حين تصبح الحرب وسيلة للهروب من الأزمات، وعندما تتحول دماء الأبرياء إلى ورقة تفاوض سياسية، يدرك العالم أن العدالة لم تعد سوى شعار يُرفع بلا معنى. غزة، ذلك الشريط الساحلي المحاصر من كل جانب، تستيقظ مرة أخرى على وقع الانفجارات، ويتجدد المشهد ذاته الذي ألفته منذ عقود: الركام، الجثث، العيون المذعورة، وصرخات الأطفال التي تملأ السماء. القرار الصهيوني باستئناف القتال لم يكن مجرد رد فعل عسكري، بل كان خطوة مدروسة، بالتنسيق مع الإدارة الأمريكية، لتحقيق أهداف سياسية تتجاوز حدود غزة، لتصل إلى طهران وصنعاء وبيروت. لكن، هل يستطيع المجرم بنيامين نتنياهو، الغارق في أزماته الداخلية، تحقيق أهدافه عبر استمرار الحرب؟ هل يمكنه فرض “نصر مزعوم” على حساب الأبرياء؟ أم أن استئناف القتال ليس سوى محاولة يائسة لتصدير أزماته السياسية وتأمين بقائه على رأس السلطة؟ هذا المقال يحلل أبعاد هذه الحرب الجديدة، دوافعها الحقيقية، وأفقها السياسي والعسكري في ظل توازنات إقليمية ودولية معقدة.
تجدد مشهد القتل والدمار في قطاع غزة مع فجر أمس الثلاثاء 18 مارس الحالي بعد أن استأنف الطيران الحربي الصهيوني غاراته العنيفة على القطاع، مخلفًا وراءه المزيد من الشهداء والدماء. وفي الزمان والمكان ذاته، تروي الصور مآسي الأمس، حيث الدماء تملأ الشوارع ولا تميز بين كبير وصغير. الصور المتكررة التي تحاصرنا اليوم تُذكرنا مرارًا بأن الحرب ليست مجرد أرقام، بل هي قصص من آلام ودموع، من أرواح تُزهق وأحلام تدفن تحت ركام المنازل.
هذا الواقع المرير يعيشه أهل غزة كل يوم، ويتجدد مع كل تصعيد في ظل صمت دولي يراقب ما يحدث من بعيد، وكأن غزة باتت مجرد مشهد متكرر لا يستدعي تحركًا فعليًا. وبات من المؤكد أن قرار رئيس وزراء سلطة الاحتلال، مجرم الحرب بنيامين نتنياهو، باستئناف الحرب على قطاع غزة لم يكن قرارًا عشوائيًا، بل اتخذ بتنسيق واضح مع الإدارة الأمريكية، ويهدف إلى ممارسة الضغوط على حركة المقاومة الإسلامية (حماس) لقبول شروط (تل أبيب) وواشنطن في مفاوضات صفقة التبادل، فضلًا عن محاولة القضاء على حماس سياسيًا وعسكريًا، إلى جانب ممارسة ضغوط على جماعة أنصار الله في اليمن وإيران.
تشير القراءات السياسية والعسكرية إلى أن استئناف القتال لن يحقق الأهداف المعلنة للحرب بالقضاء على حماس وإعادة الأسرى دون صفقة. بل تؤكد معظم التحليلات أن هذه الحرب تأتي كغطاء سياسي لنتنياهو لتصدير أزماته الداخلية المستمرة، خصوصًا مع تصاعد الصراع بينه وبين رئيس “الشاباك” رونين بار. فحالة الفوضى التي تعيشها “إسرائيل” داخليًا تخدم نتنياهو وتمنحه مبررات للبقاء في كرسي رئاسة الوزراء.
وبحسب المعطيات، فإن القيادة العسكرية والأمنية الصهيونية الجديدة، سواء في الاستخبارات العسكرية أوفي القيادة العسكرية بالمنطقة الجنوبية، تتماهى مع أهداف نتنياهو السياسية، حيث تروج لفكرة القضاء على قدرات حماس العسكرية مع الإبقاء على ملف المحتجزين الإسرائيليين كأولوية ثانوية. ويدرك نتنياهو جيدًا أن أوراق الضغط التي تمارسها (تل أبيب) وواشنطن على حماس تهدف إلى إجبارها على تقديم تنازلات سياسية، لتمكينه من إعلان ما يسميه “النصر المطلق” عبر نزع سلاح المقاومة.
لكن الحقائق على الأرض تُشير إلى أن تحقيق هذا الهدف يبدو بعيد المنال. فالمقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها حماس، لن تتخلى عن سلاحها بسهولة، لأنه يُعد الضمانة الوحيدة لحماية الشعب الفلسطيني من الاحتلال الصهيوني. وعليه، فإن قرار استئناف الحرب كان متوقعًا، خصوصًا أن نتنياهو لم يتوقف عن التهديد به منذ البداية، بل مهد له بشكل متدرج من خلال حصوله على تأييد أمريكي غير مشروط.
وتُظهر التطورات أن نتنياهو عمل على تمهيد الأجواء داخليًا لاستئناف القتال دون مواجهة معارضة واسعة، من خلال إجراء تغييرات عسكرية وإدارية، كان أبرزها تعيين إيال زامير، المقرب من نتنياهو، رئيسًا للأركان، بينما أصبح وزير الدفاع، يسرائيل كاتس، مجرد دمية تنفذ أوامر رئيس الوزراء دون اعتراض. ورغم أن المؤسسة العسكرية كانت تبدي بعض التحفظات على استمرار الحرب والدفع نحو إتمام صفقة التبادل، إلا أن التغييرات الوظيفية الأخيرة ضمنت لنتنياهو بيئة خالية من المعارضة داخل الأجهزة الأمنية، ما سهل عليه اتخاذ قرار استئناف القتال.
في السياق ذاته، يرى بعض المحللين أن العودة إلى القتال تخدم مصالح نتنياهو السياسية والشخصية، حيث أدت إلى تقوية حكومته عبر إعادة إيتمار بن غفير إلى الائتلاف الحكومي، كما أن رئيس “الصهيونية الدينية” وضع شرطًا لبقائه في الحكومة يتمثل في عدم التوجه إلى المرحلة الثانية من اتفاق غزة والعودة إلى القتال، مما جعل الحرب وسيلة لتعزيز استقرار حكومة نتنياهو الهشة.
كما أن استئناف القتال يُشكل ورقة ضغط لإجبار حماس على تقديم تنازلات في المفاوضات، في حين تجمع التحليلات العسكرية الصهيونية على أنه لا يوجد أي مبرر عسكري حقيقي للعودة إلى الحرب، بل أن نتنياهو هو من انتهك اتفاق وقف إطلاق النار، بينما التزمت حماس بجميع بنوده. وبالتالي، فإن العودة إلى الحرب لم تكن سوى وسيلة لممارسة المزيد من الضغوط على المقاومة وقبول الإملاءات الأمريكية والصهيونية.
في المقابل، يدرك نتنياهو أن استمرار الحرب يوفر فرصة لليمين المتطرف لتجديد خططه المتعلقة بتهجير الفلسطينيين وإعادة الاستيطان في قطاع غزة. ومع ذلك، يُستبعد أن تتمكن تل أبيب من تنفيذ هذا المخطط بشكل كامل، رغم الدعم الأمريكي المستمر.
التصعيد الإسرائيلي في غزة يأتي في إطار سياسة التوسع العسكري التي تشمل أيضًا جنوب لبنان وسوريا، حيث يترافق القصف الصهيوني في هذه المناطق مع الغارات الأمريكية على اليمن، في محاولة لإضعاف تحالفات المقاومة في المنطقة. فـ”إسرائيل” تستغل الدعم الأمريكي لاستهداف حماس وتقويض المقاومة في لبنان ومنع وصول الأسلحة إليها، مستفيدة من غطاء استئناف القتال دون الشروع في حرب شاملة.
ويتضح أن “إسرائيل”، بالتنسيق مع واشنطن، تسعى إلى استغلال التغيرات الإقليمية عبر استئناف القتال، بهدف إقامة مناطق أمنية وعسكرية في جنوب لبنان وسوريا، إضافة إلى فرض حزام أمني حول قطاع غزة، وفق العقيدة الأمنية الجديدة التي تؤكد على ضرورة الاعتماد المطلق على “الجيش” الصهيوني.
إلا أن نتنياهو يخوض حربًا وسط معارضة شعبية واسعة داخل الكيان، مما يعمق حالة الانقسام الداخلي ويجعل هذه الحرب خاسرة من الناحية الإستراتيجية. فاستئناف القتال في غزة ليس مجرد قرار عسكري، بل هو جزء من ما يسميه نتنياهو “الحرب الوجودية” التي تهدف إلى إنقاذ مستقبله السياسي والبقاء في السلطة، حيث يتصرف وكأن “الدولة هو، وهو الدولة”.
لكن خيارات نتنياهو آخذة في التقلص، فالعودة إلى القتال لن تحقق هدف الحرب المعلن وهو إعادة المحتجزين الإسرائيليين، بل قد تجعل عودتهم أكثر صعوبة. كما أن استئناف القتال جاء كوسيلة للهروب من الأزمات الداخلية التي افتعلها نتنياهو، مثل إقالة رئيس “الشاباك” رونين بار، وإعفاء اليهود الحريديم من الخدمة العسكرية، إضافة إلى أزمة الموازنة العامة.
الحرب على غزة لم تتوقف منذ أكثر من عام ونصف، بل أخذت أبعادًا متعددة، كان آخرها تكثيف الغارات الصهيونية في محاولة لاختبار مدى قابلية تنفيذ مشروع التهجير الذي سبق أن تراجع عنه ترامب في تصريحاته العلنية. ومع استمرار الحرب، يجد نتنياهو نفسه في مأزق أكبر، حيث يواجه معارضة داخلية متزايدة، مما يجعل هذه الحرب خاسرة على المدى البعيد، ويزيد من المطالبات بتشكيل لجنة تحقيق رسمية حول إخفاقات 7 أكتوبر 2023.
بالتزامن مع استئناف الحرب على غزة، كثف “الجيش” الصهيوني ضرباته في لبنان وسوريا، مما يشير إلى استراتيجية تهدف إلى تفكيك وحدة الساحات والجبهات الداعمة للمقاومة. كما أن التصريحات الصادرة عن إدارة ترامب التي أكدت علمها المسبق بهذه الغارات، تؤكد أن الضربات الأمريكية والبريطانية على اليمن كانت جزءًا من هذه الخطة. ولا تهدف الاستراتيجية الأمريكية إلى تصعيد الحرب في غزة أو إشعال صراع شامل في الشرق الأوسط، بل تسعى إلى تحقيق أهدافها من خلال ضربات سريعة، وذلك ليس من باب صنع السلام، ولكن حرصًا على مصالحها الإقليمية والدولية.