قبلة الأحرار.. الجزائر التي لا تنكسر

ليس للجزائر ذنب سوى أنها كانت السباقة دوما لفعل الخير وبذل الكرم، ومد يدها دعما للإخوة الأشقاء وسندا للرفقة الأصدقاء، من دون تملق ولا مداهنة ولا حساب، وبعيدا عن كل المراهنات السياسوية التي عادة ما تفسد النوايا وتعكر الأجواء وتلوث المقاصد.. كان هذا ولا يزال اعتباره لدى الجزائريين رأسمال لا ينضب، بل أكثر من ذلك، فهو القاسم المشترك الذي يجمع كل شرائح المجتمع بما في ذلك المسؤولون وأهل الحل والعقد؛ من رئيس الجمهورية إلى رئيس البلدية.. وهذه عملة نادرة لا تملكها إلا الأنفس الزكية والدول الحَرِيَّة، والتي تعرف حقا قيمة القيم الروحية ووزن الأخلاق الإنسانية، في ميزان العلاقات الدولية القائمة.

إن الجزائر التي عانت الويلات جراء الحروب والاعتداءات الخارجية، قد تعلمت جيدا كيف تدافع عن نفسها أرضا وعرضا وشعبا وحضارة، الخبرات التي شكلت لها عبر الأحداث المتعاقبات رصيدا نضاليا قل نظيره لدى بلدان العالم. الأمر الذي زادها ثباتا على مبادئها، وتمسكا بمواقفها المرتكزة على أسس أربعة لا تتزعزع:

  • عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
  • رفض استعمال القوة أو التهديد بها، لحل الأزمات والنزاعات الدولية.
  • اعتماد الحلول السياسية والطرق الدبلوماسية.
  • تأكيد على مبدأ التعاون الدولي بصورة أكثر عدلا وتكافؤا.

وهي الأسس والمرتكزات التي تتوكأ عليها المواثيق والأعراف الدولية، منذ تأسيس منظمة الأمم المتحدة غداة الحرب العالمية الثانية، والتي على ضوئها كسبت الجزائر الاحترام والتقدير من قبل المجتمع الدولي. ..”..أنت لا تملك من إفريقيا سوى البشرة السوداء..”.. قالها الرئيس “بومدين” في أحد الرؤساء الأفارقة الذي كان قد اتفق معه على المرافعة السياسية من أجل تطهير القارة الافريقية من كل أشكال الاستعمار والعنصرية، لكن الرئيس المعني لم يشر للموضوع المتفق عليه ولو بكلمة، جبنا وخوفا وتزلفا.

“عبد العزيز.. عبد العزيز.. رغم خضرة عينيك إلا أنك أكثر الأفارقة سوادا هذا اليوم..”.. عبارة أطلقها الممثل الدائم لجمهورية السينغال لدى الأمم المتحدة السيد “ميدون فال” باكيا، وهو يعانق وزير الخارجية الجزائري السيد “عبد العزيز بوتفليقة” بصفته آنذاك رئيسا للجمعية العامة للأمم المتحدة، العام 1974م، وذلك بعدما تمكن هذا الأخير، من طرد مندوب نظام جمهورية جنوب إفريقيا العنصري، من القاعة الأممية مطأطئ الرأس يكاد ينفجر حنقا وغضبا.. وهو الموقف الذي جعل الجزائر حينها عرضة للتهجم والانتقاد، من قبل الدول الغربية العظمى على وجه الخصوص، قبل أن يحتفل العالم كله بسقوط نظام الميز العنصري سنوات بعد ذلك.. الاحتفال الذي جاء في شكل ثمرة من غِراس الدبلوماسية الجزائرية الثابتة على الحق، ويتحول الزعيم “نيلسون مانديلا” على إثرها، إلى رمز تاريخي للمقاومة والنضال، وهو الذي أثنى على الجزائر دون غيرها، يوم أطلق سراحه من السجن العنصري الذي قبع فيه لأكثر من ربع قرن.

كما استطاعت الجزائر بصفتها رئيسا للدورة الأممية، من خلال وزير خارجيتها آنذاك السيد “عبد العزيز بوتفليقة” إدراج القضية الفلسطينية على لائحة جدول أشغال الجمعية العامة، ومن ثم دعوة المناضل “ياسر عرفات”، الذي ظل مطاردا من قبل الصهاينة وحلفائهم من منطلق أنه إرهابي خطير، لإلقاء كلمته التاريخية أمام دول العالم، والتي ختمها بقوله؛ …”كما أتوجه إليكم سيدي الرئيس، بأن تمكنوا شعبنا من إقامة سلطته الوطنية المستقلة، وتأسيس كيانه الوطني على أرضه.. لقد جئتكم يا سيادة الرئيس، بغصن الزيتون مع بندقية ثائر، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي.. فالحرب تندلع من فلسطين، والسلام يبدأ من فلسطين..”.. سنوات بعد ذلك يعلن السيد “ياسر عرفات” عن تأسيس دولة فلسطين من أرض الجزائر، بعدما ضاقت به الأرض على رحبها.. فيستقبله العالم بعد ذلك كرئيس للسلطة الوطنية الفلسطينية.

ليثبت التاريخ مرة أخرى حكمة الدبلوماسية الجزائرية ومنطقها السوي، في التعاطي مع كبريات القضايا العالمية، وفي معالجتها للأزمات والصراعات التي دعيت لحلها، حتى سميت بـ”دبلوماسية الأزمات”.. إلى ملف القرن الافريقي وحرب اثيوبيا وايريتريا.. إلى ملف مالي واتفاق الجزائر.. إلى الأزمة السورية والرفض القاطع لفرض عقوبات ومقاطعة سوريا، على الأقل في البيت العربي ومنظمته؛ الجامعة العربية.. إلى الملف الليبي والدور المحوري الذي تلعبه الجزائر في عملية حلحلة الخلاف الليبي، والذهاب الى انتخابات عامة يتفق عليها الاخوة الفرقاء من دون ضغط ولا لغط ولا خلط أجنبي.. إلى القمة العربية ولم الشمل الفلسطيني مرة أخرى، وإعادة القضية الفلسطينية إلى قلب الاهتمام العربي، وهو الموقف الذي أحرج كثيرا بقية الأنظمة العربية المهرولة والمطبعة مع الكيان الصهيوني الغاصب.

ستبقى الجزائر إذا، قبلة الأحرار حيث ما كانوا؛ عربا وعجما وسودا وبيضا.. تنافح عن الحق الإنساني وتدافع عن الشرعية الدولية، وترافع من أجل قيم العدالة والسلام.. وفي خضم ذلك، قد يلين عودها شيئا أو يذبل، لكنه أبدا لا يكل ولا يمل ولا ينكسر.. ولذلك، عبثا يحاول “الشراذم” و”الفلول” ثني الجزائر عن مواقفها الثابتة الشريفة، أو يجبرونها على التخندق ذليلة بين القطيع.

مصطفى بن مرابط - الجزائر

مصطفى بن مرابط - الجزائر

كاتب في الأيام نيوز

اقرأ أيضا