مصر، والآخر بأدب النساء في البلاد العربية.
وما دمنا بصدد الحديث عن الأمّ، فقد كتبتُ شعرا لأمّي يرحمها الله في حياتها وبعد رحيلها، ومما كتبته في التشوق إليها أثناء وجودي بالمملكة العربية السعودية أبيات عنونتها بـ “إلى أمي”، عام 1422هـ أقول فيها:
أمي إليك تحية المشتاق — ومحبة نشرتْ على الآفاق
كم كنت يا أماه راحة متعب — ولأنت يا أماه درعي الواقي
ضحيت يا أماه دوما بالذي — تهوى الملاح من الهوى البراق
وصبرت يا أماه صبرا طيبا — ولكم جرعت مرارة الأشواق
ودفعتنا للعلم دفعا مثلما — يدعو المشوق وحيده لعناق
وغمرتنا بالحب فابتسمت لنا — دنيا غدت كالجدول الرقراق
وفي الذكرى الأولى لوفاة أمي الحبيبة يرحمها الله كتبت قصيدة جعلتُ عنوانها “أمي” وذلك صباح الأحد11 من جمادى الآخرة 1437هـ ـ 20 من مـارس 2016م، قلت فيها:
“أماه” يا “أماه” إني تائه — من ذا يوجه للرشاد سواك
قد كنت لي “أماه” نورا هاديا — للخير يا أماه ما أبهــاك!
ضلت خطاي عن الطريق حبيبتي — وبلغت “أمي” غاية الإرباك
كم كان نصحك لي يسدد خطوتي — يا نور عيني جل من سواك
أمّاه قد عاث الذئاب وأفسدوا — وطغوا، وكنت محصنا بحماك
فمن الذي يدعو ويحنو إنني — قد كنت منفوحا بفضل رضاك
فلكم دعوت فذل صعب أمنا — ولكم سعيت مسددا بدعاك
يا من بها أوصى الرسول ثلاثة — كم كان خطوي تابعا لخطاك
لم تقرئي أو تكتبي ودفعتني — للعلم يا أماه، من أدراك؟!
أماه كنت على الدوام كريمة — وعفيفة سبحان من أنشاك
تتألمين إذا رأيت معذبــا — وتبادرين لنجدة كـ “ملاك”
تسخو يداك بما ملكت سجية — يا للسخاء همت به كفاك
لم ترهبي فقرا حياتك كلها — من فضله المنان قد أغناك
وصبرت يا أماه صبرا طيبا — ولذلك الرحمن قد أرضاك
وجرعت آلام الحياة قريرة — وبلطفه الحنان قد حلاك
ووقفت يا أماه جانب والدي — لم تبخلي، أممدته بعطاك
ضحيت يا أماه دوما في رضى — ومنحته أماه حلو صباك
خمسون عاما، نصف قرن كاملا — ويزيد خمسا، حبه نجواك
كم كنت حصني بعد فقدي والدي — ولكم تمنينا طويل بقـاك
لكن عجلت لوالد أحببتـه — وتركتني، يا طيبه مثواك
لولا دعاؤك لي ضللت عن الهدى — فبفضله أنجو من الأشراك
يا من لها خفق الفؤاد محبة — وتشوقا، فمتى يحين لقاك؟
في جنة الرحمن لقيانا غدا — بشفاعة الهادي وفضل رضاك
وقد واساني صديقي د. حسان الشناوي بقصيدة عقب وفاة أمي حضني فيها على الصبر وكنت في منتصف العقد السادس من عمري ولكني شعرت باليتم بلا مبالغة فقال:
بسيمُ، اصطبرْ؛ في ظلال النعيمْ — ستمسي، وتصبح ” أمُّ بسيمْ ”
ونور الكتابِ العزيزِ يحيلُ — لها ظلمة القبر نورا يقيمْ
فيا أيها المؤمنُ المطمئن — لحكم قضاء العزيز الحكيمْ
فراقُ الأحبة يدمي القلوبَ — وبرد اليقينِ يداوي الكظيمْ
وأنت: النقي، الندي، التقي — وأنت: الصبور، الشكور، الحليمْ
يدُ الدمع تـَشــْفي انفطار الضلوعِ — وتمسحُ بالصبرِ حزنا يقيمْ
وحسبكَ أنك نلتَ رضاها — ببرك، والبرُّ خيرٌ يدومْ
فجدد لها الدعواتِ صباحَ — مساءَ، وارجُ الرحيمْ
لئن أسكب الدمعَ عند العزاءِ — لقد هدني فقدُ أمٍّ رؤومْ
فيا ربِّ، نوِّر لها قبرها — وأفسـِحـْه من جنة يا كريمْ
وقد كتبت إلى سيدات الأرض بمناسبة اليوم العالمي للمرأة مساء الأربعاء، 9 من جمادى الآخرة 1438هـ / 8 من مـارس 2017م
يا “سيدات الأرض” نهرك سلسل — سقيا لنهرك سيد الأنهـــار
الأم أنت وأختنا وحليلــة — والبنت قد عزفت لها أوتاري
يا جنتي في الأرض يا نبع الصفا — يا من تليق بضمة الأشعــــار
في يومك احتار القصيد على فمي — وتبلبلت يا مهجتي أفكــــــاري
فالعالم الغربي يظلم نصفـــــــه — فيصرن فيه حرائرا كجواري
والعالم العربي ينهج نهجه — ضل الحداة به وضل الساري
يا من يعيد لنا نضارة ديننا — وحضارة الإسلام ذي الأحرار
فيه النساء شقائق لرجاله — ولهن مثل الحق دون حوار
فيه النساء حلائل ومصونة — كاللؤلؤ المكنون أو كنضار
يا بنتنا اعتزي بدينك دائما — وثقي بربك فالق الأنوار
وإني لأهدي كل شعري في أمي وفي المرأة عموما إلى الأم الفلسطينية المربية الفاضلة التي تربّي أبناءها على حب الوطن والذود عنه بالمُهج وتضرب في ذلك أروع المثل.
ومن عيون الشعر العربي قصيدة “أبي فراس الحمداني” في رثاء أمه وقد ماتت وهو في أسر الروم، وكانت تنتظر أن يفتديه “سيف الدولة الحمداني”، ولكن القدر سبق بوفاتها فقال في رثائها:
أَيا أُمَّ الأَسيرِ سَقاكِ غَيثٌ — بِكُرهٍ مِنكِ ما لَقِيَ الأَسيرُ
أَيا أُمَّ الأَسيرِ سَقاكِ غَيثٌ — تَحَيَّرَ لا يُقيمُ وَلا يَسيرُ
أَيا أُمَّ الأَسيرِ سَقاكِ غَيثٌ — إلى مَن بِالفِدا يَأتي البَشيرُ
أَيا أُمَّ الأَسيرِ لِمَن تُرَبّى — وَقَد مُتِّ الذَوائِبَ وَالشُعورُ
إِذا اِبنُكِ سارَ في بَرٍّ وَبَحرٍ — فَمَن يَدعو لَهُ أَو يَستَجيرُ
حَرامٌ أَن يَبيتَ قَريرَ عَينٍ — وَلُؤمٌ أَن يُلِمُّ بِهِ السُرورُ
وَقَد ذُقتِ الرَزايا وَالمَنايا — وَلا وَلَدٌ لَدَيكِ وَلا عَشيرُ
وَغابَ حَبيبُ قَلبِكِ عَن مَكانٍ — مَلائِكَةُ السَماءِ بِهِ حُضورُ
لِيَبكِكِ كُلُّ يَومٍ صُمتِ فيهِ — مُصابَرَةً وَقَد حَمِيَ الهَجيرُ
لِيَبكِكِ كُلَّ لَيلٍ قُمتِ فيهِ — إلى أَن يَبتَدي الفَجرُ المُنيرُ
لِيَبكِكِ كُلَّ مُضطَهَدٍ مَخوفٍ — أَجَرتيهِ وَقَد عَزَّ المُجيرُ
لِيَبكِكِ كُلَّ مِسكينٍ فَقيرٍ — أَغَثتيهِ وَما في العَظمِ زيرُ
أَيا أُمّاهُ كَم هَمٍّ طَويلٍ — مَضى بِكِ لَم يَكُن مِنهُ نَصيرُ
أَيا أُمّاهُ كَم سِرٍ مَصونٍ — بِقَلبِكِ ماتَ لَيسَ لَهُ ظُهورُ
أَيا أُمّاهُ كَم بُشرى بِقُربي — أَتَتكِ وَدونَها الأَجَلُ القَصيرُ
إِلى مَن أَشتَكي وَلِمَن أُناجي — إِذا ضاقَت بِما فيها الصُدورُ
بِأَيِّ دُعاءِ داعِيَةٍ أُوَقّى — بِأَيِّ ضِياءِ وَجهٍ أَستَنيرُ
بِمَن يُستَدفَعُ القَدرَ المُوَفّى — بِمَن يُستَفتَحُ الأَمرُ العَسيرُ
نُسَلّى عَنكِ أَنّا عَن قَليلٍ — إلى ما صِرتِ في الأُخرى نَصيرِ
وقد قمت بشرح هذه القصيدة وتحليلها منذ عقدين من الزمان في كتابي “في النقد التطبيقي”، إعجابا بها وتقديرا لهذه العاطفة الصادقة من أبي فراس الحمداني تجاه أمه.
وتوفيت أم الشاعر والفيلسوف “أبي العلاء المعري” عام 400 هـ، وكان كهلا في السابعة والثلاثين من عمره، فرثاها بقصيدة بلغت (64) بيتاً – ولعل هذا العدد عمر أمه – أودع فيها مشاعرَه الأولى حين طرقت أنباءُ رحيلها سمعَه، ثم ختمها معظِّماً فضلَها ونعمتَها عليه، وفي القصيدة معانٍ رائعة، وصورٌ مبتكرة، وحزنٌ عميق، يُظْهِر تعلُّقَ “أبي العلاء” بأمه، وأثرَها البالغَ عليه، ورعايتَها الكبرى له، حتى إنه يشعر حين رحيلها أنه رضيعٌ في حضنها مع أنه في السابعة والثلاثين من عمره:
يقول في مطلعها:
سمعتُ نعيَّها صمِّي صَمَامِ — وإنْ قال العواذلُ لا هَمَامِ
وأمَّتْني إلى الأجداثِ أمٌّ — يعزُّ عليَّ أَنْ سارتْ أمامي
وأُكبر أن يُرَثِّيها لساني — بلفظٍ سالكٍ طُرُقَ الطعامِ
يُقال فيهتِم الأنيابَ قولٌ — يباشرُها بأنباءٍ عظامِ
كأنَّ نواجذي رُدِيَتْ بصخرٍ — ولم يمرُرْ بِهِنَّ سوى كلامِ
ومَن لي أنْ أصوغَ الشُّهْبَ شعراً — فأُلبِسَ قبرها سِمْطَي نظامِ
مضتْ وقد اكتهلتُ، فخلتُ أني — رضيعٌ ما بلغتُ مدى الفطامِ
فيا ركبَ المنونِ أما رسولٌ — يبلِّغُ روحَها أَرَجَ السلامِ
ذكياً يُصْحَبُ الكافورُ منه — بمثل المسكِ مفضوضَ الختامِ
سألتُ متى اللقاءُ؟ فقيل: حتى — يقوم الهامدون مِن الرجامِ
ولو حدُّوا الفراقَ بعُمْر نَسْرٍ — طفقتُ أعدُّ أعمارَ السِّمامِ
فليت أَذين يومِ الحشرِ نادى — فأجهشتِ الرِّمامُ إلى الرِّمامِ
ويختم “أبو العلاء” مرثيته لأمه بقوله:
ولو أنَّ النخيلَ شكيرُ جسمي — ثناه حَمْلُ أنعُمُكِ الجسامِ
كفاني ريُّها مِنْ كل رِيٍّ — إلى أن كدتُ أُحسَبُ في النَّعامِ
سقتكِ الغادياتُ فما جَهامٌ — أطلَّ على محلَّكِ بالجَهامِ
وقطرٌ كالبحار فلستُ أرضى — بقَطْرٍ صابَ مِن خلَلِ الغمامِ
والقصيدة لوحةٌ شعريةٌ صادقةٌ لتلك الأم العظيمة التي مرض ولدُها بالجدري، وذهب بعينيه، فجعلتْهُ بحبّها وحنانها ورقّة أحاسيسها يكتفي بها عمَّن سواها من كل الدنيا.
طيَّب اللهُ ثراك يا أمّ “أحمد”، فلقد كنتِ مثالاً عظيماً للأم التي ابتُلِيت فصبرَت وصابرَت، وكانت لابنها الأملَ والحبَّ والرجاء.
وهل تعلمين أنَّ ابنك حين مات وَقَفَ على قبره (84) شاعراً يرثونه؟ وهل تعلمين أنَّهم حين يرثونه ويعظمّونه أنَّهم يرثونك أنتِ ويعظِّمونك؟
ومَنْ يدري فلعلكِ لو لم تكوني وراءه وإلى جانبه لما صار (أبا العلاء المعري)… ولولا رحيلُك لما لزم البيتَ وسمَّى نفسَه “رهين المحبسين”.
وهذا “الشريف الرضي “يرثي أمه بقصيدة طويلة يبين فيها فضائلها فيقول:
أبكيك لو نقع الغليل بكائي — وَأقُولُ لَوْ ذَهَبَ المَقالُ بِدائي
وَأعُوذُ بالصّبْرِ الجَميلِ تَعَزّياً — لَوْ كَانَ بالصّبْرِ الجَميلِ عَزائي
طوراً تكاثرني الدموع وتارة — آوي إلى أكرومتي وحيائي
كم عبرة موهتها بأناملي — وسترتها متجملاً بردائي
أبدي التجلد للعدو ولو درى — بتَمَلْمُلي لَقَدِ اشتَفَى أعدائي
ما كنت أذخر في فداك رغيبة — لو كان يرجع ميت بفداءِ
لو كان يدفع ذا الحمام بقوة — لتكدست عصب وراءَ لوائي
فَارَقْتُ فِيكِ تَماسُكي وَتَجَمّلي — ونسيت فيك تعززي وإبائي
وَصَنَعْتُ مَا ثَلَمَ الوَقَارَ صَنيعُهُ — مما عراني من جوى البرحاءِ
كم زفرة ضعفت فصارت أنّة — تَمّمْتُهَا بِتَنَفّسِ الصُّعَداءِ
لَهفَانَ أنْزُو في حَبَائِلِ كُرْبَة — مَلَكَتْ عَليّ جَلادَتي وَغَنَائي
وجرى الزمان على عوائد كيده — في قلب آمالي وعكس رجائي
قَدْ كُنتُ آمُلُ أنْ أكونَ لكِ الفِدا — مِمّا ألَمّ، فكُنتِ أنْتِ فِدائي
وَتَفَرُّقُ البُعَداءِ بَعْدَ مَوَدَّة — صعب فكيف تفرق القرباءِ
وَخَلائِقُ الدّنْيَا خَلائِقُ مُومِسٍ — للمنع آونة وللإعطاء
طوراً تبادلك الصفاء وتارة — تَلْقَاكَ تُنكِرُهَا مِنَ البَغضَاءِ
وَتَداوُلُ الأيّامِ يُبْلِينَا كَمَا يُبلي — الرّشَاءَ تَطاوُحُ الأرْجَاءِ
وَكَأنّ طُولَ العُمْرِ روحَة رَاكِبٍ — قضى اللغوب وجد في الإسراء
أنْضَيتِ عَيشَكِ عِفّة وَزَهَادَة — وَطُرِحْتِ مُثْقَلَة مِنَ الأعْبَاءِ
بصِيَامِ يَوْمِ القَيظِ تَلْهَبُ شَمْسُهُ — وقيام طول الليلة الليلاءِ
ما كان يوما بالغبين من اشترى — رغد الجنان بعيشة خشناءِ
لَوْ كَانَ مِثلَكِ كُلُّ أُمٍّ بَرّة — غني البنون بها عن الآباءِ
كيف السلو وكل موقع لحظة — أثر لفضلك خالد بإزائي
فَعَلاتُ مَعرُوفٍ تُقِرّ نَوَاظِرِي — فَتَكُونُ أجْلَبَ جالِبٍ لبُكائي
مَا مَاتَ مَنْ نَزَعَ البَقَاءَ، وَذِكْرُهُ — بالصّالحاتِ يُعَدّ في الأحْيَاءِ
فبأي كف استجن واتقي صَرْفَ — النّوَائِبِ أمْ بِأيّ دُعَاءِ
ومن الممول لي إذا ضاقت يدي — ومن المعلل لي من الأدواء
ومن الذي إن ساورتني نكبة — كَانَ المُوَقّي لي مِنَ الأسْوَاءِ
أمْ مَنْ يَلِطّ عَليّ سِتْرَ دُعَائِهِ — حَرَماً مِنَ البَأسَاءِ وَالضّرّاءِ
رُزءانِ يَزْدادانِ طُولَ تَجَدّدٍ — أبَدَ الزّمَانِ: فَناؤها وَبَقائي
شهد الخلائق إنها لنجيبة — بدَليلِ مَنْ وَلَدَتْ مِنَ النُّجَبَاءِ
في كل مظلم أزمة أو ضيقة — يَبْدُو لهَا أثَرُ اليَدِ البَيْضَاءِ
ذَخَرَتْ لَنا الذّكرَ الجَميلَ — إذا انقضَى ما يذخر الآباء للأبناء
قَدْ كُنْتُ آمُلُ أنْ يَكُونَ أمامَها — يومي وتشفق أن تكون ورائي
آوي إلى برد الظلال كأنني — لِتَحَرّقي آوِي إلى الرّمضَاءِ
وأهب من طيب المنام تفزعاً — فزع اللديغ نبا عن الإغفاءِ
يا قبر أمنحه الهوى وأود لو — نزفت عليه دموع كل سماءِ
معروفك السامي أنيسك كلما — وَرَدَ الظّلامُ بوَحشَة الغَبْرَاءِ
وضياءُ ما قدمته من صالح — لك في الدجى بدل من الأضواءِ
إنّ الذي أرْضَاهُ فِعلُكِ لا يَزَلْ — تُرْضِيكِ رَحْمَتُهُ صَبَاحَ مَسَاءِ
صَلّى عَلَيكِ، وَما فَقَدْتِ صَلاتَهُ — قبل الرّدَى، وَجَزاكِ أيّ جَزَاءِ
لَوْ كَانَ يُبلِغُكِ الصّفيحُ رَسَائِلي — أو كان يسمعك التراب ندائي
لَسَمِعتِ طُولَ تَأوّهي وَتَفَجّعي — وعلمت حسن رعايتي ووفائي
كَانَ ارْتِكاضِي في حَشاكِ مُسَبِّباً — رَكضَ الغَليلِ عَلَيكِ في أحشائي
ومن الشعراء الذين كتبوا عن الأمّ فأحسنوا وحظيت قصيدتهم بالقبول لدى الناس شاعر النيل “حافظ إبراهيم” والقصيدة مليئة بالنقد الاجتماعي وليس خاصة بالأمّ، ولكن نصيب الأم فيها كبير لأثرها في تربية النشء، ومطلع قصيدة حافظ يقول:
كَم ذا يُكابِدُ عاشِقٌ وَيُلاقي — في حُبِّ مِصرَ كَثيرَةِ العُشّاقِ
إِنّي لَأَحمِلُ في هَواكِ صَبابَةً — يا مِصرُ قَد خَرَجَت عَنِ الأَطواقِ
لَهفي عَلَيكِ مَتى أَراكِ طَليقَةً — يَحمي كَريمَ حِماكِ شَعبٌ راقي
كَلِفٌ بِمَحمود الخِلالِ مُتَيَّمٌ – بِالبَذلِ بَينَ يَدَيكِ وَالإِنفاقِ
إِنّي لَتُطرِبُني الخِلالُ كَريمَةً — طَرَبَ الغَريبِ بِأَوبَةٍ وَتَلاقي
وَتَهُزُّني ذِكرى المُروءَةِ وَالنَدى — بَينَ الشَمائِلِ هِزَّةَ المُشتاقِ
ثم يقول “حافظ” عن الأم:
مَن لي بِتَربِيَةِ النِساءِ فَإِنَّها — في الشَرقِ عِلَّةُ ذَلِكَ الإِخفاقِ
الأُمُّ مَدرَسَةٌ إِذا أَعدَدتَها — أَعدَدتَ شَعباً طَيِّبَ الأَعراقِ
الأُمُّ رَوضٌ إِن تَعَهَّدَهُ الحَيا — بِالرِيِّ أَورَقَ أَيَّما إيراقِ
الأُمُّ أُستاذُ الأَساتِذَةِ الأُلى — شَغَلَت مَآثِرُهُم مَدى الآفاقِ
أَنا لا أَقولُ دَعوا النِساءَ سَوافِراً — بَينَ الرِجالِ يَجُلنَ في الأَسواقِ
يَدرُجنَ حَيثُ أَرَدنَ لا مِن وازِعٍ — يَحذَرنَ رِقبَتَهُ وَلا مِن واقي
يَفعَلنَ أَفعالَ الرِجالِ لِواهِياً — عَن واجِباتِ نَواعِسِ الأَحداقِ
في دورِهِنَّ شُؤونُهُنَّ كَثيرَةٌ — كَشُؤونِ رَبِّ السَيفِ وَالمِزراقِ
كَلّا وَلا أَدعوكُمُ أَن تُسرِفوا — في الحَجبِ وَالتَضييقِ وَالإِرهاقِ
لَيسَت نِساؤُكُمُ حُلىً وَجَواهِراً — خَوفَ الضَياعِ تُصانُ في الأَحقاقِ
لَيسَت نِساؤُكُمُ أَثاثاً يُقتَنى — في الدورِ بَينَ مَخادِعٍ وَطِباقِ
تَتَشَكَّلُ الأَزمانُ في أَدوارِها — دُوَلاً وَهُنَّ عَلى الجُمودِ بَواقي
فَتَوَسَّطوا في الحالَتَينِ وَأَنصِفوا — فَالشَرُّ في التَقييدِ وَالإِطلاقِ
رَبّوا البَناتِ عَلى الفَضيلَةِ إِنَّها — في المَوقِفَينِ لَهُنَّ خَيرُ وَثاقِ
وَعَلَيكُمُ أَن تَستَبينَ بَناتُكُم — نورَ الهُدى وَعَلى الحَياءِ الباقي
وهذا الأديب الكبير “مصطفى لطفي المنفلوطي” يقدر المرأة في كل أدوارها، ويوصي في مقال “احترام المرأة” بِمَزيد من الاهتمام بِأَمر المرأة، وعدم بَخْسِها حقَّها، ويبيِّن استحالةَ الاستغناء عنها، فيقول في مقارَنةٍ سريعة بين الأَبِ والأُمِّ: “لا يستطيع الأبُ أنْ يَحمل بين جَناحَيه لطفلِه الصَّغير عواطِفَ الأُمِّ؛ فهي التي تَحُوطه بعنايتها ورعايتها، وتبسط عليه جناحَ رَحْمتها ورأفَتِها، وتسكب قلبَها في قلبه، حتَّى يستحيلا إلى قلب واحد”.
إلى آخِر كلماته الطيِّبة في حقِّ الأُمِّ، وإيضاحه المميَّز في تبيين حقيقة شعورها الذي لا يُضاهيه شعور، وقلبها الذي لا يُكافِئُه قلب، فيقول في حقِّ الأم أيضًا: “وأستطيع أن أقول، وأنا على ثقة مما أقول: إنَّ الأطفال الذين استطاعوا أنْ يعيشوا في هذا العالَم سُعَداء، مَعنيًّا بِهم في تربيتهم، وتَخريجهم على أيدي أُمَّهاتهم بعد موت آبائهم، أضعافُ الذين نالوا هذا الحظَّ على أيدي آبائهم بعد موت أمَّهاتِهم، ولِلرَّحْمة الأمِّيَّة الفضل العظيم في ذلك”.
ومِن أقواله في المرأة: “ما المرأة إلاَّ الأفق الذي تُشرق منه شَمس السَّعادة على هذا الكون فتُنير ظلمته، والبَريد الذي يَحمل على يده نعمةَ الخالق إلى المخلوق، والهواءُ المتردِّد الذي يَهَبُ الإنسان حياته وقوَّتَه، والمعراج الذي تَعرُج عليه النُّفوس من الملأ الأدنَى إلى الملأ الأعلى”، (تحت ظلال الزيزفون).
“علموها لتجعلوا منها مدرسة يتعلم فيها أولادكم قبل المدرسة، وأدبوها لينشأ في حجرها المستقبل العظيم للوطن الكريم”
ويصور أديب العربية “مصطفى صادق الرافعي” موت أمٍّ شابة في الخامسة والثلاثين هي زوج صديقه الشيخ “حسنين مخلوف” مبينا أثر وفاتها على أطفالها فيقول:
رجعت من الجِنازة بعد أن غبرت قدمي ساعةً في الطريق التي ترابها تراب وأشعة، وكانت في النعش لؤلؤة آدمية محطَّمة، هي زوجة صديق طحطحتها الأمراض، ففرَّقتْها بين علل الموت، وكان قلبُها يحييها فأخذ يهلكُها، حتى إذا دنا أن يقضي عليها رَحِمَها اللهُ فقضى فيها قضاءَه، ومن ذا الذي مات له مريض بالقلب ولم يرَه من قلبه في علته كالعصفورة التي تهتلك تحت عيني ثعبان سلَّط عليها سموم عينيه؟!
كانت المسكينة في الخامسة والعشرين من سنِّها، أما قلبُها ففي الثمانين أو فوق ذلك، هي في سنِّ الشباب، وهو متهدِّم في سن الموت.
وكانت فاضلة تقيةً صالحة، لم تتعلَّم ولكن علمها التقوى والفضيلة، وأكمل النساء عندي ليست هي التي ملأت عينَيها من الكتب، فهي تنظر إلى الحياة نظرات تحلُّ مشاكل، وتخلق مشاكل، ولكنها تلك التي تنظر إلى الدنيا بعين متلألئة بنور الإيمان، تقرُّ في كل شيء معناه السماوي، فتؤمن بأحزانها وأفراحها معًا، وتأخذ ما تعطى من يد خالقها رحمةً معروفة أو رحمة مجهولة، هذه عندي تسمَّى امرأةً، ومعناها: المعبد القدسي، وتكون الزوجة، ومعناها: القوة المسعدة، وتصير الأم، ومعناها: التكملة الإلهية لصغارها وزوجها ونفسها.
ومهما تبلغ المرأة من العلم، فالرجل أعظم منها بأنه رجل، ولكن المرأة حق المرأة، هي تلك التي خُلِقَت لتكون للرجل مادة الفضيلة والصبر والإيمان، فتكون له وحيًا وإلهامًا وعزاء وقوة؛ أي: زيادة في سروره، ونقصًا من آلامه.
ولن تكون المرأة في الحياة أعظم من الرجل إلا بشيء واحد، هو: صفاتُها التي تجعل رجلَها أعظم منها.
ومشيتُ من البيت الذي ألبستْه الميتةُ معنى القبر، إلى القبر الذي ألبس الميتةَ معنى البيت، وأنا منذ مشيت في جنازة أمي – رحمها الله – لا أسير في هذه الطريق مع الأحياء، ولكن مع الموتى، فأتبع من الميت صديقًا ليس رجلاً ولا امرأة؛ لأنه من غير هذه الدنيا، وأمشي في ساعة ليست ستين دقيقة؛ لأنها خرجت من الزمن، ولا أرى الطريق من طرق الحياة؛ لأنني في صحبة ميت، وتصبح للأرض في رأيي جغرافية أخرى، عَمِيَ الناس عنها؛ لشدة وضوحها، كالألوهية خفيت من شدة ما ظهرت.
يقولون: إن ثلاثة أرباع الأرض يغمرها البحر، أما أنا فأرى في تلك الساعة أن ثلاثة أرباع الأرض لا يغمرها البحر الذي وصفوا، ولكن خضم آخر زخَّار متضرب، هو ذلك البحر الترابي العظيم المُسمّى “المقبرة”.
يقولون: إن الحياة هي… هي ماذا – وَيْحكم – أيها المغرورون؟ أفلا ترون هذه الصلة الدائمة بين بطن الأم وبطن الأرض؟
لعمري كيف تجعل هذه الحياة للناس قلوبًا مع قلوبهم، فيحسّ المرء بقلبٍ، ويعمل بقلبٍ آخر؛ يعتقد ضرر الكذب ويكذب، ويعرف معرَّة الإثم ويأثم، ويوقن بعاقبة الخيانة ثم يخون؛ ويمضي في العمر منتهيًا إلى ربه، ما في ذلك شك، ولكنه في الطريق لا يعمل إلا عمل من قد فرَّ من ربه.
هبَّت الريح في السحر على روضة غنَّاء فطابت لها، فعقدت عقدتها أن تتخذ لها بيتًا في ذلك المكان الطيب لتقيم فيه، يا لها حكمةً من التدبير! تزعم الريح الإقامة على حين كل وجودها هو لحظة مرورها، وتحلم بالقرار في البيت، وهي لا تملك بطبيعتها أن تقف. يا لها حكمةً سامية، لا يسكنها من المعنى إلا أسخف ما في الحُمق!
همد الحي وانطفأت عيناه، ولكنه تحرَّك في تاريخه مما ضيَّق على نفسه أو وسَّع، وأصبح ينظر بعينٍ من عمله إما مبصرةٍ أو كالعمياء؛ فلو تكلَّم يصف الحياة الدنيا لقال: “إن هذه النجوم على الأرض مصابيح مأتم أقيم بليل”، وما أعجب أن يجلس أهل المأتم في المأتم ليضحكوا ويلعبوا!
ولو نطق الموتى لقالوا: أيها الأحياء، إن هذا الحاضر الذي يمرُّ فيكون ماضيكم في الدنيا، هو بعينه الذي يكون مستقبلَكم في الآخرة، لا تزيدون فيه ولا تنقصون.
وإن الدنيا تبدأ عندكم من الأعلى إلى الأدنى، من العظماء إلى الفقراء، ولكنها تنقلب في الآخرة فتبدأ من الفقراء إلى العظماء؛ وأنتم ترسمونها بخطوط المطامع والحظوظ، ويرسمها الله بخطوط الحرمان والمجاهدة، إن التام على الأرض مَن تمَّ بمتاعها ولذاتها، ولكن التام في السماء من تمَّ بنفسه وحدها.
يا أسفًا! لن يقول الميت للحي شيئًا، ومَن يدري؟ لعلنا ونحن نلحدُ للموتى وننزلهم في قبورهم، يرون بأرواحهم الخالدة أننا نحن موتاهم المساكين، وأننا مدفونون في القبر الذي يسمونه “الكرة الأرضية”، وهل الكرة الأرضية من اللانهاية إلا حفرةٌ برِجْل نملةٍ لتُدفَن فيها نملة؟
الحياة! أتريد أن تعرفها على حقيقتها؟ هي المبهمات الكثيرة التي ليس لها في الآخر إلا تفسير واحد: حلال أو حرام.
ورجعنا مع الصديق إلى بيته، وله خمسةُ أطفال صغار، لو أنهم هم الذين انتُزعوا من أمّهم، لترك كلُّ واحد على قلبها مثلَ المكواة المُحمَّى عليها في النار إلى أن تحمرّ، ولكن أمّهم هي التي نُزعِتْ منهم، فكان بقاؤهم في الحياة تخفيفًا لسكرة الموت عليها.
وغشيتها الغشية فماتت وهي تضحك؛ إذ تراهم نائمين تحت جناح الرحمة الإلهية الممدود، وقالت: إنها تسمع أحلامهم، وكانوا هم عقلَها في ساعة الموت!
تبارك الذي جعل في قلب الأم دنيا من خلقه هو، ودنيا من خلق أولادها!
تبارك الذي أثاب الأم ثوابَ ما تعاني، فجعل فرحَها صورة كبيرة من فرح صغارها!
وجاء أكبر الأطفال الخمسة، وكأنه ثمانية أرطال من الحياة، لا ثمانية أعوام من العمر؛ جاء إلينا كما يجيء الفزع لقلوب مطمئنة، إذ كان في عينيه الباكيتين معنى فقدِ الأمِّ!
وطغَت عليه الدموع، فتناول منديلَه ومسحَها بيده الصغيرة، ولكن روحَه اليتيمة تأبى إلا أن ترسم بهذه الدموع على وجهه معاني يُتْمِها!
وظهر الانكسار في وجهه! يعبِّر ببلاغة أنه قد أحسَّ حقيقةَ ضعفِه وطفولته بإزاء المصيبة التي نزلت به، وجلس مستسلمًا، تترجم هيئتُه معاني هذه الكلمة: رفقًا بي!
ثم تطير من عينيه نظرات في الهواء، كأنما يحسُّ أن أمه حوله في الجو ولكنه لا يراها! ثم يرخي عينيه في إغماضة خفيفة، كأنما يرجو أن يرى أمه في طويته! ولا يصدق أنها ماتَت؛ فإن صوتها حيٌّ في أذنيه لا يزال يسمعه من أمس! ثم يعود إلى وجهه الانكسارُ والاستسلام! ويتململ في مجلسه، فينطق جسمه كله بهذه الكلمة: “يا أميط!
أحس – ولا ريب – أنه قد ضاع في الوجود؛ لأن الوجود كان أمه. ولمس خشونةَ الدنيا منذ الساعة، بعد أن فقد الصدرَ الذي فيه – وحده – لين الحياة؛ لأن فيه قلبَ أمه وروحها. وشعر بالذل ينساب إلى قلبه الصغير؛ لأن تلك التي كان يملك فيها حق الرحمة قد أُخِذَت منه، وتركَته بلا حقٍّ في أحد؛ وليس لأحد أُمَّان!
ولبسَته المسكنة؛ لأن له شيئًا عزيزًا أصبح وراء الزمان، فلن يصل إليه! ولبستْه المسكنة؛ لأنه صار وحده في المكان، كما هو وحده في الزمان! وارتسم على وجهه التعجب، كأنه يسأل نفسه: “إذا لم تكن أمي هنا، فلماذا أنا هنا؟”.
ثم تغرغرت عيناه فيُخرِجُ منديلَه ويمسح دمعه بيده الصغيرة، ولكن روحه اليتيمة تأبى إلا أن ترسم بهذه الدموع على وجهه معاني يتمِها! ونهض الصغير ولم ينطق بذات شفة؛ نهضَ يحملُ رجولتَه التي بدأت منذ الساعة!
انتهَت أيها الطفل المسكين أيامُك من الأم! فهذه الأيام السعيدة التي كنت تعرف الغد فيها قبل أن يأتي، معرفَتَك أمس الذي مضى؛ إذ يأتي الغد ومعك أمك!
وبدأتْ أيها الطفل المسكين أيامُك من الزمن، وسيأتي كل غد محجبًا مرهوبًا؛ إذ يأتي لك وحدك، ويأتي وأنت وحدك! الأم… يا إلهي! أيّ صغير على الأرض يجد كفايته من الروح إلا في الأم؟
الأم عند الشعراء المعاصرين
مع تطوّر الشعر العربي الحديث، أصبحت صورة الأم أكثر عمقًا وتنوعًا، فانتقلت من كونها مجرد رمز إلى شخصية تعكس قضايا مجتمعية وسياسية. في شعر “إيليا أبو ماضي”، نجد صورة الأم الحنونة التي تمثل الحماية والراحة.
أما في شعر “محمود درويش”، فقد ارتبطت صورة الأم بالحنين إلى الوطن والمنفى، كما في قصيدته الشهيرة “أحن إلى خبز أمي”:
أحنّ إلى خبز أمي …
وقهوة أمي …
ولمسة أمي…
حيث جعل الأم رمزًا للهوية والانتماء، مما أكسب قصيدته بعدًا قوميًّا وإنسانيًّا.
كذلك، ظهر في شعر “فاروق جويدة” و”نزار قباني” تصوير حديث للأم كرمز للمعاناة والقوة، حيث أصبحت حاضرة في القضايا الاجتماعية والسياسية، وليس فقط في إطار العاطفة الشخصية.
وعلى مرّ العصور، تحوّلت صورة “الأم” في الشعر العربي من الحضور العاطفي البسيط إلى رمز متكامل للحب، الفقد، القوة، والتضحية. وبينما كانت في الجاهلية تُذكر نادرًا، أصبحت في العصر الحديث محورًا للهوية والمقاومة. هذا التطور يعكس مكانة الأم المتعاظمة في المجتمع، حيث لم تعد مجرد فرد في العائلة، بل أصبحت كيانًا شعريًا يعكس التحولات الثقافية والوجدانية للشعوب العربية.
ورسالتي إلى الأم الفلسطينية الصامدة الصابرة المرابطة في المسجد الأقصى وفي غزة العزة وفي الضفة الغربية وفي كل شبر من فلسطين الحبيبة المحتلة أن اصبري وصابري ورابطي فلك أجر المجاهدين الصادقين، وليس ذلك غريبا على حفيدة سميّة والخنساء ونسيبة بنت كعب ومريم بنت ملحان وغيرهن من المجاهدات الصابرات على مدار التاريخ الإسلامي.
وغني لأخص بالتحية والشكر والتقدير أديبات فلسطين الحبيبة في الداخل وفي المهجر، اللواتي يضربن أروع المثل في أداء الواجب مجاهدات بالقلم واللسان وهو جهاد لا يقل عن جهاد السنان، وقد كتبت من قبل عن الشهيدات الفلسطينيات اللواتي ضحين بأنفسهن مثل وفاء إدريس وآيات الأخرس حيث قلت:
واليوم هذي وفاء — حرب على الطغيان
آيات جادت بنفس — تزهو بها في الحسان
لكي ترد يهودا — أعتى من الشيطان
ويطيب لي أن أحيي ابنتي المناضلة “نهى عودة” التي تجاهد بالكلمة ولم تكتف بذلك بل قامت بعمل موسوعة للشاعرات الفلسطينيات ضمّت تسعا وستين شاعرة في طبعتها الأولى، وقد سبقها معجم أعلام النساء الفلسطينيات لـ “غريد الشيخ محمد”.
وقد تعرفت على الأديبة “نهى عودة” حين أقمت لها ندوة بلجنة العلاقات العربية التي أتشرف برئاستها باتحاد كتاب مصر، حيث شاركت في إعداد كتاب بعنوان “قصائد في رحاب القدس”، وحضر الندوة المستشار الثقافي لدولة فلسطين بالقاهرة الصديق الأديب الخلوق “ناجي الناجي”، وقامت وحدها بإعداد موسوعة الشاعرات الفلسطينيات وهو جهد مشكور وجهاد بالكلمة.
وقد أحسنت “نهى” حين أهدت هذه الموسوعة “إلى المرأة التي اختزلت في ذاتها أسمى معاني الحياة والخصب والعطاء والتضحية، وتؤمن أنها مفتاح السعادة لكل البشرية.
إلى المرأة العربية التي تؤمن بأنها صانعة المستقبل، والأمينة عليه، وأن لها رسالة إنسانية عالمية لإشاعة المحبة والخير والجمال.
إلى المرأة الفلسطينية التي تؤمن بأن المستحيل هو كائن خرافي يستوطن عقول الضعفاء والجبناء والمتخاذلين.. اجتمعت عليها شياطين العالم فلم يزدها ذلك إلا عزما وإصرارا على إبقاء الأمل الفلسطيني على قيد الحياة واليقظة.. إلى كل قلم نزف وينزف من أجل فلسطين العربية.”
وقد تشرفت بكتابة كلمة عن هذه الموسوعة بدعوة من بنتي “نهى”، فقلت: “هذه موسوعة مهمة في التأريخ للشاعرات الفلسطينيات المعاصرات، وتوثيق أسمائهن ونتاجهن الشعري خصوصًا أن الشاعرات الفلسطينيات موزّعات على أقطار العالم بسبب الشتات الفلسطيني الذي فرضه الغاصب الصهيوني، الذي يحاول منذ ثلاثة أرباع القرن تهويد الأرض وتغيير ديمغرافيتها بتهجير سكانها، ولكن هيهات، وصاحبة الموسوعة الأديبة نهى عودة، ياسمينة عكا، تستحق التقدير وهي تجاهد بالكلمة حين تضطلع بهذه الموسوعة الرائدة والمهمة التي تجمع الشاعرات الفلسطينيات المعاصرات بين دفتيها، وإنْ شاء الله يجتمعن في مهرجان شعري في ساحة المسجد الأقصى عما قريب”.
كما سعدت بالمشاركة عن بعد في مناقشة ديوان الشاعرة د. آلاء القطراوي في غزة، وهي شاعرة مبدعة ومتخصصة في الأدب العربي، واستضفت القاصة الفلسطينية إيمان الناطور في إحدى ندوات لجنة العلاقات العربية، والشاعرة والروائية أجفان جولاني، وأشارك أديبات فلسطينيات في مجموعات على واتساب أو على فيسبوك، وهن على مستوى مُشرف من الإبداع والالتزام بالقضية الفلسطينية ومنهن د. وجيهة السطل والشاعرة نهى عمر والأديبة سلوى حماد والأديبة وفاء علوية والأديبة سما حسن والباحثة الجادة د. ياسمين كامل الشوا والروائية وقمر عبد الرحمن والشاعرة سفانة إسماعيل شتات والشاعرة ريما كامل البرغوثي والشاعرة الكبيرة د. نبيلة الخطيب رئيس رابطة الأدب الإسلامي بالأردن.
والجميل أنَ ناشرة الموسوعة هي الشاعرة الفلسطينية ناريمان علوش، التي قالت في ختام كلمتها: “وها هي الموسوعة بين أيدينا الآن تحمل في صفحاتها أنفاس كل شاعرة فلسطينية تقطر القصيدة من أصابعها، بكل ما فيها من حب وحنين إلى الأرض ووجع الغياب..
كل التهاني للشاعرة “نهى عودة”، هذه الشاعرة المناضلة التي تعكس صورة المرأة الفلسطينية بكل ما فيها من عزة وكرامة وثقافة ورقي، وأطيب التحيات لجميع الشاعرات المشاركات في هذه الموسوعة.
وقد صدرت الموسوعة بكلمات لأحد عشر أديبا وأديبة من دول عربية يتصدرهم صديقي الأديب والصحفي المثقف أ. محمد ياسين رحمة من الجزائر يليه د. سحر فهد القواسمي عضو المجلس الوطني الفلسطيني، والشاعر الدكتور عمر عبد الدائم من ليبيا، والأديب الفلسطيني محمد شريم منسق منبر أدباء الشام، والأديب والناقد التشكيلي المصري سيد جمعة، والناقد الأردني د. حسام عزمي العفوري ود. جمال مرسي عميد قناديل الفكر والأدب ونائب رئيس لجنة العلاقات العربية باتحاد كتاب مصر، ود. بسيم عبد العظيم شاعر وناقد أكاديمي ورئيس لجنة العلاقات العربية باتحاد كتاب مصر وكاتب هذه السطور، والكاتب الأردني سامر المعاني، والشاعر الأردني المحامي أكرم الزعبي الرئيس السابق لرابطة الكتاب الأردنيين، والشاعر والإعلامي التونسي نور الدين بن يمنية.
ومما لاشك فيه أن مشاركة هذا العدد من الأدباء والنقاد والصحفيين والإعلاميين العرب في الكتابة عن هذه الموسوعة يدل دلالة قاطعة على أهميتها، وهذه الموسوعة هي خير ما يُهدى إلى المرأة الفلسطينية في عيد الأمّ وفي يوم الأرض وفي كل مناسبة فلسطينية غالية حتى يتم تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني البغيض، وعودة اللاجئين الفلسطينيين واللاجئات الفلسطينيات إلى وطنهم مرفوعي الهامات بفضل الجهاد المقدس وفداء فلسطين بالروح والدم والجهاد بالكلمة المقاتلة، مصداقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم لسيدنا حسان بن ثابت، رضي الله عنه، مشجعا إياه على الدفاع بشعره عن الرسول صلى الله عليه وسلم ورسالة الإسلام الخالدة: “أهجهم وروح القدس معك”.
وكم سعدت بتخصيص هذا الملف للأم الفلسطينية، كما أني لا أتردد في المشاركة في أي مشروع ثقافي أو نقدي يخدم القضية الفلسطينية، وكم شاركت بشعري وآرائي في إذاعة صوت فلسطين من القاهرة، وهذا جهد المقل، ونسأل الله تعالى القبول.
تحية تقدير واعتزاز واحترام للمرأة الفلسطينية أما وبنتا وأختا مثقفة راقية ومناضلة واعية، فكل عام وأنتن بخير ونصر وتوفيق.

غزّة.. اعذرينا!
– ألو!
– يمّا
– إي يمَّا؟ وين رايح أنت؟
– ادعيلي أنا جُوّا عَمْ حارب اليهود
– أمانة يمّا بتحكي جَدّْ؟ احلف يمين
فرح، خوف، قوّة، فخر واشتياق، مشاعر مختلطة فجّرها بكاؤها الذي أبكى أمّهات العالم المؤمنة أنّ أولادها تربّوا على يديها أبطالًا، خُلقوا ليكونوا سيف المواجهة أمام الاحتلال. بكينا ولكن!
لماذا نبكي ولسنا نحن من يحارب في ميدان القتال؟ لماذا نبكي ونحن نعلم أنّهنّ أمّهات يقدّمن نبضات القلب فداءً للأرض والقضيّة؟ لماذا نبكي ونحن وراء الشّاشات نتابع وأيدينا مُكبّلة؟
ما جرى منذ بداية الطّوفان وحتى اليوم، جرفنا معه لنكتشف كم نمتلك من الغضب لم ولن يخمد تجاه العدوّ، وفي الوقت عينه كم نمتلك من العاطفة التي فاضت قهرًا لكسرتنا؟
ولكن لا يصدّق أحدكم أنّنا لم ننتفض، انتفضنا بدعائنا، وصلواتنا، وأموالنا، وأنفسنا، وسيأتي اليوم الذي ننتصر فيه على عجزنا، سيأتي اليوم الذي يكتشف فيه الجميع أنّ الانتصار ليس بالمساومات، ولكنّه باليد المجتمعة بعضها ببعض دون خوف.
إلى أن يحين انتصارنا.. فلسطين اعذرينا!
جئتكِ وربيع الرّوح طوفان
جرف فُتات إنسانِ
غرّتني زهرة نيسانِ
ونسيتُ شجر الزّيتونِ
ورمتني يا بؤبؤ عيني
في بحرٍ من حبرٍ قاني
***
غلبني مرّ الإنكارِ
سلخ رونق أوتاري
وتهت عن موج يديكِ
قاربٍ دون قبطانِ
أبحث عن شراعٍ، عن أمانٍ
مزّقته نداءات أطفالٍ
حطّمت علم الأرقامِ
***
قطفتُ نجمات الغرباء
وانطفأت بين يديّ غبارًا مريرًا
وانكسر صدقُ إيماني
وأعود يا أمّي
أعود يا أمي
حاملةً خيبتي
أجرّ ضعفي
أجرّ خوفي
وفوق ظهري حملت أثقال جُبني
وفي جعبتي دموعٌ يتيمة
رصفتها فوق جثث
عرّت كلّ عوراتي
***
فماذا أقول أمّاه؟
والقلب سكنته الآه
أين صندوق الشّكاوى؟
باللّه عليكِ دلّيني
مدّي يديكِ، مسّي جبيني
من يقرأ غيرك في عينيّ
رسالات جرحٍ
غيّرت مجرى تكويني
***
باللّه عليكِ يا أمي
دموع غزّة قد طافت
حرّقت نار بركاني
اسكبي دعاءك نحو السماء
امحِ عن أرضها سيول الدّماء
ملائكتها، في البعيد، نادتني
ما سمعتُ
ما رأيتُ
وسمعتُ ورأيتُ
وفي غار ضعفي انزويتُ وبكيت
عصرتني حيطان دياري
وصوتها يزلزل زلّاتي:
شهيدٌ ابني وفؤادي
***
أعتذر!
واعتذاري مأساتي
وقبح عذري غوى سواد شاشاتي
قابعةٌ أنا خلف مندبي
وصلاتي باطلةٌ
فادعي لي في صلاتِك توبتي
تسقي جفاف أجسادهم
تُحيي شجر الزّيتون
“إيّاك يا يمّا تتراجع، إيّاك تخاف، إيّاك تتخاذل، كلنا أملنا فيك، ربّيتك عالشّهادة لأن الإنسان بيستاهل يعيش، وحتى يعيش لازم نضحي”.
لن يطول الاعتذار، سوف لن نبقى مكتوفي الأيدي، إنّ دموع أمّهاتنا سقت الرّوح إيمانًا وعزيمة، ليست فلسطين فقط، بل كلّ العرب، نستحق أن نحيا الحياة، ومهما اختنقنا سيأتي اليوم الذي نقطع أيديهم عن أعناقنا.
رسالة إلى تلك الزيتونة..
أكتب إليكنّ، يا من حملتنّ الأوجاع في صدوركنّ ولم تجزعن، ولم تضعَفن، ولم تُكسَرن، يا وجه أمّي الصامد بوجه الألم في وجوهكنّ، أكتب إليكنّ رسالة، إلى أمهات الشهداء لا سيّما شهداء الدفاع المقدّس في فلسطين ولبنان، إليكنّ أيّتها العزيزات المناضلات المكافحات، في الواحد والعشرين من توقيت الدفاع والنضال من آذار/ مارس المعبّأ بدم النحور، أكتب إليكنّ خجلًا، يا كلّ الأمّهات يا وجه أمّتي يا وجه أمّي، أيّتها الأم، يا من حملتِ جبالاً من الألم وغمامًا من الهموم، يا من زرعتِ في أرضك حبًّا لا يموت وعزيمة لا تُهزم، في هذا اليوم الذي نحتفل فيه بعيد الأم، لا يسعنا سوى أن نرفع إليكِ أكفّ الدعاء، ونرسل إليكِ كلمات من القلب، رغم أن الكلمات لا تفيكِ حقك. أم الشهيد – ولا سيّما الفلسطينية – ليست مجرّد أمٍّ، بل هي رمزٌ للصمود، وعنوانٌ للتضحية، فهي التي لم تتوقف عن العطاء يومًا، ولم تنكسر أمام القسوة أو المحن.
أيتها العظيمة، أنتِ التي عشتِ فصول الألم، ورأيتِ الدّماء تغطّي التراب، وشاهدتِ فلذات أكبادك يُسحبون من بين يديكِ إلى المعتقلات أو يسقطون في ميادين المقاومة، ومع ذلك، بقيتِ صامدة، تدافعين عن شرف الأمة وعزّتها، حتّى في أحلك الأوقات، كنتِ الأمّ التي تهدهد الحلم، وتحمل الأمل بين يديها، تزرع في نفوس أطفالها حبَّ الوطن، وتعلمّهم كيف يواجهون الحياة بعزيمة لا تلين.
في هذا اليوم، نحتفل بكِ، يا من تمثلين الربيع في أروع تجلياته، يا من تحتفلين كل يوم بالسلام الذي تحلمين به رغم كل الدماء، رغم الجراح. أنتِ الأمل الذي ينبض في القلوب، رغم ما عانيته من آلام، ورغم التضحيات التي لا تُحصى. في عيدكِ، نستحضر قوّتكِ وحنانكِ، ونُشيد بصبركِ الذي لا يُقاس، ونعترف بأنكِ أكثر من أن تكوني أمًّا، فأنتِ الأم والمناضلة، الباذلة للروح، والعاملة لأجل غدٍ أفضل.
يا أمّنا، لا نجد من الهدايا ما يليق بكِ سوى كلماتنا، التي قد لا تفيك حقّك، ولكنها محاولة لتخليد جهدك وعطائك. ففي عيدكِ هذا، نؤكّد لكِ أنّ صوتكِ في قلب كلّ حرٍّ أبيّ، وأنتِ في ذاكرة الأجيال. نحبّكِ ونقدّركِ، يا أمًّا أعطت من دمها وفلذّات أكبادها لأجل فلسطين.
أنتِ الأم الشامخة الصامدة، أنتِ، يا من تحملين في قلبكِ عبق التاريخ وعطر الأرض، يا من بعينكِ تتجسّد قصص البطولة والتضحية، أنتِ الأم التي لا تعرف الاستسلام، ولا يلين لها عزم. أنتِ الشامخة التي رغم كل المحن والآلام، لم تَفقد أملها، بل واصلت النضال بكل حب وكرامة، مدافعة عن أرضها، وحامية لحقوق أبنائها، تجسّدت فيكِ معاني التضحية والصمود التي لا تُمحيها الأيام.
أنتِ، يا من وضعتِ فلذّات أكبادكِ بين يديكِ قربانًا على مذبح الحرية، أنتِ التي جعلتِ من ألم الفقد قوّة، ومن جرحكِ درسًا في العزيمة. قدّمتِ فلذات أكبادكِ فداءً للوطن، كي نعيش في أمان، كي تظل الأرض حرّة، كي تبقى القيم راسخة، والجذور ثابتة في الأرض. قلبكِ لم يكن ينبض بالحب لأطفالك وحسب، بل كان ينبض بالحرية، ليرسّخ في نفوسهم أنّ الكرامة لا تُباع ولا تُشترى، وأنّ الأرض لا يُتنازل عنها مهما كان الثمن.
كزيتونةٍ أنتِ، لا تتركين جذوركِ مهما عصفت الرياح، ثابتة شامخة لا يُثنيها زمان ولا مكان. زيتونة تحدّت كل الأعاصير والزّوابع التي مرّت عليها، وما زالت، رغم التّحديات، تثمر الصمود والوفاء. أنتِ رمز العنفوان الذي لا يلين، والعطاء بلا حدود. فحين نرى تلك الأمّ التي تقف على رفاة بل على أشلاء جسد ابنها وفلذة كبدها وروحها التي بين جنبيها، شامخة معتزّة وهي تقول: “اللهم تقبّل منّا هذا القربان، أَرضيتَ يا رب؟ خُذ حتّى ترضى”، مُتأسّيةً بجبل الصبر “زينب” التي ما هانت وما ضعُفت، فكيف يمكن أن يفكّرأحدهم بأن أمّةً نساؤها جبال من الصبر يمكن أن تزول، أو تضعُف أو تخنغ للغاصب المستعمر، لا وألف لا، فطالما هناك نساء يُنجبنَ لن تنعموا بهناء عيش أبدا.
يُقال إنّ طائر الفينيق خرج من بين أشجار أرز لبنان ليبعث من رماده ويحيي الحياة من جديد، ولكنني بتُّ أجزم أنه زار فلسطين أيضًا، وتحديدًا، وقف بين يديكنّ أيّتها الأمّهات، ليأخذ من شموخكنّ وقوّة إرادتكنّ، ثم طار إلى السماء ليُعلن أنّ الوطن هو الأرض التي لا تموت، وإن كانت قد مرّت بعصور من الظلام، فهي دائمًا ستبقى مشتعلة بحب أهلها وتضحياتهم، وأن الأمل فيها لا يموت، وأنها ستظل دائمًا تنبض بالحياة، منبعًا للحرية، ورمزًا للصمود. الأم التي تربّي الأبطال في صمت، كما الزيتونة، تقف في وجه الرياح، شجرةً لا تَزُول، لا تتزعزع.
أمّهات الشهداء هنّ أيقونات الصبر والعزّة، هنّ اللاتي حملن في قلوبهنّ أوجاعًا لا يمكن أن يتحملها سوى العظماء. قدّمن أغلى ما يملكن من فلذات أكبادهنّ، فأنجبن أبطالًا ضحّوا بأرواحهم فداءً للوطن وللحرية، ليعيش الأبناء والأحفاد في أرض طاهرة تحفظ كرامتهم وحقوقهم. لم يكن فقدانهنّ سهلاً، بل هو ألمٌ يتجدّد مع كلّ ذكرى شهيد، وكلّ نفَسٍ وكلّ دقة قلب، لكنهنّ كنّ ولا زلن يُثبتن في كلّ لحظةٍ أن حبّهنّ للوطن أكبر من أيّ شيء آخر. هؤلاء الأمهات لم يُقابلن الفقد باليأس أو الاستسلام، بل بالثبات والصمود، وجعلن من دماء أبنائهنّ وقودًا لمواصلة درب المقاومة والنضال.
فأيّ كلماتٍ يمكن أن تُعطيهنّ حقّهنّ؟ أيّ عباراتٍ يمكن أن تعبّر عن عمق تضحياتهنّ وصبرهنّ؟ إنهنّ المعلّمات في مدرسة البطولة، وصاحبات النفوس الطاهرة التي تشعّ نبلًا وإباء. فكلّ عيد أمّ وأنتِ رمز العنفوان، وكلّ عيد أمّ وأنتِ شامخة كالأرزة، وكلّ عيد أمّ وأنت مدرسة في التضحية والإباء.

نظرات في “أدب الأم”..
لفظة “الأم” تدل على أصل الشيء ومجمعه؛ ولذلك سُمِّيَت الأمُّ أمًّا لكونها أصلا، فهي مجمع خلق الإنسان إذ يجمع في رحمها، وأمُّ كل شيء معظمه، يقال لكل شيء اجتمع معه غيره فضّمه إليه: أمّه، والأمّ: الوالدة، وتطلق على الجَدّة، يقال: حوّاء أمّ البشر، والأمّ: خادم القوم، الذي يلي طعامهم وخدمتهم، وجمعها للعاقل (أمّهات)، ولغير العاقل (أمّات)، والأمّ: المسكن، ومنه قوله تعالى: “فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ” (سورة القارعة، الآية: 9).
و”الأُمُّ”: الشيء يَتْبَعه ما يليه. واستُخدمت لفظة الأمّ في تركيبات إضافية دالة منها: أمُّ البشر: حوّاء، أمُّ الخبائث: الخمر، أمُّ الرَّأس: الدِّماغ، أمُّ القُرى: مكّة المكرّمة، أمُّ الكتاب: فاتحته (سورة الفاتحة)، أُمُّ النجوم: المَجَرَّة.
يقال: ما أَشبه مجلسك بأُمِّ النجوم، وأمّهات الصحف: الجرائد البارزة، وأمّهات الكتب: المصادر الأساسيَّة المهمَّة، ويقال: هو من أُمَّهات الخير: من أُصوله ومَعادنه. وجاء التعبير الوصفي “اللُّغة الأُمّ”: اللغة الأولى التي يمتلكها الفردُ، اللغُّة الأصل التي تتفرَّع إلى لغات… وهكذا نجد دلالات موقرة للفظة “الأمّ” في الاستعمال اللغوي العربي، قديما وحديثا، تدور حول الأصل، والرأس، والمنبع، والمجمع.
ومصطلح “أدب الأم” مصطلح طريف، ويدخل في مجالات عدة، حسب نوع الإضافة فيه، فإن كانت بمعنى “اللام” (أدبٌ للأمِّ) كان مصطلحا تربويا وأخلاقيا واجتماعيا ودعويا، ودل على النهج المثالي والسلوك الطيب المستقيم السامي في التعامل مع الأم.
وإن كانت الإضافة بمعنى “عن” (أدبٌ عن الأم) أو بمعنى “في” (أدب في الأم) أو بمعنى” إلى” (أدب إلى الأم) كان المصطلح أدبيا خاصا بالدراسة الموضوعاتية الدائرة حول مضمون الأمومة في إبداع الأدباء شعراء أو نُثّارا أو حكّائين.
وإن كانت الإضافة بمعنى “من” (أدبٌ من الأم) كان المصطلح خاصا بدراسة الإبداع الصادر عن الأمّهات تجاه أولادهن وبناتهن، ومن حولهن من البشر، وما يعتريهن من مشاعر وأفكار!
فنحن أمام نوعين من أدب الأم، أدب الأم التربوي، وأدب الأم النقدي.
أما أدب الأم التربوي فينطلق من النهج المثالي في التعامل مع الأم، وهو مُقتبس من التوجيه القرآني الكريم: “وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا” (سورة الإسراء، الآية: 23- 24).
وهذا ما عبر عنه الإمام “الشّافعي” بقوله:
وَاخْـضَـعْ لأُمِّــكَ وأرضها — فَعُقُـوقُـهَـا إِحْـدَى الكُبَــرْ
و”أبو العلاء المعرّي” بقوله:
العَيشُ ماضٍ فَأَكرِم والِدَيكَ بِهِ — وَالأُمُّ أَولى بِإِكرامٍ وَإِحسانِ
وَحَسبُها الحَملُ وَالإِرضاعُ تُدمِنُهُ — أَمرانِ بِالفَضلِ نالا كُلَّ إِنسانِ
وفي مجال أدب الأم الإبداعي نجد نصوصا أدبية عميقة ومُحلِّقة دارت حول “هذه المكانة التي مُنحت للأم، تغلغلت في الثقافة الشعبية وفي الوجدان والوعي العام، فصارت الأم أحد مواضيع المنجز الإبداعي الإنساني، شعرا وقصة ورواية وسينما، إلخ..”.
ومن أبرز نصوص أدب الأم الإبداعي وأسيره قول “حافظ إبراهيم”:
الأُمُّ مَـدْرَسَــةٌ إِذَا أَعْـدَدْتَـهَـا — أَعْـدَدْتَ شَعْبـاً طَيِّـبَ الأَعْـرَاقِ
الأُمُّ رَوْضٌ إِنْ تَـعَهَّـدَهُ الحَـيَــا — بِـالـرِّيِّ أَوْرَقَ أَيَّـمَـا إِيـرَاقِ
الأُمُّ أُسْـتَـاذُ الأَسَـاتِـذَةِ الأُلَـى — شَغَلَـتْ مَـآثِرُهُمْ مَـدَى الآفَـاقِ
وهذا الشاعر اللبناني “أديب مظهر” يبدع مشهدا قصصيا شعريا معبّرا بعنوان “قلب أم”:
أغرى امرؤٌ يوماً غلاماً جاهلاً — بنقوده حتى ينالَ به الوطرْ
قال: ائتني بفؤاد أمّكَ يا فتًى — ولكَ الجواهرُ واللآلئ والدُّرَر
فمضى وأغمدَ خِنجراً في صدرها — والقلبُ أخرجَه وعاد على الأثر
يا هولَ ما فعل الغلامُ كأنّهُ — من دون قلبٍ أو له قلبٌ حَجَر
ولفرط سرعته هوى فتدحرج الْـ — قلبُ المعنّى في التراب كما عثر
ناداه ذاك القلبُ وهو مُعفَّرٌ — ولدي حبيبي هل أصابكَ من ضرر
قد كان هذا الصوتُ رغمَ حُنوِّهِ — غضبَ السماءِ به على الولدِ انهمر
ورأى فظيعَ جنايةٍ لم يأتها — أحدٌ سواه منذ تاريخِ البشر
فارتدَّ نحو القلبِ يغسله بما — فاضت به عيناه من سيل العِبَر
ويصيح مُرتعداً: أيا قلبُ انتقمْ — منّي فإنّ جريمتي لا تُغتفر
واستلَّ خنجرَه ليطعنَ قلبَهُ — طعناً سيبقى عِبْرةً لمنِ اعتبر
ناداه قلبُ الأمِّ: كُفَّ يداً ولا — تذبحْ فؤادي مَرّتين على الأثر
أما الشاعر التونسي “أبو القاسم الشابي” فيرفع الأمومة إلى مرتبة القداسة، يقول:
حَرَمُ الحياة ِ بِطُهْرِها وَحَنَانِها — هل فوقَهُ حرَمٌ أجلُّ وأقدسُ؟
بوركتَ يا حرَمَ الأمومة والصِّبا — كم فيك تكتمل الحياة ُوتقدُس
وننتقل من هذه الرؤية الغيريّة العامة للأم إلى رؤية عاطفية ذاتية للأم في قصيدة الشاعر “فاروق جويدة” المعنونة بـ (لكنها أمي) والتي يقول فيها مصوِّرا علاقته بأمه:
ويبقي الشعر
في الرّكن يبدو وجه أمي
لا أراه لأنّه
سكن الجوانح من سنين
فالعين إن غفلت قليلاً لا ترى
لكنّ من سكن الجوانح لا يغيب
وإن توارى مثل كل الغائبين
يبدو أمامي وجه أمي كلما
اشّتدت رياح الحزن وارتعد الجبين
النّاس ترحل في العيون وتختفي
وتصير حُزنـاً في الضّلوع
ورجفة في القلب تخفق كلّ حين
لكنّها أمي
يمرّ العمر أسكنـها وتسكنني
وتبدو كالظّلال تطوف خافتة
على القلب الحزين
منذ انشطرنا والمدى حولي يضيق
وكل شيء بعدها عمر ضنين
صارت مع الأيام طيفـاً لا يغيب
ولا يبين
طيفـاً نُسمّيه الحنين..
ثم يختم معزوفته بتساؤلات حزينة حول رحيلها وفراقها قائلا:
يتساءل المسكين أين حدائق الذكرى
وينبوع الحنان
أين التي ملكت عروش الأرض
من زمن بلا سلطان
أين التي دخلت قلوب الناس
أفواجا بلا استئذان
أين التي رسمت لهذا الكون
صورته في أجمل الألوان؟!
ومن هذه المشاعر الحميمية تجاه الذكريات مع الأم نجد مشاعر أكثر، واقعية عن الأم في قصيدة (إلى أمي) للشّاعر “محمود درويش”، حيث يقول:
أحنُّ إلى خبز أمي
وقهوةِ أمي
ولمسةِ أمي
وتكبر فيَّ الطفولةُ
يوماً على صدر يومِ
وأعشق عمري لأني
إذا متُّ أخجل من دمع أمي
خذيني، إذا عدتُ يوماً
وشاحاً لهدبكْ
وغطّي عظامي بعشبٍ
تعمَّد من طهر كعبكْ
وشدِّي وثاقي
بخصلة شَعرٍ
بخيطٍ يلوِّح في ذيل ثوبك
…
هرمتُ
فردّي نجوم الطفولة
حتى أشاركْ
صغار العصافير
درب الرّجوع
لعُشِّ انتظاركْ
وهذا الشاعر السوري “نزار قباني” يبدع قصيدته “خمس رسائل إلى أمي” فيرتقي بالأمّ إلى مرتبة القدسية:
صباح الخير يا حلوه..
صباح الخير يا قديستي الحلوهْ..
مضى عامان يا أمي
على الولد الذي أبحر
برحلته الخرافيّهْ
وخبّأ في حقائبه
صباح بلاده الأخضر
وأنجمها، وأنهرها، وكل شقيقها الأحمر
وخبأ في ملابسه
طرابيناً من النعناع والزعتر
ثم يبيّن مكانتها بين نساء العالمين قائلا:
عرفت نساء أوروبا..
عرفت عواطف الإسمنت والخشب
عرفت حضارة التعب..
وطفت الهند، طفت السند، طفت العالم الأصفر
ولم أعثر..
على امرأةٍ تمشط شعري الأشقر
وتحمل في حقيبتها..
إلي عرائس السكر
وتكسوني إذا أعرى
وتنشلني إذا أعثر
أيا أمي..
أيا أمي..
أنا الولد الذي أبحر
ولا زالت بخاطره
تعيش عروسة السكر
فكيف.. فكيف يا أمي
غدوت أباً..
ولم أكبر؟
وأدب الأمّ إبداعٌ إنساني عالمي، يكاد يكون موجودا في كل حضارة وفي كل ثقافة، فهذا “ويليام شكسبير” يقول: “إن أرقّ الألحان وأعذب الأنغام لا يعزفها إلا قلب الأم”. وهذا “بيتهوفن” يقول: “الأم هي كل شيء في هذه الحياة؛ هي التعزية في الحزن، والرجاء في اليأس، والقوة في الضعف”. وجاءت الأم شخصية رئيسة بطلة في كثير من الروايات العالمية والعربية مثل رواية “الأم” لـ “مكسيم غوركي”، التي نشرت عام 1907. بطلة هذه الرواية أمٌّ تكافح وتناضل في سبيل ابنها في أول المطاف، لكن بعد فهمها لطموحاته وأهدافه، تناضل من أجل الجميع وخاصة العمال الذين عانوا في تلك الفترة من ظلم الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج. وهذه الكاتبة الفرنسية “مارغريت دوراس” فتستحضر في “سد ضد الباسيفيك”، التي نشرت عام 1950، نضال والدتها الشرس ضد تجارب الحياة القاسية. كانت الأم معلمة وأرملة صغيرة، كافحت لتربية أطفالها في الهند الصينية، بعيدا من بلدها الأصلي. ولا نستغرب حضور الأم في الروايات في القائمة الطويلة لجائزة البوكر العالمية 2023، كانت هناك خمس روايات تنشغل بقضية الأمومة، هي: “الحي الغربي” للكاتبة شيتنا مارو، “لؤلؤة” للكاتبة سيان هيوز، “كيفية بناء قارب” للكاتبة إيلين فيني، “أغنية النبي” للكاتب بول لينش، “كل قلوب الطيور الصغيرة” للكاتبة فيكتوريا لويد بارل..
وفي الرواية العربية نجد شخصية “أمينة” في ثلاثية “نجيب محفوظ” (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية) التي تُعدّ أنموذجا للزوجة والأم بالصورة التقليدية في الطبقة الوسطى، بحسب الثقافة السائدة والقيم حينها، وهذه شخصية الأم القائدة (فاطمة تعلبة) في رواية “الوتد” لخيري شلبي. وفي روايتي “أم العروسة” و”الحفيد” لعبد الحميد جودة السحار؛ يمكن اعتبارهما رواية واحدة في جزئين، نجد الأم المكافحة من أجل الأسرة؛ وجعل الروائي الفلسطيني المقاوم “غسان كنفاني” الأمّ، بشخصية “أم أسعد”، تملك وعيا سياسيا وتناضل من موقعها، محمّلا إياها رسالة أن المقاومة هي الحل!
وما أجمل وأنبل أن نهدي رسائل طيبة إلى الأم الفلسطينية في عيد الأم:
أيتها الأم الفلسطينية المبتلاة الصابرة المصابرة، المقاومة المجاهدة، بارك الله سعيك وحياتك وآثارك ونسلك. حفظك الله وجبرك ونصرك وسترك وعوّضك الله تعالى بكل خير عمّا فقدت من أولاد وبنات وأموال وديار. اصبري وصابري، فأنت المشعل وأنت الوقود، وأنت مصدر المقاومين والمقاومات، وسبب بقاء فلسطين رغم كل محاولات الإبادة والتهجير والتشريد والتغريب..

المرأة الفلسطينية أيقونة الصمود في صور الكاريكاتير الرقمية
لطالما كان فن الكاريكاتير مرآةً تُبرز الواقع الاجتماعي الذي يعيشه شعب ما، وتعبّر عن القضايا الوطنية، والاجتماعية، والدينية، والاقتصادية بطريقة ساخرة ومؤثرة، ومع تطور هذا الفن ازداد توظيف صورة المرأة فيه؛ لأنها أضحت تتساوى مع الرجل في نواحي الحياة المختلفة.
كسرت الصورة النمطية المناطة حول المرأة في فن الكاريكاتير لتكون شخصية قوية ومستقلة استطاعت الدفاع عن الأرض، والتمسك بها؛ إذ حرص فنان الكاريكاتير على توظيف صورة المرأة في عمله؛ لما تملكه من دلالات تنبثق عنها كالصبر، والمقاومة، والقوة، وتعود أهمية المرأة في كونها ترتبط بالتراث الضارب في عمق الأرض؛ إذ تلتحم صورة المرأة مع صورة الأرض في الموروث الإنساني الأسطوري القديم؛ لأن المرأة لها دور عميق في عملية الإخصاب والإيحاء والبعث من جديد؛ لأن المرأة ولدت من رحم الأرض؛ إذ عكَس هذا الارتباط جينات دلالية رمزية تتمثل بالعطاء، والخصوبة، والصمود، فالمرأة مثل الأرض، تمنح الحياة وتُنبت الأمل، وتتحمّل التغيّرات لكنها تظل شامخة وقوية.
تحمل الصورة الكاريكاتيرية التي رسمها الفنان “ناجي العلي” أيقونات تختبئ خلفها دلالات وطنية؛ إذ تعبّر الصورة في مضمونها عن مقاومة الفلسطيني على أرضه، فنرى حنظلة يقف شاهدًا على المقاومة ومشاركًا فيها، وهو مكتوف اليدين، حافي القدمين، يدير ظهره مُعبّرًا عن رفضه للواقع المأسوي الذي يعيشه شعبه الفلسطيني، وتكتفه ما هو إلا دليل على حالة عجزه أمام أعمال الاحتلال المجحفة بحق الشعب الفلسطيني بصورة عامة، والمرأة الفلسطينية بصورة خاصة.
ويستحضر الفنان في لوحته صورة “فاطمة” المرأة المكافحة المناضلة الصابرة خلف قضبان السجن، ويكثف الفنان صورته باستخدامه قضبان السجن بدلًا من بؤبؤي المرأة في عينيها الذي يدل على إرادتها، وانتصارها على قهر السجّان، فالمرأة تنظر إلى “حنظلة” بدموعها القاهرة التي حرمها من صنع كعك العيد الذي تترجمه عبارة الفنان أسفل اللوحة (كعك العيد!!) بجانبها علامتَي تعجّب؛ إذ يقابل كعك العيد سلاسل السجّان فوق رأس المرأة التي ما زالت تسلب حياة الفلسطينيات وتزيد معاناتهن داخل سجون الاحتلال، فالاحتلال لا يراعي شعور مجيء العيد أو قدوم الشهر الفضيل الذي صوّره هلال شهر رمضان أعلى يسار الصورة الذي يشكل بؤرة أمل في الخروج من السجن، فصورة الفنان تقوم على ثنائيات ضدية، هي: الظلمة والنور، أو السجن والحرية.
واستلهم فنان الكاريكاتير صورة المرأة في سبيل الدفاع عن الأرض، والتمسك بها، وذلك باقتباسه لعبارة: “ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت النصر” التي تكشف عن الدعاء الذي يقوله الصائم على مائدة الإفطار بعد ضرب مدفع رمضان، وغروب الشمس؛ فهو يقول: “ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله”. فالأجر وثباته مرتبط بالصيام وفعل العمل الصالح الذي يبعد الناس عن الأعمال السيئة أثناء صيامهم.
وتأتي المفارقة بين دعاء الصائم والدعاء المستحضر على اللوحة الذي يدل على ثبات النصر في أرض فلسطين ودم الشهداء الذين ضحوا في سبيل دفاعهم عن أرضهم، ويبرز لنا الدم الأحمر الذي يروي الأرض والمرأة، ولا يخفى علينا ارتباط المرأة بالأرض التي تعبّر عن مرجعية فكرية فلسفية، فالمرأة أيقونة رمزية مرئية تشير إلى الوطن والأرض، وهي تدل على استمرارية الحياة والمقاومة والصمود والتحدي.
وتظهر صورة الكاريكاتير السابقة علامات الحزن والشقاء والتشقق على جسد المرأة بفعل احتلال الأرض؛ نظرًا لعدم وجود استقلال للوطن؛ إذ إن النصر وثباته مرتبط بدم الشهيد الذي يذهب العطش، ويروي الأرض – المرأة – بدمه.
تستدعي الصورة التالية النظر إلى رموزها؛ لتفكيك بؤرها الدلالية؛ إذ تستدعي الصورة الكاريكاتيرية زمن شخصية “صلاح الدين الأيوبي” وربطه بزمن حاضر يسلط الضوء على اشتداد أزمة المسجد الأقصى، واستباحت حرمات القدس ومقدساتها الإسلامية والمسيحية.
وتصوّر الصورة الآتية حالة الصبر والمقاومة في مواجهة اعتداء الاحتلال المتكررة على مسجد قبّة الصخرة والمسجد القبلي لحظة دخول المستوطنين اليهود إلى ساحاته، وتأمين قوات الاحتلال الطريق أمامهم دون اعتداء يمسهم، فالعبارة: “وامعتصماه” توحي بدلالات الحزن والألم الذي يعتصر قلب المرأة المقدسية الفلسطينية جراء الاعتداء عليها، واستباحة أصالتها وكرامتها؛ إذ يأتي هذا الاستلهام الحرفي في ارتباط شخصية “المعتصم” بتحرير المرأة المسلمة من أيدي الروم.
وتتجلّى المرأة في اللوحة الآتية حارسة لمدينة “جنين” الأبية، وترمز الصورة بشكل المرأة الحامل في رحمها جنين المقاومة إلى ديمومة الصمود والتحدي، كما أن ارتفاع يدها وهي تحمل السلاح وجلوسها في هذه الوضعية تدل على النصر والعنفوان والتحدي، فاللوحة تكشف بعبارتها: “جنين تلد أبطالًا وشهداء” على استمرار المقاومة.
وفي نهاية المطاف، ترى الكاتبة أن توظيف المرأة الفلسطينية في صور الكاريكاتير الرقمية هو أداة قوية لنقل واقعها، وتسليط الضوء على قضاياها الاجتماعية والسياسية بأسلوب إبداعي ومؤثر. فهذه الرسومات لا تكتفي بترجمة التحديات التي تواجهها المرأة؛ بل تسهم أيضًا في تعزيز حضورها في المجال العام وإيصال صوتها إلى العالم. ومن خلال الفن الرقمي، يتمكن الفنانون من تقديم رسائل بصرية تعبّر عن النضال والصمود والتحدي، مما يجعل الكاريكاتير وسيلة تعبيريّة فعّالة تدعم حقوق المرأة الفلسطينية وتعزّز وعي المجتمع بقضاياها، والالتفات حولها.

أيّ أمٍّ أعظم من الأم الفلسطينية؟
تمسّك الفلسطينيون بأرضهم الأمّ كما تمسّكت هي الأخرى بهم، فكانت لهم الإبادة بالمرصاد. رائحة الموت انتصرت إلى حين، وهزمت أرواحا كان لديها الكثير لفعله في هذه الحياة، فقط لو كان فيها القليل من العدالة كما يُشاع.. لكنّ العدالة والقوانين والسيادة واحترام حقوق الإنسان باتت مجرد شعارات، ليس إلا!
حين يشنّ العدوّ هجومًا عنيفًا على أهل الأرض فيعانقونها عناقًا طويلًا، وتعانقهم هي الأخرى بحنان، فهي أمّهم الحنونة التي لم تبعهم يوما ورفضوا بدورهم أن يبيعوها، فدفعوا دماءهم مقابل وفائهم لأصلهم وأرضهم وموطنهم.
رجال كُثرٌ ماتوا، نساء كثيرات مِتن، وأطفال كُثر غادروا هذه الدنيا قبل أن يستكشفوها بحماسهم وبراءتهم، فالعدوّ لا يفرّق بين كبير وصغير، إنّه يريد القضاء على الجميع من دون رحمة أو شفقة.. إنّ هذه المشاهد القاسية تُدمي القلب، ولعلّ أقساها هو رؤية أمٍّ تحتضن بين يديها طفلها الذي مات جرّاء العدوان.
تراها تشمّ رائحته، تعانقه وتقبّله وترجوه أن يفتح عينيه، وتعده بأنها ستقوم بتحضير وجبة طعام شهيّة من أجله متى ما استطاعت الحصول على المكوّنات، إنّها مجرد مسألة وقت، هذا ما تُخبر به صغيرها لعلّ كلامها هذا يغريه بالعودة إلى هذه الدنيا، لكنّ الصغير قد بات في مكان آخر الآن، مكان فيه من السلام والأمان بقدر ما نتمنّى جميعنا.
ترفض تلك الأمّ التخلّي عن ابنها، فهو فلذة كبدها الذي يصبّرها على مواجهة صعوبات الحياة.. إنها تصبر وتتحمّل كل ما يحدث، فقط من أجله هو، وتحلم باليوم الذي سيأتي ويصبح فيه ابنها مهندسا، طبيبا، أو ربّما كاتبا.. حينها ستكون الحياة قد باتت أسهل، ربّما ستكون قد تحرّرت فلسطين، فيعيشون المتبقّي من أعمارهم في راحة وسعادة.
تتمسّك بملابسه، تشدّ عليها بيديها، إنها الملابس التي اشترتها بصعوبة بالغة فقط لكيلا تترك جسد صغيرها عرضة للبرد والمرض.
تبكي، تصرخ وترجو الله أن يعيد إليها كنزها الوحيد، فالأم لا تتحّمل الحياة بدون وليدها.
الحياة باتت فارغة من كل معانيها بنظرها بعد أن تجمّع العديد من الأشخاص حولها وبدأوا بمحاولة أخذ جثّة ابنها من بين يديها.
– توقفوا، لقد أخذ العدو روح ابني مني، فلا تأخذوا أنتم جسده، دعوه لي، دعوه لي.
هذا ما تطلبه من الناس بصوت يمزّقه البكاء، لكنّهم لا يأبهون لطلبها، فيأخذون الجسد تاركين لها شيئا وحيدا، ألا وهو الذكريات.
ذكريات باتت الآن كأنها من ماضٍ بعيد، أو كأنها تأتي من أرض أخرى غير هذه التي نعيش عليها.
تتذكّر اليوم الذي أنجبت فيه صغيرها، فتمنّت حينها أن يكون واحدا من أولئك الأبطال الذين سيحرّرون أرض فلسطين وروحها من أيادي الأشرار.
ومن ثم ترى صورة ابنها حين أرسلته للمرة الأولى إلى المدرسة، كيف بكى وتوسّل إليها أن تبقيه إلى جانبها، وها هي اليوم تبكي وتتوسّل إليه أن يبقى إلى جانبها!
أغمضت عينيها لثواني معدودة، ومن ثم فتحتهما، لعلّها تكون نائمة وترى كابوسا فتستيقظ لتجد صغيرها نائما إلى جانبها، فتعانقه وتشكر الله أنه كان مجرد كابوس لا ينتمي إلى الواقع، ومن ثم تنهض لتعدّ له الطعام الذي يحبه، أو الذي سيكون بمقدورها تحضيره، في الواقع هذا ليس بالأمر المهم، فالطعام والشراب والمنزل، كلها مجرد تفاصيل صغيرة مقارنة بوجود أحبّائنا إلى جانبنا.
ستنهض تلك الأمّ الجبّارة من جديد وتقف على قدميها وستمسح دموعها بيدها، وستتعلّم كيفية البكاء من دون أن يراها أحد، وستكمل حياتها، أو ستمثّل أنها تكمل حياتها بانتظار أن يأخذ الله أمانته فتعود لتجتمع بابنها، وحينها، حينها فقط ستعيش.
ليا الترك (طالبة إعلام في جامعة بيروت العربية – فلسطينية/ لبنان)
أيتها الأمّ الفلسطينية.. من دمعكِ ينبتُ الزيتون
إلى الأيقونة التي تسير بين صفحات التاريخ كملكة لا يمسُّ كبرياءها انحناء، كجبلٍ لا تهزّه الرياح مهما اشتدت قسوتها، إلى الأم التي تختبئ بين تجاعيد كفّيها حكايا لا يعرفها إلا الله والأرض. في يومكِ الذي يتزامن مع انبلاج الربيع، وكأن الطبيعة ذاتها تصفّق لعظمتكِ، تحتفل بسموّكِ الذي لا يوازيه سموّ، أكتب إليكِ كمن يحاول جمع النجوم في سطور، وكمن يحاول أن يزرع حدائق اللغة بورود لا تذبل. كيف لي أن أفيكِ حقكِ وأنتِ التي جعلتِ من رحمكِ وطنًا، ومن صوتكِ نشيدًا يعبر الأجيال؟
يا أمًّا لم تكن يومًا امرأة عادية، بل كانت منذ الأزل أسطورة تُروى، وملحمة تنسج خيوطها من صبر لا ينفد، ومن عزيمة لا تنحني. أنتِ التي تغزلين الأمل من رماد الخراب، وتغرسين في أحشاء الموت بذورًا للحياة. أنتِ التي تصنعين من الدموع عطرًا، ومن الجراح رايةً ترفرف رغم كل المحاولات لتمزيقها.
في صباحاتكِ التي تتشابك فيها المأساة مع الصمود، تمسحين على رؤوس أطفالكِ وكأنكِ تزرعين فيهم قوة الكون بأسره. تخفين دموعكِ وراء ابتسامة من نور، وتحملين على كاهلكِ ما لا تقوى الجبال على حمله. أنتِ التي تقفين على عتبة بيتكِ المهدم، وتنظرين إلى الأفق بعينٍ لا تعرف الخوف، بل تعرف فقط العزم والمواجهة.
يا أمًّا فلسطينية لا تشبه أيّ امرأةٍ أخرى؛ كلّ أمٍّ تمنح أبناءها الحنان، لكنكِ أنتِ التي تمنحينهم روحًا تليق بالنضال، وصمودًا يتجاوز حدود الزمان. كل أمٍّ تهدهد صغارها لتنام، بينما أنتِ تهدهدينهم على لحن الثورة، وتغزلين من كلماتكِ أجنحةً تحلّق بهم فوق أسوار الأَسر والاحتلال. تروين لهم قصة الأرض المغتصَبة والهوية المسلوبة، وتزرعين في قلوبهم بذرة الانتماء. كيف لا وأنتِ التي حملتِ آلامهم في رحمكِ قبل أن تحمليهم على ذراعيكِ؟
يا من تصنعين من الخبز عيدًا، ومن بسمة أطفالكِ انتصارًا. يا من تحتفظين بصورة الشهيد على جدران قلبكِ، كذكرى لا يطالها النسيان. يا من تغزلين من دموعكِ شالاً يتدثّر به صغاركِ كي لا ينال البرد من أجسادهم الصغيرة. يا من تصنعين من حطام الأيام فسيفساء من الأمل، ومن جراحكِ أسطورةً تتردّد عبر الأجيال.
أنتِ التي تقفين أمام الأنقاض بشموخ لا يعرف الانكسار، وتحوّلين دموعكِ إلى لآلئ تضيء دروبَ من فقدوا طريقهم في ظلمة العالم. كيف أكتب عنكِ يا من تشربين مرارة الفقد وتحوّلينها إلى زهور تنبت في قلبكِ؟ كيف أكتب عن عظمتكِ دون أن تعجز اللغة عن بلوغ حقيقتكِ؟ فأنتِ التي تتحدّين الألمَ بابتسامة لا تعرف الذبول، وتقفين أمام الخوف وكأنكِ الشمس التي تتحدّى الليل في كل فجر.
أكتب إليكِ يا سيدة العظمة، يا من تتربّعين على عرش الصبر كملكة لا يليق بها سوى المجد. يا من صنعتِ من ضلوعكِ درعًا يحمي أطفالكِ من قسوة العالم. يا من وقفتِ أمام الحطام كأشجار الزيتون، ثابتة الجذور، لا تهزّكِ العواصف، ولا يقوى على كسر شموخكِ أعتى الطّغاة.
يا من تروين تراب الوطن بدموعكِ قبل أن ترويه الأمطار. كم من مرة نزفتِ ألمًا وصبرًا لتداوي جراحًا حفرتها السنين؟ كم من مرة لملمتِ بقايا منزلكِ المُهدّم، وبنيتِ من الأنقاض حلمًا يتجدّد؟ أنتِ التي حوّلتِ الخراب إلى ميلاد جديد، وأنبتِّ من تحت ركام الظلم أزهارًا لا تعرف الذبول.
يا من تصنعين من الألم قوةً، ومن الجراح أملًا، ومن اليأس طريقًا نحو النور. أنتِ التي لا تعرف الانكسار، حتى وإن انكسر كل شيء حولكِ. أنتِ التي لا تعرف الهزيمة، حتى وإن انهارت جبالٌ أمام عينيكِ. لأنكِ تدركين جيدًا أن القوة الحقيقية ليست في سلامة الجسد، بل في نبض الروح الذي لا يتوقف.
أيتها الأمّ الفلسطينية، يا من أعطيتِ للحب معنى آخر، وللتضحية مفهومًا لا يُقارن. يا من تغزلين من أنفاسكِ حصونًا لأبنائكِ، ومن حنانكِ حصادًا للوطن. يا من كتبتِ في دفاتر التاريخ قصيدةً لم تكتمل بعد، وأسطورة لا يزال صداها يتردّد بين أركان الأرض. يا من جعلتِ من الدموع حبرًا، ومن الألم نورًا، ومن النّكبات جسرًا يُعبَر عليه نحو الأمل.
أنتِ التي لا تنتظرين عرفانًا ولا مكافأة، يكفيكِ أنكِ تدركين أن أطفالكِ سيكبرون يومًا ما ليحملوا رسالتكِ، ويكملوا طريقكِ نحو الحرية. كل عام وأنتِ القصة التي لا تملّ الأجيال من قراءتها. كل عام وأنتِ الملهمة التي تعلّمنا معنى الإصرار والتحدي والعطاء. كل عام وأنتِ الشمس التي تشرق رغم العواصف، والزهرة التي تتفتح رغم السلاسل، والنشيد الذي لا ينكسر.
أيتها الأم الأسطورية، في يومكِ هذا، نرفع لكِ القبعات ونقف إجلالًا لصمودكِ الذي لا يُقهر. كيف يمكن للغة أن تحتضن مجدكِ؟ وكيف يمكن للكتابة أن تليق بمقامكِ؟ كل عام وأنتِ رمز الكرامة، كل عام وأنتِ أمٌّ لا تُهزم، وامرأة لا تنحني، وروحٌ لا تُقهَر. كل عام وأنتِ المعجزة التي تنبت من بين الرّكام، والأمل الذي ينهض رغم كل ما يحيط به من دمار.

الأم الفلسطينية.. أرضٌ تحتضن الحياة ورسائل لا تنتهي!
في اليوم الذي تفتح الأرض فيه أحضانها لتنبت زهرةً جديدة، وتُعلن عن عهدٍ من التجدّد، تُضيء الشمسُ وجهَ الأمّهات، أما الأمّ الفلسطينية كأنما الربيعُ يختارها رمزاً لاستمرارية الحياة في فلسطين. إنه الحادي والعشرون من آذار/ مارس، يومٌ يلتقي فيه الاحتفال بالأم ببداية فصلٍ يحمل في طياته فلسفةَ الخصب والمقاومة. هنا، حيث تُختزل الجغرافيا إلى جسدٍ ينزف، والأمومة إلى فعلٍ ثوري، تصبح الكلماتُ رسائلَ نُهديها إلى تلك التي تُشبه الأرض في صبرها، والزيتون في جذوره. نحتفل بعيد الأم في كثير من بقاع العالم العربي، غير أنَّ الأم الفلسطينية ليست بحاجة إلى يومٍ بعينه كي نحتفي بها، فهي العيد الممتد في كل لحظة، وهي الحياة التي تتحدّى الموت، وهي الأرض التي تُنبت الأملَ رغم قسوة المحن. لا يمكن للأم الفلسطينية أن تُختزل في احتفال سنوي، كما لا يمكن لفلسطين نفسها أن تكون ذكرى تُستعاد في مواعيد مُحدّدة؛ فهُما معًا جوهر الاستمرارية والبقاء.
ليست الأم الفلسطينية مجرد حاضنةٍ للحياة، بل هي حارسةٌ لسرديةٍ وجودية. فكما أن الأرض تمنح الثمار رغم شظف التربة، تمنح الأمّ أبناءَها رغم شظف الزمن. هنا، تتحوّل الأمومة إلى فعلٍ مُقاوِم: كلُّ رضاعةٍ هي تحدٍّ للجوع، وكلُّ حضنٍ هو تحصينٌ ضدَّ الخوف. ليست مفارقةً أن يُصادف عيدُها يومَ الاعتدال الربيعي؛ فالأمُّ، مثل الأرض، تُعيد تشكيلَ الحياة من بين ركام الموت. إنها تُعلّم أبناءها أن الجذورَ لا تُقتلع، حتى لو قُطِّعت الأغصان، فكل معايدة وتحيةٍ تُرفَع لكل أمٍّ هي نُسخةٌ عن إجلالٍ لا يُختزل في يوم. أنتنّ القصة التي لا تُختتم فأنتنَّ لستُنَّ مُجرَّد تاريخٍ في الزمن، بل سيمفونيةٌ دائمةُ الانسجام، تَعبُرُ الأيامَ بقلوبٍ تُشبه الجبالَ في صلابتها، والأنهارَ في عطائها الذي لا ينضب. في فلسطين، (الأمُّ والأرض: سرديةٌ واحدة). الأم الفلسطينية: جسد الوطن وروح المقاومة. أن تكوني أمًّا فلسطينية، فهذا يعني أنكِ تحملين وطناً في رحمك، تربّين أبناءك على معاني الصمود، وترضعينهم حليب الانتماء والكرامة والحرية، وتنقشين في وعيهم أن الأرض ليست مجرّد مساحة جغرافية، بل هي امتدادٌ للذاكرة والتاريخ.
الأمّ الفلسطينية ليست فقط مُنجِبةً للحياة، بل هي صانعةُ أجيالٍ تعرف كيف تحيا رغم الجدران المغلقة والحصار والخوف، وكيف تحوّل الألم إلى فعلٍ مقاوم. حين نكتب للأمّ الفلسطينية، فنحن في الحقيقة نكتب إلى فلسطين نفسها، إذ لم تكن الأم الفلسطينية يومًا كائنًا منفصلاً عن قضيته. بل هي جزء لا يتجزّأ من النضال اليومي، فهي التي تودّع أبناءها الشهداء بقلب يعتصره الألم، لكنها لا تنكسر، وهي التي تخرج إلى الحقول لتمدّ الأرض بالحياة، وهي التي تحفظ الحكايات وتنقلها جيلاً بعد جيل حتى لا تُمحى ذاكرة الوطن.
نحو أدب الأم: هل آن الأوان؟
إذا كان لكل فئة صوتها الأدبي، فهل آن الأوان لنشهد “أدب الأم”؟ أدبٌ حداثي يعكس دور الأم في بناء الهوية، ويرصد تضحياتها التي لا تنتهي، ويُعبّر عن معاناة الأمهات في زمن الاحتلال واللجوء والشتات. في أدب المقاومة، وأدب السجون وفي الشعر والرواية الفلسطينية، كانت الأمّ دائمًا حاضرة، لكن ربما حان الوقت ليكون لها صوتٌ مستقل، يعكس تجربتها الوجودية الفريدة. يعتبر أدب الأم: ملحمة من التضحيات. والأم الفلسطينية تستحق أن يُكتب لها أدب خاص، أدب يُخلد تضحياتها، ويُوثّق معاناتها، ويُبرز بطولاتها. أدب يُسمَّى: “أدب الأم”، أدب يُروي قصص الصبر والصمود، قصص الحب والتضحية، قصص الأمل والمقاومة.
رسائل إلى كل أمٍّ فلسطينية..
رسالة إلى أم الشهيد: يا من فقدتِ فلذّة كبدكِ، لا تحزني، فدموعكِ هي وقود الثورة، وابتسامتكِ هي نصر الأحرار.
رسالة إلى أمّ الأسير: يا من تنتظرين عودة الغائب، لا تيأسي، فالفجر قادم، والحرية آتية.
رسالة إلى أمّ اللاجئ: يا من تحملين في قلبكِ مفتاح العودة، لا تنسي، فالوطن يناديكِ، والقدس تنتظركِ.
رسالة إلى الأم التي تُنبت الحياة رغم الموت. إلى الأم التي تنتظر عودة ابنها الغائب خلف القضبان، إلى التي تمسح دموعها بصمت وتغزل بالصبر ثوب الأمل، إليكِ نقول: أنتِ الأرض حين تنبض بالحياة، وأنتِ الربيع الذي لا يخضع لمواسم الزمن، فأنتِ من تعلّمين العالم كيف تنبت الزهور من بين الركام، وكيف يظل للحياة معنى حتى في أكثر اللحظات ظلمة.
رسالة إلى الأم التي تحمي اللغة والذاكرة. أيتها الأم التي تحكي لطفلها عن المفتاح المُعلّق على الجدار، وعن البيّارات التي تنتظر أصحابها، وعن القرى التي أُحرقت لكنها لم تمت في الذاكرة، إليكِ نكتب: أنتِ من تحافظين على فلسطين حيّة في عقول الأجيال القادمة، أنتِ التي لا تسمحين للتاريخ أن يُزوَّر، ولا للهوية أن تندثر، فكوني كما كنتِ دائمًا: الحارسة الأمينة للذاكرة.
رسالة إلى الأم التي تحمل البيت والوطن في قلبها. أنتِ التي رُحّلت قسرًا عن بيتك، لكنكِ لم ترحلي عن فلسطين، ولا زال مفتاح بيتك مُعلّق على جدار قلبك إيمانًا بحق العودة. أنتِ التي علّمتِ أبناءك أنَّ المنفى محطة وليست قدرًا، وأنَّ الأرض لا تضيع ما دام هناك من يحفظها في وجدانه.
إليكِ نكتب: إنَّ الوطن ليس مجرد مكان، بل هو ذلك الشعور الذي زرعتِه في قلوب أبنائك، والذي يجعلهم يعودون إليه ولو بعد أجيال.
رسالة إلى كل أمٍّ فلسطينية: يا من تصنعين الحياة من رحم المعاناة، يا من تزرعين الأمل في قلوب الأبناء، يا من تحمين الأرض من براثن الاحتلال، أنتِ رمز العطاء، وأنتِ عنوان الصمود، وأنتِ مدرسة الأجيال.
إلى كل أمّ فلسطينية: أنتِ العيد، وأنتِ الربيع الذي لا يشيخ، وأنتِ الحياة التي لا تُهزم، و(أسطورة معاصرة)، حيث تختلط فيها القوة الأنثوية بإرادة البقاء.
يوم الأم الفلسطيني: احتفالٌ بالحياة رغم كل شيء. في كل يوم، تُعيد الأم الفلسطينية تعريف معنى العطاء، وتؤكد أن الأمومة ليست فقط احتضان الأبناء، بل احتضان الأمل، وحماية الذاكرة، وإعادة بناء ما يحاول الاحتلال تدميره.
في عيد الأم، لا نحتاج إلى هدايا تقليدية لنحتفي بها، فكل كلمة تُكتب لها، وكل فعلٍ يُعبّر عن صمودها، هو عربون امتنانٍ لا ينتهي. ومهما خطَّت الأنامل من كل الأصناف الأدبية شعرا ونثرا ورواية وغيرها، لن تعبّر عن عطاء وصمود وتضحيات الأم الفلسطينية، ولكن هي محاولة وتستحق بذل الجهد كرمزيةٍ تكريمًا نثريًّا وقلميًّا للأم الفلسطينية، يربط بين وجودها كرمزٍ للخصوبة والحياة وبين نضالها كحارسةٍ للهوية والذاكرة الجماعية لفلسطين. كل عام وأنتنّ بخير وكل عام وكل نساء الأرض بخير.

أمي التي لم تحتفل بعيدها
لطالما كانت الأمّ رمزًا للحنان والعطاء، أيقونةً للصمود، ولطالما تغنّى بها الشعراء، وصاغت لأجلها القلوب أروع القصائد والألحان. لكن، مهما جاد الحرف بوصفها، سيجفَّ الحبر، وتعجز أمامها السطور.
ماذا أخبركم عن أمّي؟
أعلم أنكم ربّما لا تحبّون الحديث عنها، وربّما تفضّلون إسدال الشريط الأسود على أعينكم كلّما نطقت باسمها… فأمّي قد تكون غريبةً عنكم، ولكن كم من غريبٍ كان أقرب إلينا من الرّوح، لذا اعذروني. ولو لمرّة واحدة، في عيدها، دعوني أتكلّم.
أمّي ليست كأيّ أم
مثاليّة حدّ الكمال، قوية حدّ الأسطورة، جميلة حدّ افتتان القلوب. كم من العشّاق وقعوا في حبّها! وكم كانت مسكينة، إذ خانها الجميع…
أمّا عن عينيها، فلونهما مميّز، كزيت الزيتون حين يُعصر في موسمه. لم أرَ لها مثالًا في الصمود، دائمًا مجروحة، دائمًا مصابة، لكنّها لا تزال تمسك جرحها بيد، وتعضّ على شفتيها الملوّنتين بلون الدم بغيظ، ووجهها الأبيض يزداد إشراقًا رغم الدموع، يزداد جمالًا بعينيها الخضراوين، وثوبها الأسود الذي لم يعرف لونًا غير الحداد، أمّي التي لا يليق لها الأسود، لم تعرف غيره من لون.
لطالما نادت إخوتها، عمومتها، أخوالها، جميع من عرفها. لطالما صرخت في وجوههم: “أنا متعبة، مقهورة، مجروحة، أحتاج إلى سند!” لكنّ أحدًا لم يُجب، أحدًا لم يُصغِ، وكأنّ صوتها مجرّد رجع صدى في فراغ الغدر والتخاذل.
دعتهم إلى الخلود، جميع أقاربها وجيرانها، كل من سكن أرضها، لكنهم لم يُلبّوا النداء. فدبّ الذعر في قلبها، وامتدّ الوجع إلى كل ذرّة فيها. أمي لم تعد تحتمل، كل ما فيها موجوع.
أمي التي لم يخلُ بيت في صدرها من أمٍّ لم تحتفل بعيدها، لأنّها كانت مشغولة بزفّ ابنها شهيدًا.
أمي التي أمسكت جراحها، وفرّت إلى الصمود.
أمي التي خانها الجميع، وتواطأ عليها الكلّ، وبقيت واقفةً، تحمل ثياب أبنائها تنقّيهم من الخطايا كما يُنقّى الثوب الأبيض من الدنس، تغسلهم، وفوق حبل العزّ تنشرهم ليكونوا مخرزًا في أعين العدو والمتخاذل.
أمي الغالية…
أتعلمين؟
أنتِ الوحيدة الحرّة.
فمن لم يكن في أمان، فليتأكد أنه الناجي الوحيد من فخّ التطبيع.
كوني بخير، يا من لم تحتج يومًا لعيدٍ، فأعيادك تولد من دم الشهداء وصبر الأمهات.
أعرفتم الآن من أمّي؟
أمّي فلسطين.

رضيتُ بحكمة الرحمان
في رثاء ابني مصطفى الذي وافته المنية في الثامن من رمضان
ابني كنت هدية من ربّنا — ابني كنت الزّهر في البستان
كم كنت تتلو النور فينا – بكرة وعشية بمجالس القرآن
يا مصطفى قد كنت فينا بهجة — ومسرة تشتاقك العينان
قد كنت ذا أمل طموح سامق — قد كنت فينا زينة الفتيان
ولقد رأيتك مذ حداثة نشأة — ترنو إلى القرآن والتبيان
وتجيد إلقاء الحديث مبينا — ومعطرا بشواهد الفرقان
ولقد صحبتك في المجالس كلها — فكأننا أخوان يستبقان
قد كنت سطرا في كتاب حياتنا — لكنه سطر عظيم الشان
لو كان عمرك يفتدى لفديته — بالروح سر الله في الإنسان
ابني إني صابر ومفوض — خطبي الجليل لحكمة الرحمان
لولا الذي ملأ القلوب تجلُّدا — وتصبُّرا لغدوت كالبركان
إن الذي خلق الخلائق كلها — قد قدّر الأقدار للأكوان
هذا رسول الله هذا المصطفى — رضى القضاء بحكمة الإيمان
وهو المكرم عند رب منعم — وهو المشفع طالب الغفران
فيجود رب العرش جل جلاله — بالصفح والغفران والإحسان
ربّاه فارحم قلب غصن ناضر — وحياته طابت كما الريحان
هذي وفود الصالحين تقاطرت — لتشدّ أزر الوالد الأسيان
ستظل تهواك القلوب محبة — طيف جميل جلّ عن نسيان
رباه وارحم ضعف أمٍّ قلبها — قد صاغه الرحمن من تحنان
واحفظ إلهي كل عبدٍ وابنه — إن البُنوّة منّة المنّان