شخصية علميّة موسوعيّة في عصر الخرافات.. عبد الرزاق بن حمادوش الجزائري (الجزء الثاني)

رحلة “ابن حمادوش”، المُسمّاة: “لسان المقال في النبأ عن النّسب والحسب والآل”، مصدرٌ ثريٌّ بالمعلومات حول المجتمع الجزائري خلال القرن الثامن عشر، في مختلف مجالات الحياة: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية..

فقد ذكر ابن حمادوش “صيغة صلوات وأدعية معهودة عند أهل الجزائر عند ختم (صحيح البخاري)، يرشّ أثناءها الخدمُ ماءَ الورد على الحاضرين بالجامع الكبير، كما ذكر عاداتهم ليلة القدر وليلة المولد النبوي، فقد كان مُتولِّي الجامع الكبير يُفرغ ليلة القدر قنطارًا أو أكثر من الشّمع، يفرِّقه على ثلاثين شمعة خضراء، ثم يُطاف بهذه الشموع في اتجاه دار المفتي أو الوكيل، ومنها إلى دار الإمارة عبر الشوارع المُزيّنة، وهم يرفعون أصواتهم بالأناشيد الدينيّة، ثم يعودون إلى الجامع من طريق أخرى، وكان يُقام مثل ذلك في ضريح “عبد الرحمن” الثعالبي أيضًا”.

نُذكِّر بأنَّ المؤرخ الدكتور “أبو القاسم سعد الله” قبل أن يُصدر تحقيقه لكتاب “لسان المقال”، ألقى محاضرة حول مخطوطة هذا الكتاب في المؤتمر الأول لتاريخ المغرب العربي وحضارته الذي انعقد بتونس بين 24 – 29 ديسمبر 1974، ثم نشر المُحاضرة في مجلة “المجمع العلمي العربي” في شهر أفريل 1975، ثم أعاد نشرها في مجلة “الأصالة” الجزائرية في شهر نوفمبر 1976. وتعيد جريدة “الأيام نيوز” نشر نص المحاضرة، ليتعرّف القارئ على هذه الشخصية الموسوعيّة والعلميّة في “عصر سادت فيه الشعوذة وضعف استخدام العقل” كما قال الدكتور “غبريال كولان”.

أول من ذكَر رحلة “ابن حمادوش”

يغلب على الظن أنّ أول من نقل عن رحلة “ابن حمادوش” دون ذكر اسمها هو السيد “قونزاليز”. فهو أول من أرّخ لميلاد المؤلف بالتاريخ الذي ورد في الرحلة، ونقل عنه قائمة ولاّة الجزائر. وفي سنة 1935 كتب الشيخ “عبد الحي الكتاني” عن الرحلات المغربية، وذكر اسم رحلة “ابن حمادوش”، ثم جاء السيد “محمد داود” ونقل عنها بعض الفقرات في وصف ثورة الريفي التي كان “ابن حمادوش” شاهد عيانٍ لها. وأكدّ الشيخ “الكتاني” أهميّة رحلة “ابن حمادوش” في رسالة بعث فيها إلى السيد “الحاج صادق” أثناء كتابة هذا الأخير بحثًا عن المولد النبوي في “نحلة اللبيب” لابن عمار. (بحث “المولد النبوي عند ابن عمار مفتي مدينة الجزائر وشاعرها”، من الأبحاث المقدمة إلى لويس ماسينيون، نُشر المعهد الفرنسي بدمشق سنة 1907، والدراسة بالفرنسية).

ومنذئذٍ بدأ اهتمامي بهذه الرحلة فقد كنت أعدّ مادة كتابي “تاريخ الجزائر الثقافي”.. وأصبحت هذه الرحلة تشكِّل إحدى المخطوطات الأساسية التي كان عليّ أن أطّلع عليها لمعرفة أحوال القرن الثامن عشر في الجزائر. وسعيت إلى الحصول على نسخة منها، فأسعفني صديقٌ مغربي كريم، بصورة منها. وخلال رحلتي إلى المغرب في صيف 1973، اطّلعت بنفسي على الأصل في الخزانة العامة بالرباط، وهي ضمن مكتبة الشيخ “الكتاني”، رقم 436.

مخطوطة رحلة “لسان المقال”..

وتقع مخطوطة الرحلة في 387 صفحة من الحجم المتوسط، ومسطرتها 16 في 12، وتحتوي كل صفحة على حوالي 22 سطرًا. ويبدو لي بعد البحث أنّ عبارة “ابن حمادوش” فيها تنتهي عند الصفحة 226، أمَّا الباقي فلا نقطع الآن بنسبته إليه. وتدلّ افتتاحية الصفحة الأولى على أنَّ المخطوطة تمثّل بداية الجزء الثاني. فهي تبدأ بعد الحمدلة والبسملة والتَّصلية وذكر اسم المؤلف هكذا: “الجزء الثاني من رحلته… ولم يرد اسم الرحلة في المتن، وإنَّما أضيف في الحاشية وكتب هكذا: لسان المقال في النبأ عن النّسب والحسب والآل”. وبداية تاريخ هذا الجزء هو غُرّة عام 1156هـ الموافق 14 فبراير سنة 1743م، ويمثل التاريخ المذكور بداية رحلته إلى المغرب. وآخر تاريخ مذكور فيها (على فرض صحيّة القسم الذي لم نقطع بنسبته إليه)، هو سنة 1160 هجرية – 1747 ميلادية، ذلك أننا نجده في السنة الموالية. وعلى أية حال، فإنَّ الرحلة مبتورة الآخر، ومن ثمة لا نعرف بالتدقيق اسم كاتبها أو ناسخها ولا مكان ذلك. (رغم حرصنا، فإنَّنا لم نهتد إلى وجود نسخة أخرى من رحلة ابن حمادوش. وإذا ثبت أن السيد قونزاليز قد استعمل الرحلة، كما أشرنا، فمن المحتمل أن يكون قد اطّلع على نسخة أخرى منها).

و”لسان المقال” مكتوبة بخطٍّ واضح وحبر أسود باستثناء بعض العناوين والأسماء فإنها كُتبت بالحبر الأحمر، وهي مكتوبة بأسلوب بسيط غير مسجوع، ماعدا المقامات المُشار إليها. وقد رتَّبها المؤلف على السنوات والشهور والأيام. ومن الطبيعي أن تظلّ بعض الأيام والشهور أحيانًا غير واردة في الرحلة؛ وهي في شكل مذكّرات أو يوميّات كان المؤلّف يسجّل فيها الأحداث والمشاهدات بصيغة الماضي في غالب الأحيان. وقد أكثر فيها الحشو والاستطراد والنُّقول من كُتب ووثائق المتقدّمين والمعاصرين. والغالب على الظنّ أنّ الرحلة ما تزال بخطّ مؤلِّفها، وأنّها كذلك ما تزال في شكل مُسودة. ولا ندري إلى الآن متى ولا أين كتب “ابن حمادوش” هذا الجزء. وتوجد تعاليق على المخطوطة يعود بعضها إلى منتصف القرن الماضي، ويدلّ بعض هذه التّعاليق على أنّ المخطوطة كانت عندئذ في الجزائر قبل انتقالها إلى المغرب. كما يوجد على صفحتها الأولى اسم مالكها الأول، على ما يظهر لنا، وهو السيد والحاج “علي بن الحاج سعيد”، الذي لا نعرف الآن من أمره شيئًا.

أقسام كتاب رحلة “ابن حمادوش”

ويمكن تقسيم المحتوى العام للرّحلة إلى ثلاثة أقسام هي:

1 – قسم المغرب وهو من صفحة 2 – 75، وهذا القسم هو الذي أن نسمّيه “رحلة”.

2 – قسم عن المؤلِّف نفسه في الجزائر، وهذا القسم ترد أخباره مُفرّقة ضمن قصص واستطرادات، وهو عبارة عن مذكّرات وحوادث يوميّة عن قراءاته وملاحظاته ونشاطه.

3 – قسم يتضمّن نُقولاً كثيرة من كُتب ووثائق المتقدّمين والمعاصرين، مثل: الاكتفاء لابن الكردبوس، وكتاب تاريخ الدول للملطي، وأنس الجليل للعليمي، بالإضافة إلى مجموعة من عقود الزواج على عــادة أهل مدينة الجزائر، وكذلك مجموعة من الأسانيد والإجازات والقصص العامة كقصة الفيل وقصة العنقاء.

منهج كتابة “لسان المقال”..

والمنهج الذي سار عليه “ابن حمادوش” يجعل عمله غير منسجم وغير متماسك، ذلك أنَّه لا يكاد يربط بين أجزاء الرحلة سوى الترتيب الزمني. وقد لاحظنا أنّه قد اتبع طريقة السنوات. وإذا أخذنا بالنصّ الموجــود عندنا، فالرحلة لا تكاد تتجاوز خمس أو ست سنوات من عمر المؤلف الطويل الذي تجاوز بحسب بعض الآراء، تسعين سنة. وعلى كل حال، فإنّه كان يحشو كل سنة بأخبار ووقائع تتعلق بشخصه في الغالب.. وإذا ما أفاض في الحديث عن قضايا أخرى، فإنّه يفعل ذلك إمّا عن طريق المصادفة كما فعل بذكره أسماء وُلاّة الجزائر وأسماء سلاطين آل عثمان، وإما لعلاقتها بشخصه كحديثه عن ثورة “أحمد الريفي” التي كانت لها عواقب على سير رحلته، فالمحور إذًا هو شخص المؤلف.

التّأريخ بالعربي والفلاحي

وقد اعتاد ابن حمادوش أن يؤرخ بالتاريخين الهجري الذي يسمّيه العربي، والميلادي (الشرقي أو الفلاحي). وكان يؤرخ نادراً بالتاريخ الإسكندري. ولكن سنوات الانتقال، التي تشكّل في الواقع أبواب الرحلة أو فصولها، كانت بالتاريخ العربي، ويجهد المؤلِّف نفسه في الأمانة والدقة، وإذا أعوزه ذلك يذكره دون تحرُّج، فإذا نسي حادثة أو تاريخًا عاد إلى كُنَّاشه، ويكتب بعد ذلك: “هكذا وجدته مقيّدًا”، وإذا نقل ونسي العبارات المنقولة قال “هذا ما تعلَق بذهني، وإن كان، عبرّتُ بعبارة غير عبارة المؤلّف”، وإذا كان غير متأكد من خبر سمعه عن فلان سجّل ذلك بأمانة قائلاً: “ولم أدر كيف كتب ولا ما صنع إنّما بلغني”.. وحين عجز عن أن يأتي بجواب لإحدى المسائل، ترك بياضًا في النصّ مُضيفًا قائلاً: “فمن وجده (يعني الجواب)، فليلحقه هنا في هذا البياض، وما تركته بياضًا إلاَّ لأجله”.

“ابن حمادوش” يفتخر.. على مُعاصريه

ومع ذلك فإنَّ “ابن حمادوش” كان يفتخر أحيانًا بمعارفه وشرفه على معاصريه.. فكثيراً ما كان يذكر النَّوازل التي شارك فيها برأيه، وينتهي فيها بتسجيل انتصاره على مخالفه بشيءٍ من الزهو، واصفًا مخالفه بادّعاء العلم وضعف العارضة وقِصر النَّظر، وكان يذكر مناظرته ومناقشته لشيوخ عصره حتى الذين أجازوه منهم. وقد بالغ في الافتخار بشرفه أمام المفتي الحنفي “ابن علي”، مخاطبًا له بشعر ركيكٍ لا يرقى أبدًا إلى مكانة شِعر خصمه البليغ.

مصادر “ابن حمادوش”: التجربة الشخصية والنَّقل

ومصادر “ابن حمادوش” نوعان: التجربة الشخصية والنَّقل، وقد غلب عليه الأول، ذلك أنَّ أكثر ما روى من أحداث في رحلته قد شاهده عيانًا أو عاشه، فالتطوُّرات الاجتماعية والسياسية والعلمية التي تحدَّث عنها في الجزائر.. كان مصدرها بالدرجة الأولى التجربة الشخصية، أمَّا النقل فإنَّ “ابن حمادوش” كان يأخذ بالمشافهة والسَّماع، أو بالاعتماد على الوثائق المكتوبة، فهو كثيرًا ما يقول عن أخباره إنّها بَلغته أو سمعها، وقد أكثر من النّقل عن: صحيح البخاري، تاريخ ابن الكردبوس، تاريخ العليمي، القانون لابن سينا، تاريخ الملطي، مقالات إقليدس، منطق السنوسي، وغيرها.. كما نقل كثيرًا من أسانيد الصبَّاغ الإسكندري (إذا صحت نسبتها إلى الرحلة)، ومن عقود النكاح التي كتبها علماء الجزائر.

وبالإضافة إلى الأضواء التي تلقيها الرحلة على حياة المؤلِّف، فإنَّ الجزائر والمغرب تحتلان فيها مكانًا بارزًا، وقد سبق لنا أن ذكرنا شيئًا منها بخصوص النقطة الأولى (حياة المؤلِّف)، وبقي علينا أن نفصِّل الحديث قليلاً عن النقطة الثانية.

مرحلة الرّحلة في الجزائر..

ولنبدأ بالجزائر، أورد “ابن حمادوش” مجموعة من الأخبار الهامَّة عنها، تساعد الباحثين في أوضاعها السياسية والاجتماعية والثقافية خلال القرن الثامن عشر، من ذلك ما أورده من أنَّ النصارى (دون تحديد، ولعله يقصد الإسبان) رفضوا قبول فدية المسلمين الذين كانوا أسرى عندهم، ولا سيما مشاهير الرّياس مثل: ابن الحاج موسى، وأدّى هذا الموقف إلى غضب الباشا الذي قرَّر غلق كنيستهم وهدَّد بهدمها إن لم يقبلوا بالصُّلح. ولم يخبر “ابن حمادوش” بما وقع بعد ذلك، واكتفى بالقول: “وها نحن منتظرون ما يقع”. وكما رواه بشأن علاقة باشوات الجزائر بالسلطان العثماني أنَّ الأخير قد أرسل مندوبًا عنه إلى الجزائر، فلم يرحِّب به المسؤولون ولم يستقبلوه، فبات ليلته في المرسى ثم دخل المدينة وحده. ورغم أنّ الباشوات قـــــد استبدّوا بالحكم، كما ذكر ابن حمادوش، فإنَّهم ظلوا يُهادون السلطان ويسترضونه، وآخر من فعل ذلك هو “إبراهيم باشا” المعاصر للمؤلِّف، فهو الذي أرسل سنة 1158 هـ الموافق 1745 إلى السلطان أربعين نصرانيًّا وثمانية مكاحل وأشياء أخرى ثمينة، انتظارًا أن يرسل له السلطان بالفرمان. و”إبراهيم باشا” هو آخر سبعين باشا من الولاَّة العثمانيين بالجزائر الذين أورد “ابن حمادوش” قائمة بأسمائهم، مبتدئًا بـ “إسحاق” باشا سنة 915 هـ الموافق 1509 ميلادية، ومرورًا بـ “عبد الله بيلك باش” الذي قال عنه إنّه أول من استبدّ بالمُلك سنة 1064 هجرية الموافق 1653 ميلادية.

ومن أخبار هؤلاء الباشوات في الرحلة: رفع الأعلام الخُضر على الصوامع عند تولية أحدهم، وحمل جثمان الميّت منهم إلى الجامع الكبير للصلاة عليه وقراءة القرآن، وشيوع الفساد بينهم.. واتّباعهم قاعدة الحجر الصحي على الحُجّاج، وتوقيعهم الصلح مع الدانمارك سنة 1159 هجرية (1746 ميلادية).. وفرار باي معسكر إلى الإسبان بوهران سنة 1159 هـ (1746 م) بتوريطٍ من أحـــد أثرياء اليهود بمدينة الجزائر، ولجوء ابن الثائر أحمد الريفي ومحمد باي ومحمود باي التونسيين إلى الدّاي إبراهيم باشا..

فائدة الرحلة في البحث الاجتماعي

ويمكن للباحث الاجتماعي أن يجد في الرحلة مادة ثريّة أيضًا، فقد ذكر المؤلِّف صيغة صلوات وأدعية معهودة عند أهل الجزائر عند ختم “صحيح البخاري”، يرشّ أثناءها الخدمُ ماءَ الورد على الحاضرين بالجامع الكبير، كما ذكر عاداتهم ليلة القدر وليلة المولد النبوي، فقد كان مُتولِّي الجامع الكبير يُفرغ ليلة القدر قنطارًا أو أكثر من الشّمع، يفرِّقه على ثلاثين شمعة خضراء، ثم يُطاف بهذه الشموع في اتجاه دار المفتي أو الوكيل، ومنها إلى دار الإمارة عبر الشوارع المُزيّنة، وهم يرفعون أصواتهم بالأناشيد الدينيّة، ثم يعودون إلى الجامع من طريق أخرى، وكان يُقام مثل ذلك في ضريح “عبد الرحمن” الثعالبي أيضًا.

وعقد المؤلِّف مقارنة بين عادات المولد النبوي في الجزائر والمغرب. ومن العقود التي أوردها نعرف العملة السائدة عندئذ، نوع الصّداق، ونوع إمكانيات كل طبقة في ذلك.

يجد دارسو الحياة النسويّة والمنزلية ضالّتهم في القفاطين المِلفِيَّة أو الأطلسية، وأنواع الجواهر، وإماء السودان، وقناطر الصّوف، وغيرها ممّا كان يُقدَّم صداقًا للزوجة حسب حالها الاجتماعي، وحسب سنِّها أيضًا بكرًا أو ثيّبًا، وهذه الجوانب من الحياة الاجتماعية هي التي ما يزال يفتقدها الباحثون في تاريخ الجزائر.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا