سياحة في أشعار “العفيف التلمساني”.. شاعرٌ جزائري قضيّته عروبة العرب! (الجزء الأول)

العفيف التّلمساني – أو عيف الدين – من أشهر الشعراء العرب في القرن السابع الهجري، وأكثرهم إثارة للجدل. انطلق من مدينة “تلمسان”، فجال في بلدان كثيرة ثم استقرّ به المقام في “دمشق”. جرت أشعاره على ألسنة النّاس وتغنّى بها الموسيقيون، وشهد بعض الدّارسين بأنّه تفوّق على الشاعر “عمر الخيّام” وتجاوز الرّمز الصوفي عند “الحلاّج”.. لم يمدح السّلاطين والحُكّام، وكان شعره مُغرقًا في الصوفيّة والغزل والمجتمع. ورغم انتصاره للعروبة والعرب في زمنٍ حَكم فيه “الأعاجم” المشرقَ العربي، فإنَّ “العفيف” لم يسلم من “التّكفير” والقدح في دينه من طرف أشهر علماء الدين في عصره.

يُعتبر “العفيف التلمساني” رائدًا للقوميّة العربية التي تجلّت فكرتها خلال خمسينيات القرن الماضي، أي بعد حوالي ستّة قرون من رحيله، فقد تغنّى بالعرب والعروبة، وكان رافضًا في أعماقه للأعاجم الذين حكموا الشعوب العربيّة في عصر المماليك.. والملفت أنّ “العفيف” تغنّى بخصال العرب وشمائلهم التي امتازوا بها عن سائر الشعوب، مثل: الشرف والنّخوة والكرم وحماية من يستجير بهم.. وكأنّه كان يضع العرب أمام أنفسهم، ويدفعهم إلى التّساؤل: إذا كان العرب هم من اتّصفوا بتلك الخصال الحميدة، فمن يكون هؤلاء الذين تخلّوا عنها؟

ماذا لو بُعث “العفيف التلمساني” في أيام العرب الحاضرة وزمنهم الرّاهن هذا، وقد خذلوا الأخ والصديق وتنكّروا له، بل وتآمروا عليه، وفي المقابل وضعوا أيديهم في أيدي العدوّ وسالموه ونصروه وأراقوا ما تبقّى من ماء الخجل في وجوههم من أجل استرضائه؟ لا شكّ أنّه سيُطلق صرخةً تُعيد السَّمع إلى الآذان الصمّاء: أيّها العرب هل أنتم عربٌ حقًّا؟ وسيطلب من الجزائريين أن يعدِّلوا في الاسم الذي اشتهر به ليكون: العفيف التلمساني الجزائري، حتى يُدرك الذين يقرؤونه بأنّ عربيٌّ ينتمي إلى العروبة بمعناها الجزائري.. العروبة التي ما زالت تحتفظ بتلك القيم السامية النبيلة: الشهامة والبطولة والرّجولة والانتصار للأخ “ظالمًا أو مظلومًا”.

تنبّه الكاتب والأديب السوري الدكتور “عمر موسى باشا” (1925 – 2016) إلى قضيّة العروبة في شعر “العفيف التلمساني”، فنشر مقالاً بمجلّة “الأصالة الجزائرية، في شهر نوفمبر 1975، عندما كان أستاذًا بإحدى الجامعات الجزائريّة. وفيما يلي، تُعيد جريدة “الأيّام نيوز” نشر المقال ليتعرّف القارئ على هذا الشاعر الجزائري ومستوى الوعي الذي بلغه في عصر وُصِف بالانحطاط الأدبي أو العربي لا فرق!

تلمسان.. روضة العشق الإلهي

عرفت تلمسان الخالدة، والتقيت عبر الزمن بروح “العفيف التلمساني” ابنها البرّ، قبل أن أزور “تلمسان”، فشاهدت البلد والشاعر ببصيرتي قبل أن تكتحل عيناي برؤيتها.

كنت في المشرق أقرأ شعره في ديوانه المخطوط الذي آثر أن يبقى إلى جانب قبر صاحبه وفاءً له وصونًا لذِكره، وكنتُ من خلال ذلك أشيم بروق المغرب العربي الحبيب عن بعد من آفاق المشرق، وأتطلّع لأمتّع ناظري بما شاهده “العفيف” في مسقط رأسه من طبيعة جميلة تأخذ بالألباب في (روضة العباد)، روضة العشق الإلهي في هذه الأكمة المقّدسة، فدلفت إليها خاشعًا ومتبتِّلًا، وطالما أسمع صوتًا قدّيسًا: أن اخلع نعليك إنّك بالوادي المقدس طوى في تلمسان. وهناك الأكمة المطلّة على هذه الرياض التي عرفها الشاعر، وأحبّها وبقي ذِكرها نديًّا في شعره خاصة حينما فارقها وعرف أنّه قد لا يعود إليها.

كان الزمن يتوالى في بصيرتي وتحت سمعي، وكنت أقرأ وأسمع قصة “تلمسان” الخالدة في أمسها الباهر، وحاضرها الزّاهر، ومستقبلها المشرق، وكأنّما كانت تتطلّع من خلال تراثها الأصيل إلى الحضارة الغربية التي بدأت تُؤتي أكلها ثمارًا بالغة، أصلها راسخ في الأرض، روتها دماء الشهداء الأحرار الذين صبغوا ترابها بدمائهم، وفرعها شامخ في السماء يبشِّر بأنَّ هذا البلد الأمين كان وسيبقى شمسًا مشرقة لا في المغرب العربي كله، وإنّما في سماء الأدب العربي قاطبة من أدنى مشرقه إلى أقصى مغربه العربي.

من هو العفيف التلمساني؟

هو عفيف الدين، أبو الربيع، سليمان بن على بن عبد الله بن يس، العابدي، الكومي، التلمساني، المعروف عند القدماء باسم (العفيف التلمساني). لا نعرف عن العابدي ما يوضِّح لنا هذه النسبة، ولعلها نسبة إلى “روضة العباد” في تلمسان حيث يثوي فيها العَلَم الفرد “شعيب أبو مدين”. والكومي نسبة إلى كومية، وهي قبيلة صغيرة منازلها في ساحل البحر من تلمسان كما في كتاب “المعجب”.

البداية من تلمسان والنهاية في دمشق..

ولد “العفيف” سنة 610 هجرية (1213م) في تلمسان، ثم قدِم القاهرةَ بعد أن تقدّمت به السنّ، ونزل في خانقاه سعيد السعداء، وأقام عند صاحبها “شمس الدين الأبلي”، وقد ولد له ولده الشاعر المشهور “شمس الدين محمد” المعروف بـ “الشاب الظريف”، وكان إذّاك في العقد الخامس من عمره.

وانتقل الشاعر إلى بلاد الرّوم وعمل فيها أربعين خلوة صوفيّة تدوم كل واحدة أربعين يومًا يخرج من واحدة ويدخل في أخرى.. وهكذا استمر في تطوافه وسلوكه الصوفي حتى ألقى عصا التِّرحال في دمشق، فأعرض فيها عن حياة التصوّف، وأزمع أمره على التمتّع بحياة السّعي ليكسب الرّزق، ولا سيما أنّه كان يتمتّع بمؤهّلات شخصية وثقافية تجعله في عداد الذين يُعتمد عليهم في بعض أمور الدولة، ولا غرابة أن رأيناه يصبح مباشر استيفاء الخزانة بدمشق، وهذا من أكبر المناصب وأهمّها في عصر سلاطين المماليك.. أقام الشاعر في هذا المنصب طوال حياته، وعاش سعيدًا في “قصر صنف” يقع في رياض “الصالحية” في سفوح جبل “قاسيون” حتى وفاته سنة 690 هجرية (1291).

آثاره الأدبية

صنَّف “العفيف” آثارًا كثيرة في الشِّعر والتصوّف وغيرهما، حتى أنَّ “الجزري” قال في تاريخه “له في كل العلم تصنيف”، ولا نعرف مصير هذه التصانيف ولا موضوعاتها.

أمّا شعره فهو مجموع في ديوان مستقل، أشار إليه “ابن تغري بردي” بقوله: “وله ديوان شعر كبير”، ولا زال مخطوطًا، ويقوم الدكتور “عمار طالبي” بتحقيقه، وسوف ينشر في وقت قريب. (بين أيدينا ديوان عفيف الدين التلمساني: دراسة وتحقيق يوسف زيدان). أمّا آثاره المعروفة عندنا فمقصورة على شروح صنَّفها المؤلِّف، منها (شرح كتاب المواقف للنفري) و(شرح كتاب الفصوص لابن عربي). يضاف إلى ذلك كتاب في (فن الروض).

الرمز في شعر “العفيف”

يلاحَظ في دراسة شعر “العفيف” أنَّه لم يتطرَّق من قريب أو بعيد، تصريحًا كان ذلك أو تلميحًا، إلى أيّ من أبناء عصره سواء أكانوا من السلاطين أم من غيرهم الذين عاصرهم، ولم أعثر في الديوان كله إلّا على ذكر اثنين هما: علي الآمدي، وقد تكرر ذكره مرتين. وابن الزبير في وصف الطبيعة في التلميح إلى بخله. يضاف إلى ذلك أنّنا لا نجد أيّ ذكرٍ لإخوانه من فقراء المتصوّفة الذين ارتبط بهم عقيدةً ومذهبًا وسلوكًا. إنّ كل ما نطالعه من شعره لا يتعلق إلّا بالمجتمع على اختلاف صوره وألوانه، وإنّما هو مقصور أصلاً على المجتمع الذهني في إطار من التصوّر الداخلي والانفعال النفسي والسلوك الصوفي.

هو عالم خاص في رؤى الشاعر ومواجده وحواصبه، لا يحدّه مغرب ولا مشرق، هذا العالم الباطني يمثل المغرب العربي الذي أخرجه وأنشأه، والمشرق الذي أحبّه واحتضنه. هذا العالم الباطني يمثّل تجربة شعرية عميقة في الشعر الديني، سلك سبيلَها كثيرٌ من الشعراء المتصوّفة المؤمنين بوحدة الوجود، والذين يتعشّقون الحقيقة المطلقة ويتطلّعون إلى الكمال المطلق المتمثِّل في “الله الحق”.

تحدّث عن هذه الحقيقة، فتمثلها في كل شيء، رآها في هذا الكون، وشهدها في هذا الإنسان الذي هبطت إليه النفس من المحلّ الأرفع، وشخَّصها في الطبيعة على اختلاف صورها وألوانها، وتمثَّلها في المرأة في الجمال المطلق، والحسن المبدع.

وقد لعبت الخمرةُ الرَّمز أكبر دور في هذا المجال لأنّه اتّخذ من نعت قِدَمها وسلطان جبروتها على العقل البشري سبيلاً يوضِّح له الحقيقة المطلقة التي كانت شغله في كل غرض من أغراض شعره المذكورة.

وقف أمام هذه الطبيعة يجلو محاسنها، ويستجلي مكنوناتها لينفذ منها إلى عالم آخر حجبته عنّا سجف مسدلة صفيقة، ومنعته عن أبصارنا أدران الدنيا وآثام النفس الإنسانية، وإلى طبيعة أخرى، لا قبل لنا بها، لأنّنا عاجزون عن رؤيتها وإدراكها، ولكن الشاعر الملهم هو القادر على استجلاء الغيب والإفصاح عن مكنون الكون من خلال مواجده الصوفيّة.

العفيف التلمساني يتفوّق على عمر الخيّام

تحدَّث الشاعر عن الخمر من خلال الحديث عن المرأة، وأغرق في أوصافهما، ومن يقرأ شعره يُخيّل إليه أنّه ربّ الحانة الرَّمزية، وما كان أبرعه حين يجمع بينهما في الرمز معًا. ولا أبالغ إن قلت أنَّ الشاعر كان يجاري “الخيّام” إن لم يتفوّق عليه، لأنّ الأوصاف التي جاء بها ترفعه إلى منزلة عليا، ويُعرِب الشاعر عن بعض ما في خلده حين يرى أنّ هذه الخمرة معصورة من دمه، وعاصِرها ذاته نفسها، وحَبَبها بعض أدمعه. وليس من باب المصادفة أن يقف في مكان آخر عند “الحلاّج” نفسه ليشير إلى قتله بقوله:

منها أنا والسّاقي يناول كأسها — فأشرب صِرفًا أو يغنّي فأطرب

فإن لام فيها الشيخُ طفلَ غرامها — على شربها فالشيخ كالطفل يلعب

تُذكِّرني الحلاجَ والكأسُ يُجتلى — ولكنه عنه تُصان وتُحجب

ولو لم يكن رواوقها كصليبه — لما عذروا حلاّجها حين يصلب

ذلك هو الطريق الذي التزم فيه الشاعر ذِكر حقائق التصوّف رامزًا وملمِّحًا من خلال الطبيعة والخمر والمرأة، ومشيرًا من خلال الطبيعة إلى فلسفة الكون والخليقة والخَلق، وكان في بعض الأحيان يُعرِض عن أسلوب الرّمز ليطلق الكلمة الصريحة دون تعريض أو تلميح.

العروبة في شعر العفيف التلمساني

تلك هي مقدمة ابتغي منها توضيح سبيل البحث الذي أتناول فيه ظاهرة بارزة هامة من خلال شعره، وهي “العروبة” التي تكرَّرت الإشارة إليها عشرات المرّات في معرض النّسيب والغزل.

لقد استرعت انتباهي هذه الظاهرة خلال دراستي ديوان شعره المخطوط، ورأيت أنَّه كان عربيًّا في أغزاله كلّها، واتّخذ من الغزل سبيلاً لذكر العرب في هذا العصر الذي كان الحُكم فيه لسلاطين المماليك، والتزم ذلك في سائر الأوصاف التي عرضها، وكان بذلك حقًّا ثورة شعريّة عربية في عصر ساد فيه حكّامٌ أعاجم. ولا أظن شاعرًا تحدّث عن هذا الامر، والتزم فيه هذا الالتزام، من كان مثله.

التغنّي بشهيرات النّساء في الشعر العربي

أحبَّ الشاعرُ العربَ كل الحب، فهو لم يختر في أغزاله غير المرأة العربية، ذكَر: (ليلى العامرية) واحدًا وثلاثين مرّة، وذكر: (علوة) سبع مرّات، وذكر: (سلمی وسُلیمی) سبع مرّات أيضًا، وذكر: (نُعمَا) أربع مرات، وذكر كلاًّ من: (سعاد) و(سُعدی) و(أسماء) و(هند) ثلاث مرّات، وأورد ذِكر كلٍّ من: (أروى) و(عزّة) و(رقيّة) و(لبنى) و(مي) مرة واحدة.

هذه الظاهرة على جانب كبير من الأهمية، وهو أنّه تغنّى بالمرأة العربية في الوقت الذي كان الشعراء يوغلون في الوصف للمرأة غير العربية.

ولم يقتصر الأمر على ذِكر المرأة، وإنّما وصف الشاعر لنا حياة العرب وارتحالهم وخيامهم ونيرانهم في هذا العصر الذي تناسى فيه الشعراء العرب والعروبة، ولكن الشاعر العربي التلمساني أعلنها ثورةً عربية على الشعر والشعراء في عصره، وتغنّى بذكرهم، وما أكثر ما وقف عند ذكر “نجد”، وما أكثر ما كرّره من أسماء الكثبان والوديان في الجزيرة العربية.

لقد ثار الشاعر على التيّارات الأعجمية في شعره، وأعلنها ثورة على المجتمعات والمفاهيم من خلال شعره، فليس من المصادفة ألّا نرى في شعره كلّه أيّ ذكرٍ لأيّ سلطان أو ملك وأمير أو أي فرد آخر من أبناء عصره.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا