رسالة من النّمسا.. “أبو العيد دودو” والسيّدة المجنونة (الجزء الثاني)

كانت السيّدة “المجنونة” لغزًا بالنسبة للدكتور “أبو العيد دودو”، فهي غريبة الأطوار، ولا تُخفي احتقارها للعرب رغم إصرارها على حضور الدروس لتعلّم اللغة العربية. وفي هذا الجزء، يواصل الكاتب سرْدَ باقي حكايته مع تلك السيّدة.

شعبٌ مُزيّفٌ

في 14 من شهر حزيران / جوان الماضي (سنة 1961) لم أجد، عندما دخلت قاعة التّدريس، سوى طالبتين، طالبة نمساوية خطيبة صديق لي عراقي، والسيدة المذكورة. وقبل نهاية الدرس بحوالي خمس دقائق، وردتْ في بيت شعري كلمة: “أشتاق”، فشرحت لهما معنى الكلمة، وقلتُ من جملة ما قلتُ: إن العربي حين يلقى أخاه العربي أو صديقه الأجنبي قد يقول له: أنا مشتاق، ومن الواضح أن هذه الكلمة لا تُترجم ترجمةً حَرْفية إلى الألمانية، لأنها حينئذ تؤدي معنى آخر غير مقبول.
وما كدتُ أنتهي من كلامي، حتى تصدّتْ لي تلك السيدة وصاحت بي في سخرية: إنها (كلمة مشتاق) مجرد صيغة من صيغ المجاملة والمداراة، فالألماني، على الأقل، حي يتلفّظ بشيء في هذا المعنى يتلفّظُ به عن صدق وإخلاص، أما العربي فإنه ينتمي إلى شعب مزيف.

العربُ أشرفُ أمّة

وفي هذه اللحظة نسيتُ أني في بناية جامعية، وتغلّب شعوري كعربي على شعوري كمُدرّس لا يجوزُ له الدخولَ في مناقشات سياسية من أيّ نوع كانت، وقلتُ لها ثائرا حَنِقًا:
– كيف يجوز لك أن تقولي شيئا هذا أنت يا…
وكدتُ أقول يا ابنة اليهودي. فاحتقن وجهها إما ارتباكا أو غضبا، وقالت:
– لقد عشتُ بينهم عشر سنوات..
– قلتُ: العرب أشرف أمّة، ولا يشتمُ العربَ إلاّ نذل حقير.
– فأجابتْ وهي تهزّ رأسها: لقد عُرفوا (العرب) بالكرم والضيافة، ولكن ضيافتهم مبنيةٌ على الغدر والخيانة، فهم يدعون المرءَ إلى الضيافة ثم يقتلونه بعد ساعة أو ساعتين.

الكذِبُ على التاريخ

وقبل أن أجيبها على هذا الكذب والبهتان، انبرتْ لها خطيبة صديقي، وأخذتْ تردُّ عليها بشدة وعنف وثورة.. كانت تتكلّمُ وتُحرّك يديها، حتى تصوّرتُ أنها ستثِبُ عليها وتصفعها.. فقالت السيدة الأخرى:
– أنا أعرفهم أحسن منك (العرب في فلسطين)، فقد عشتُ في “إسرائيل” وخبرتُ بنفسي طبائعهم وسجاياهم، عشتُ هناك عشر سنوات..
وشعرتُ بهزة عنيفة تجتاحني وقلت:
– إن ذلك لا يعني أنك عشت بين العرب، وعرفتِهم حقّ المعرفة.
– قالت: يكفي أنني عشتُ بين اليهود، وعرفتُ مزاياهم الحسنة.
– فصرختُ متوجّعًا: أتنكرين ما فعلوه بعرب فلسطين، أتَنكرين كيف هدموا بيوتهم وحرَّقوا قُراهم.
– فقالت في شيء من الفَخَار المُهِين: لم يفعلوا ذلك، بل العرب أنفسهم، لقد قتلوا حتى الوزير البريطاني “لوين” في مصر.
– فصحتُ بها وأنا لا أكاد أتبيّنُها من الغضب: لا تكذبي على التاريخ، أنت تعلمين أن المنظمة الصهيونية هي التي اغتالته كما اغتالتْ “برنادوت” فيما بعد.

التاريخُ فكرٌ إنسانيٌ أيضا

وفجأة طفرتْ بالموضوع إلى صعيد آخر، وقالت ووجهها ينكمش ويَعوَجُّ، ساخرة: لقد اشترينا أراضي فلسطين بنقودنا، ألاّ تعرف ذلك؟ ألاّ تعرف ذلك؟ ألاّ تعرف ذلك؟
وكادت روحي تخرج وهي تُردّد هذه الجملة عدّة مرّات.. ثم قلتُ:
– إنه لولا وعد “بلفور” المشؤوم سنة 1917 لما كان ثمة اليوم شيء اسمه “إسرائيل”، ولولا تدريب الجيش الإنجليزي للجيش الصهيوني ومدّه بالأسلحة والعتاد الحربي.. وترك فلسطين لليهود لما تشرّد مليون عربي.
وهنا أخذت السيدة تلوي رأسها وتهزّ شفتيها، قبل أن تقول لي:
– إنك قومي عربي، وانا إسرائيلية قومية، فلا تحاول إقناعي بشيء.
– فقلتُ وأنا أترك مكاني: إذًا فاحتفظي بهذرك لنفسك، إن التاريخ فكر إنساني أيضا، فحاولي أن تحترميه في المرة القادمة.

السيّدةُ البَلِيدةُ تعودُ إلى الدّرس

وبعد هذا، تركتُ الغرفة، والحقيقة إنني لم أعلم أنها يهودية إلاّ من خلال حديثي معها، فقد كنت أنظر إليها كإنسان بغضّ النظر عن أصلها الذي لم تكن تهمني معرفته، كما أني كنت آخذ بعين الاعتبار كِبَر سنّها وبلادتها، وكنت أتوقّع أنها لن تحضر دروسي بعد الآن، وأنها ستتجنّبُ الحديثَ معي عن هذا الموضوع في مناسبة أخرى، ولكن دهشتي كانت كبيرة حين دخلتُ الصفَّ فوجدتُها جالسةً في مكانها كالعادة، كأن شيئا لم يحدث مطلقًا.

تصعيد “سياسي”

غير أن دهشتي كانت أكبر، حين دعائي مدير اللغة العربية الأستاذ “غوتشالك” إلى غرفته وقرأ عليّ رسالة طويلة عريضة مُوجّهة إلى مدير المعهد الأستاذ “دودا” من طرف السيدة نفسها. كانت تطلب من المعهد طردي من المعهد بالمرة، وإجباري على تقديم اعتذار لها عمَّا صرّحتُ به أثناء حديثي معها، وإذا لم يحدث ذلك فإنها سترفع القضية إلى القنصلية “الإسرائيلية”، وتعرض المسألة على البرلمان النمساوي بواسطة اثنين من نوّابه.

وقد رفضتُ، بطبيعة الحال، تقديم أي اعتذار كيفما كان نوعه، وكل ما في الأمر أن الأساتذة طلبوا مني تقديم اعتذار إلى إدارة المعهد، لكوني دخلتُ في نقاش معها في حصة الدّرس، ومثل هذا النقاش تُحرّمه قوانين الجامعة.. واتصلتُ أنا أيضا بسفير الجمهورية العراقية، وكل من القائم بأعمال الجمهورية اللبنانية، والجمهورية العربية المتحدة (سوريا ومصر)، وشرحتُ لهم القضية ليستعدّوا للأمر.

رسالةٌ في لَغْوِ الكلام

وبعد أسبوع، وصلتْ رسالةٌ منها إلى المعهد تحمل اسمي.. وكانت تحتوي على عشر صفحات، ليس فيها غير لغو الكلام ورخيص اللفظ.. وعلى كلّ فقد احتفظ المعهد بالرسالة وبالتقرير الذي قدّمته الطالبة الثانية (خطيبة الصديق) عن مجرى النقاش الذي دار بيننا (دود والسيدة المجنونة). ولعل المهم أنها ذكرت في آخر الرسالة بأنها لن تقوم بإجراءات ضدّي.

وهكذا مرّ الصيف بسلام.. وكدتُ أنسى المسألة، وخُيّل إلينا (دودو والأساتذة) جميعا أنها قد انتهت، غير أننا كنّا جميعا مخطئين، فقد فتحت الجامعة أبوابها.. وظهرت اليهودية في المعهد من جديد، وتحادثتْ مع أحد الأساتذة فأخبرها بأن دروس العربية ربما لن تبدأ قبل مطلع الشهر القادم.. وبدا أنها لم تقتنع بكلام أحد من أعضاء المعهد.

مريضةُ الوهْمِ والجنون

ولم تكد تمضي ثلاثة أيام حتى وصلتْ رسالةُ مُسجّلةٌ إلى المعهد باسمي.. إلاّ أنها في هذه المرّة لم تكن تخصُّني أنا وحدي، إذْ أنها تهجّمت فيها على وزارة المعارف وكلية الفلسفة وعميدها وعضوين آخرين من أعضاء المعهد.. وتوهّمتْ أن المعهد يريد أن يَحُول بينها وبين الدروس المسائية (لتعلّم اللغة العربية).

“دودو” في مَهَبّ التهديد الصهيوني

لقد عرف الأساتذة من رسائلها المختلفة.. أنها ليست عادية سوية، بل هي مريضة مجنونة. والواقع أنهم كانوا يتفكّهون برسائلها كلّما عرضت لهم مناسبة، لأن كل من اطّلع على رسائلها حَكم عليها بالهوس والجنون.. في رسالتها الأخيرة، تطلب مني أن أجيب على رسالتها هذه في مدة لا تتجاوز (أيّام).. أعلنُ أني خاضعٌ لإرادتها، واقعٌ تحت رحمتها، وأني مستعدٌ لتعليمها العربية كما تشاء وحيث أرادتْ، وبكلمة واحدة، أعلنُ أني مصيري بيدها، وإذا لم أفعل هذا.. فإنها ستُسلّط عليّ أنواع المطاردة والإرهاب، فلا أعرف الراحة أبدا.

بَلاغٌ إلى كل العرب

رأى بعض الأساتذة أن تُهْمَل الرسالة تمام الإهمال.. إلاّ أن الأستاذ “غوتشالك” ارتأى أن يرفع القضية إلى الشرطة، بعد أن عرف، بواسطة أستاذ العبرية، أن السيدة اليهودية عضوٌ في منظمة الصهيونية العالمية، فأرسل تقريرا عن الحادثة وعن التهديد إلى كل من عَمادة الجامعة ووزارة المعارف.. وذهبتُ بنفسي إلى مديرية الشرطة وسلّمت إليهم الشَّكوى، لا باسمي طبعا، وإنما باسم إدارة المعهد والجامعة. وأنا.. في انتظار ما سيكشف عنه الغد، وإني حريص كل الحرص على أن يطلّع العرب في كل مكان.. على أسلوب آخر من الأساليب التي تستعملها الصهيونية العالمية، في محاولة الضغط على كل عربي شديد الإيمان بعروبته.

ملاحظة: وقّع الدكتور “أبو العيد دودو” هذه المقالة بتاريخ 12 أكتوبر 1962 في فيينا، وقامت مجلة “الفكر” بنشرها بتاريخ أول نوفمبر 1962.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا