مؤرّخٌ يكتب عن مؤرّخٍ.. مبارك الميلي في مرآة عبد الرحمن الجيلالي (الجزء الأول)

الشيخ “مبارك بن محمد الميلي” هو شيخ شيوخ المؤرّخين الجزائريين، فقد كان أوَّل من ألّف كتابًا باللغة العربية حول تاريخ الجزائر بعنوان “تاريخ الجزائر في القديم والحديث”، وأصدر الجزء الأول منه سنة 1928. واعتبر الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس “الكتابَ بأنَّه “بعثٌ لحياة الأمة الجزائرية”.

في سنة 1932، أصدر الأستاذ “أحمد توفيق المدني” الكتاب الثاني حول تاريخ الجزائر بعنوان “كتاب الجزائر”. وفي سنة 1953، أصدر الشيخ “عبد الرحمان الجيلالي” الكتاب الثالث بعنوان “تاريخ الجزائر العام”، وقد سئِل عن سبب تأليفه لكتابه، فأجاب قائلا: “لأنني رأيتُ الجزائر مهضومة التاريخ، كتبتُ تاريخ الجزائر”.

وقد سبَق لجريدة “الأيام نيوز” أن نشرت في العاشر أفريل من العام المنصرم موضوعًا بعنوان “كيف بدأت الكتابة التاريخية الوطنية الجزائرية؟”، وجاء فيه “كانت الكتابة عن التاريخ الجزائري بأبعاده الإسلامية والعربية من المُحرّمات والجرائم التي يُعاقب عليها الاستعمار الفرنسي، لا سيما بعد أن أصدر سنة 1904 قانون المنظومة التعليمية الذي يستبعد من التعليم الحرّ كل ما يتعلّق بالتاريخ الإسلامي والوطني وجغرافية الجزائر الطبيعية والبشرية”.

وهذه مقالةٌ نشرتها مجلة “الأصالة” الجزائرية في شهر مارس 1984، كتبها الشيخ عبد الرحمان الجيلالي “من وحي ذكرى مرور أربعة عقود سنوية على وفاة العلاَّمة النَّابغة الشيخ مبارك الميلي”، وتعيد جريدة “الأيام نيوز” نشرها لأنّها تضيء بعض الزوايا من حياة الشيخ “مبارك الميلي”، وتكشف عن ظروف تأليف كتاب “تاريخ الجزائر في القديم والحديث”، فالشيخ “الجيلالي” يقول بأنَّ “الميلي” كان يستعين به وبالشاعر “محمد العيد آل خليفة” وغيرهما في تجميع الوثائق والمخطوطات والمواد التاريخيّة.. المفيدة في إنجاز كتابٍ تاريخيٍّ عن الجزائر.

شهادة الشيخ “محمد البشير الإبراهيمي”

“لا يظِّلنا يوم 9 فيفري من كل سنة حتى تتجدَّد لنا من أخينا العزيز المرحوم الشيخ “مبارك الميلي” ذكريات 9 فيفري 1945 (25 صفر 1364 هـ) تمدُّها حسرات تتبعها زفرات، فحياته رحمه الله كانت كلّها جدّ وعمل، وعمر كله درس وتحصيل، وشباب كله تلقٍّ واستفادة، وكهولة كلها إنتاج وإفادة، ونفس كلها ضمير وواجب، وروح كلها ذكاء وعقل، وعقل كله رأي وبصيرة، وبصيرة كلها نور وإشراق، ومجموعة خِلالٍ سعيدة وأعمال مفيدة قلَّ أن اجتمعت في رجل من رجال النَّهضات، فإذا اجتمعت هيَّأت لصاحبها مكانه من قيادة الجيل، ومهَّدت له مقعده من زعامة النهضة”.. تِلكم هي كلمات الأستاذ الرئيس الشيخ “محمد البشير الإبراهيمي” رحمه الله التي عرَّف بها خِلال الشيخ “مبارك الميلي” في ذكراه الثالثة بعد وفاته. وكفى بها شهادة من عظيم لعظيم.

يتيمٌ في حِجر جدّه

كان إشراق مُحيَّا الميلي رحمه الله على هذا العالم سنة 1316 هجرية الموافق 1898 ميلادية، بدُوّار “أولاد مبروك” من قرى بلدة “الميلية” بولاية قسنطينة، وبها نشأ وتربّى يتيمًا في حِجر جدّه ثم في كفالة عمَّيه، ثم اقتضى ما حمله على الانتقال بنفسه إلى مدينة “ميلة” راغبًا في الدرس والعلم، فأتمَّ بهذه البلدة حفظ القرآن الكريم على يد الشيخ “محمد الميلي” إمام المسجد ومدرِّسه، مع ما كان يتلقَّاه معه الطلبة عن هذا الشيخ من مبادئ مع العلوم الإسلامية وآداب اللغة العربية وآداب النفس والأخلاق.

من قسنطينة إلى تونس

وبما أنَّ “المبارك” كان شعاره دائمًا في طلب العلم وتحصيل الفهم: “هل من مزيد؟”، فيمَّم حاضرة قسنطينة ليكرع من ينبوع علاَّمة القُطر وإمام العصر الشيخ “عبد الحميد بن باديس” رحمه الله، فاتّصل بالأستاذ الإمام وقرّبه إليه وكان لديه من أحبِّ وأعزّ تلامذته الكرام، فشجَّعه إلى دروسه إلى أن بلغ من العلم ما أهَّله إلى التَّعليم العالي، فبعث به إلى “تونس” ليتلقّى عن كبار علماء “جامع الزيتونة” ما يشفي غليله من التضُّلع من علوم المعقول والمنقول، فأضحى كذلك محلَّ عناية فحول الأساتذة بجامع “الزيتونة” الذين طالما تفاءلوا به خيرًا، فلازم الدراسة بجدٍّ واجتهاد حتى النهاية بتحصيل شهادة التطويع 1924.

أخصبُ الأيام في مدينة الأغواط

ثم عاد إلى قسنطينة مملوء الوِطاب عِلمًا وأدبًا، فعقد عزمه على تكريس حياته لخدمة العلم والدين والوطن. وأوَّل ما عني به يومئذ هو تأسيس مدرسة على النَّمط العصري، فكان له ذلك سنة 1925، فعمل بها مديرًا ومدرِّسًا نحو أربعة عشر شهرًا، ثم كان ما أوجب انتقاله من قسنطينة إلى مدينة الأغواط، فبنى له أهلُها مدرسةً جديدة، وانقطع فيها للتعليم والكتابة والتّأليف، وكانت أيامه بها هي أخصب أيامه في الإنتاج الأدبي والاجتماعي والعلمي، وبهذه المناسبة تخرَّج على يده جمعٌ عظيمٌ من حمَلة العلم وأنصار الدين.

وكان الإقبال عليه من أبناء الأغواط وغيرهم عظيمًا، وبها ظهر نبوغه وعبقريّته في فنّ التربية والتعليم، وعلى يده تأسَّست الجمعية الخيرية بالأغواط لإسعاف ذوي الحاجة من بني الإنسان. وعكف هناك بالمسجد على إلقاء دروسٍ في التفسير والحديث والفقه والسيرة والأخلاق، وعقد إلى ذلك مجالس للوعظ والتَّذكير، تلك المجالس التي كانت فيما بعد نواة لتأليف رسالته الجليلة: “رسالة الشِّرك ومظاهرة”.

مُصلحٌ ديني واجتماعي جوّالٌ في بلاده

وكثيرًا ما كان أثناء ذلك يخرج متجوّلاً في أنحاء الوطن لبثّ مبادئ الإصلاح الديني والاجتماعي، ونشر التعليم بين مختلف الأوساط، كل ذلك بطريق الإرشاد والتَّوجيه إلى العمل على هدى الكتاب والسنّة، ومحاربة البدعة في الدين والعقيدة، والتَّجافي عن الجهل والكسل والخمول. فكان تارة يخرج إلى “الجلفة”، وتارة إلى “بوسعادة”، وتارة إلى “آفلو”، وتارة إلى غيرها من أنحاء الوطن، ورسالة الشرك ومظاهره المطبوعة أولاً بقسنطينة سنة (1356 هـ – 1937م) تعطيك نظرةً عامّة عمّا كان يحوم حوله في مجالسه الوعظيّة من مسائل تصحيح العقيدة ودفع التَّدجيل ومقت الدجّالين في الدين، بهذا ارتأى الشيخ “الميلي” خدمة قومه ووطنه.

تطهير المُعتقد ونفي العقائد الأجنبيَّة

نعم، لقد وفِّق حقًّا وصدقًا فيما اختاره هذا الرجل العظيم لخدمة أمته، فإنَّ أهمَّ ناحية يخدم بها العالِم العامل أمَّته هي تطهير المعتقد ممّا لها لصق به من الضَّلالات والخزعبلات.. وإرجاع قوة الإسلام بنفي العقائد التي هي أجنبية عنه والتي أدخلت الضعف في نفوس أهله حتى أصبحوا بسببها في أسوء حالٍ من حيث أوضاعهم الاجتماعية وحياتهم السياسية والاقتصادية، فللعقيدة الدينيَّة الدّور الأهمّ في كل ما قام به هذا الشعب الجزائري من أعمال في مختلف الميادين خلال التاريخ من يوم اعتناقه للإسلام، وذلك لأنَّ للعقيدة الدينية دخلاً كبيرًا في جميع الحركات والسكنات عند المسلمين قاطبة. وما كان للعرب تقدُّم ولا تحرُّر في أفكارهم وعقائدهم إلاّ بتطهير الإسلام لعقولهم من الأوهام والأباطيل.

من أقوال العلماء في الشيخ “الميلي”

إضافة إلى ما قاله الشيخ العلاَّمة الشيخ “محمد البشير الإبراهيمي”، هناك أقوالٌ أخرى كثيرةٌ تُثني على الشيخ “مبارك الميلي” وسعة علمه، نذكر منها:

قال الشيخ الإمام “عبد الحميد بن باديس” رحمه الله: “أخي مبارك، من أحيا نفسًا واحدة فكأنّما أحيا النّاس جميعًا، فكيف بمن أحيا أمّة كاملة؟! أحيا ماضيها وحاضرها، وحياتهما عند أبنائها حياة مستقبلها، فليس والله كفاء عملِك أن تشكرك الأفراد، ولكن كفاؤه أن تشكرك الأجيال، وإذا كان هذا في الجيل المعاصر قليلاً، فسيكون في الأجيال.. كثيرًا، وتلك سنّة الله في عظماء الأمم ونوابغها، ولن تجد لسنة الله تبديلاً”.

وقال المؤرّخ “أحمد توفيق المدني” رحمه الله تعالى: “لقد كان من رجالنا المعدودين، وكان من بُناة قوميّتنا المذكورين، وكان من الذين خلّدوا أسماءهم بأعمالهم الجليلة وجهادهم الموفّق في صفحات التاريخ الوطني الحافل الثري”. وأضاف: “كان – رحمه الله – أوّل من عرفتُ في القُطر الجزائري من رجال العمل الصحيح والوطنية الحقة”. وقال أيضًا: “وأقسم أنّني ما عملت مع أحد عملًا أحبّ إلى وأمتع لنفسي – إذا استثنيت سني الجهاد ضمن الحزب الدستوري التونسي – من عملي ذلك خلال تلك الفترة القصيرة إلى جانب مبارك الميلي. ولقد رأيت فيه يومئذٍ خِلالًا جعَلته في نظري نموذج المؤرِّخ الصادق، وهذه شهادة أؤدّيها للمعاصرين وللأجيال: صبر على البحث، وعلوّ في التحقيق والتدقيق، ومهارة منقطعة النَّظير في المقابلة بين النصوص، ونظرة صائبة في استجلاء الغوامض، وحكم صادق في أسباب الحوادث ونتائجها، ومهارة في الترتيب والتبويب، وحسن سبك يجعل التاريخ كلّه كالسلسلة المفرغة”.

وقال الشيخ “أحمد حماني” رحمه الله تعالى: “العلّامة الجليل الشيخ مبارك بن محمد الميلي رحمه الله، أكبر تلاميذ الأستاذ ابن باديس ومدرسته علمًا وفضلًا وكفاءة، وأحد علماء الجزائر وبُناة نهضتها العربية الإصلاحية الأفذاذ، وأوّل من ألّف للجزائر باللغة العربية والعاطفة الوطنية تاريخًا قوميًّا وطنيًّا نفيسًا”.

وقال تلميذه الشيخ أبو بكر الأغواطي رحمه الله تعالى: “عرفنا من الأستاذ مبارك الميلي (رحمه الله) صفات قلَّ بيننا اليوم من يتَّصف بها، وهي التي جعلت منه عَلمًا من أعلام نهضتنا، ورجلًا من خيرة رجالنا، تلك هي حبّ العمل والجدّ فيه، وتحمّل الأعباء والمصابرة على تحقيق أهداف عُليا، وكلها ترجع إلى متانة خُلقه وصدق عزيمته وسداد تقديره ومحكم تدبيره”.

وأمَّا أمير البيان “شكيب أرسلان” فقد وجّه رسالةً إلى الشّيخ الطيب العقبي بعدما اطّلع على كتاب الشيخ الميلي: “تاريخ الجزائر في القديم والحديث”، قال فيها: “وأمّا تاريخ الجزائر للشيخ مبارك الميلي، فوالله ما كنت أظن في الجزائر من يفري هذا الفري، ولقد أعجبت به كثيرًا”.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا