مشروع صعب ولكنه ليس مستحيلاً.. القدس عاصمة أبديّة للثقافة العربيّة

“القدس” هي بوصلة الروح العربيّة، بل هي بوصلة الضمير الإنساني والعالمي.. ولم تحظ مدينةٌ في التاريخ بالمكانة التي حظيت بها “القدس” في كتب التاريخ والأدب ووجدان الشعوب، وإقرار المثقفين العرب بأن تكون “القدس” عاصمةً أبديّة للثقافة العربية.. سيكون داعمًا معنويًّا كبيرًا للفلسطينيين في مقاومتهم لمشاريع التَّهويد والعبث بالهوية الوطنية الفلسطينية، ويدفع بالمثقفين العرب إلى أن يكونوا مبادرين وفاعلين في إبداع المشاريع الثقافية المُجديّة التي تُبقي فلسطين حيّةً في فكر ووجدان الشعوب العربيّة خارج الصندوق السياسي..

كما تُبقي القضيّة الفلسطينيّة حاضرة بعمق وقوة في الشّارع العربي، وفي تفاصيل الحياة اليوميّة للإنسان أينما كان على هذا الكوكب الذي يكاد يصرخ في المجرّات والأجرام السّماويّة: أنا كوكب الإنسان، فأوقفوا همجيّة وجنون الكيان الصهيوني ومَن يعتنقون عقيدته الدّمويّة، لإبادة الإنسان في وطن السّلام.. لم يتبقّ فوق ظهري ما يؤرّقني إلاّ هذا الاستعمار الشيطاني لفلسطين وشعب فلسطين، وإنّني أخشى على البشريّة من أن أتوقّف عن الدّوران! ولعل كوكب الأرض يقولها بلغاته عند كل شروق وغروب: القدس هي العاصمة الأبديّة للثقافة العربيّة.

ماذا تمثّل لكم “القدس”؟ وما رأيكم بأن تكون “القدس” عاصمةً أبديّةً للثقافة العربيّة؟ وما هو تقييمكم لموقع “القدس” في الأدب العربي الرّاهن؟ وما هو تصوُّركم لدور الأديب العربي في مقاومة تهويد “القدس” والحفاظ عليها بوصلةً للروح العربيّة؟ هذه هي التساؤلات التي توجّهت بها جريدة “الأيام نيوز” إلى نخبة من المثقّفين والكُتّاب العرب، فتنوّعت رؤاهم وأفكارهم، ولكنها كانت مُجمعة على تزكية “القدس” عاصمةً أبديّة للثقافة العربيّة..

إنّ الكتابة الإبداعيّة في عمومها هي مُبادرات فرديّة، ولكل كاتب عربي ظروفه في الكتابة والنشر والطِّباعة وإيصال إبداعاته وأفكاره إلى أوساط القرّاء والمتلقّين.. وقليلةٌ هي المبادرات الجماعيّة التي قام بها نخبة من الكُتّاب العرب لخدمة الثقافة أو خدمة قضيّة من قضايا الأمّة العربيّة، غير أنّها مبادرات تفتقد إلى الجدوى و”الثّقل” الذي يجعل منها قوّة ضاغطة تُحقّق أهدافًا ميدانيّة!

وفي ظل الظروف المأساوية التي تمرّ بها فلسطين، تمنّينا أن يكون للمثقفين العرب مبادرة يجتمعون عليها ويسعون إلى تحقيقها ويكون لها أثرٌ قويٌّ في دعم فلسطين، من منطلق أنّ المثقفين يمثّلون الشعوب.. وليس هناك ما هو أسمى من العمل على أن تكون “القدس” عاصمة أبديّة للثقافة العربيّة، فهذه الخطوة ستمثّل “حركة شعبيّة عربيّة” تساند الفلسطينيين في مواجهة مشاريع تهويد القدس وتهجير أهلها، كما تُساعد على إلزام كل مثقّف عربي بتحديد موقفه من القضيّة الفلسطينية، وقد يكون لها تأثيرٌ على “عقيدة” التّطبيع مع الكيان الصهيوني، وتمنع منحه “شّرعية” الوجود في الإقليم العربي..

القارئ أيضًا معنيٌّ بهذه الفكرة وموقفه منها وكيفيّة تجسيدها.. نعم الأمر بالغ الصعوبة ولكنه ليس مستحيلاً، ويجب على كل مثقّف وقارئ يؤمن بهذه الفكرة أن يكون ممّن لا يؤمنون بالمستحيل. إنّنا في مُفترق الطرق، وعلى النُّخب العربية أن تتجاوز مواقف الكلام الذي يبقى كلامًا إلى مواقف الكلام الذي يتجسّد على الأرض.. ومن المُجدي أن يتساءل كل كاتب ومثقّف بينه وبين نفسه: ما الذي حقّقته “الكتابة الإبداعيّة” للقضية الفلسطينيّة على مستوى الواقع؟ ما الذي استفاده الإنسان الفلسطيني عمليًّا من الكتابات الإبداعيّة العربيّة؟

يا قدس.. لن أخبر الله شيئًا!

بقلم: جروان المعاني – كاتب من الأردن

كل المدائن يشهد عليها الزمن إلّا القدس فإنّها إلى المنتهى شاهدة على الأيّام، فهي امتداد السماء الأول حيث النور وانبعاث الشرق إلى الوجود، هي الشّاهدة على الأنبياء موسى وعيسى وهارون..

القدس تزهو بالوقت بالمعراج والإسراء بالشهداء والأنبياء، توشوش الصَّباحات تسأل: أين العالم من جرحي؟

شوارع القدس القديمة تتجاذبك، فهي حقيقة الكون والخلق، تكلِّمك بفؤادها.. القدس ليست مكانًا فقط! للقدس بعدٌ أخلاقيٌ كوني يتولّاه الآن شِرار الأرض من “بني صهيون”.

القدس تسبحُ في ملكوت الله، يسكنها جسد البتول، وروح القُدس تسترجع فيها الطُّهر من مسجدها المحشو بكلمات الذِّكر والدّعاء، صارخًا بوجه الكون: أنقذوني!

القدس تتخضَّب بالدم كل يوم، يصرخ المقدسي: أنا الفلسطيني فيا أيّها البشير متى يكون الخلاص؟ وهي تختال بمسجدها وكنيستها.. تستحضر الأنبياء بكل تفاصيلهم من أول الدنيا إلى يوم القيامة.

منذ اللحظة الأولى لاحتلال القدس، بدأ الكيان الغاصب عملية تهويد شرسة من أجل إخفاء معالم القدس وتهويدها، وسعى إلى تهجير سكّانها بشتى الوسائل، والاستيلاء على أملاك الغائبين وبناء المستوطنات بعد سلب الأرض بمختلف الوسائل، كل ذلك إلى جانب التركيز على تحريف الحقائق والمناهج التعليمية ونشر ثقافات هجينة بين المقدسيّين.

ولما كان العجز العربي من الناحية العسكرية واضحًا في مواجهة الكيان الغاصب، وماكنة الإعلام تعمل باستمرار على تثبيت السرديّة الصهيونية وخطابها المزيّف إلى العالم، صار لزامًا على المثقف العربي أن يطوِّر من أدواته في مواجهة هذا الفيضان الإعلامي المؤيد لزيف الادّعاءات والسرديّة التي تبرز “الأحقيّة” الواهمة الصهاينة في القدس. ولعل من أهم هذه الأدوات، تثبيت القدس عاصمة للثقافة العربية من أجل الحفاظ على العمل المتواصل لحماية القدس من عمليات التّهويد.. والثقافة وسيلة نضال فعّالة لكشف المخططات الساعية إلى تفريغ القدس من سكانها الأصليين.

إنَّ العمل من أجل الإقرار وجعل القدس عاصمة للثقافة العربية حتى تتحرّر هو واجبٌ أخلاقي ديني خصوصًا بعد ما شهده العالم العربي من تراجع بعد معاهدات السلام الزائفة، وصار الظلم واقعًا نعيشه اتّجاه القدس وأهلها.

وَظُلمُ ذَوي القُربى أَشَدُّ مَضاضَةً — عَلى المَرءِ مِن وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ

يا قدس إني حزين حين أراني بغدر ابن عمي قتيل، أسيرُ إلى مآلٍ أراده ربي، عدوٌ لئيمٌ وقريبٌ ظننته مني، يعلن للدنيا شماتته بذبحي، ورُبّ عدوٍ أذهله صمودي كـ “غزّة” حين ترهب الدنيا وتبصق بوجه كل خائن مِمّن انتسبوا إلى الإسلام والإنجيل.. والقريب والبعيد.

يا سادتي، القدس مهرها حجر وطعنة سكين، وأنا كما قبابها موّال حب لا ينتهي، ينبوع حنين. روحك المقدّسة كما كتاب الله يُتلى إلى آخر الدهر.. نبيذ يُعتّق في جرار الطُّهر، فلك المجد والسلام وعنفوان الزمان..

سلام على الشيخ جراح وحارة النصارى وحي الأرمن وحارة المغاربة. سلام على إسعاف النشاشيبي والسكاكيني. سلام على عزالدين القسام ابن الشام الذي سكب دمه ليروي شجرها. سلام على أحمد المجالي والحصان ومنصور كريشان الذين ساروا على درب الشهيد كايد عبيدات وصحبه في معركة تل الثعالب. سلام على المقاومين الشرفاء الأحرار الذين طوفانهم جاء من أجل الأقصى. سلام على المقدسيات وهن يرتِّلن سور النصر لينجبن شهداء. سلام على حنا بشارات الذي بنى فيلا هارون الرشيد داخل حي الطالبية.. واللعنة على جولدا مائير التي سرقته وسكنته وما زال حتى اليوم مسلوبًا من الخنازير!

في زمن الرذيلة، أنا لن أخبر الله شيئًا عن عبارة نطق فيها طفل كان يلفظ أنفاسه الأخيرة، ودَّع العالم وصعد إلى السماء على أمل أن يلتقي الله ويخبره عن كل شيء.

أمَّا أنا فلن أخبر الله شيئًا، لن أحدِّثه أنَّ أبناء جلدتي الذين فرضوا على الكلمات جزية، حرموا حمام القدس أن يحلِّق، فسلبوا الحياة على طول طريق الآلام الممتّد من المحراب إلى المحراب.. من غزَّة إلى اللطرون وباب الواد.

أنا لن أبلِّغ الله عمَّا أقترفه العرب، وكيف جاع أبناء غزّة، وكيف هُجِّر أبناء القدس من بيوتهم.. واكتفينا بالشّجب والخطب، وإرسال بعض العرب المعونةَ لمن قتلونا وعادلوا بين النار والحطب!

لن أشكو له وجعي وجوعي وتشرّد النساء والأطفال في البراري. أنا فقط سأنتظر لقاءه كي أعرف الفرق بين “أبي لهب” وحمَّالي الحطب” من أبنا هذا العصر. أنا لن أبكي من ماتوا، لكني سأرجوه أن يتدخّل ويعلِّمنا كيف يكون الغضب!

تبلغ القلوب الحناجر وتموت في الوجود الضمائر، لن أخبر الله عمّا جناه اليهود.. كيف قتلوا الأنبياء والأطفال والنساء، وكيف علَّموا “الدواعش” إحراق البشر أحياءً! لكني سأسأله من أين أتوا بالنَّفط وأشعلوا في الأرض الحرائق؟

سأسأله عمن قتل الكنفاني غسان (غسّان كنفاني). سأسأل الله عمّن أوصلنا إلى هذا الحدّ من الشتات؟ لماذا يعيش سادتنا في النّعيم ونحن نأكل الفُتات؟ سأطلب منه أن يُعاقب كل من يطالبني بالصبر حين يعتلي المنبر ويخاطبني بكل تعالي أن أموت من أجل الوطن. أنا ما خلقت كي أموت من أجل أحد، فما قيمة “الكعبة” دون الطّائفين الرُّكّع السُّجّد؟ ما قيمة الأقصى حين يصلي فيه اليهود؟ ما جدوى الكنائس إن لم تقرع أجراسها مُعلنةً السلام.. سأسأله كيف صارت حارة (عائلة الشرف) حيًّا لليهود؟!

كثيرةٌ هي الأشياء التي أودّ أن أسأل ربي عنها، وحتى التقيه سأعمد إلى الإعلان أنَّنا كلنا من آدم وآدم من تراب، وسأمزّق كل الدفاتر القديمة وألغي كل دستور لا يقرّ بقدسية الإنسان، وبأنِّي سأعتني بورود زرعتها أمي في حديقة منزلنا الصغير، وسأحبّ لجاري – أيًّا كان دينه – ما أحبه لنفسي، وسأتذكّر دومًا وأذكِّر أولادي أنَّ لا عدو لنا إلاّ “بني صهيون” ومن ساندهم على قتلنا ونهب خيرات الأرض التي زرعتها أمي، وسأحمل مقلاعي والسكين والبندقية بيد والقلم بيد لأعيش حرًّا برغم أنف الصهيونية وأعوانها.

يا ذا الزمن العجيب يا أيّها الغادرُ، تذكَّر كما تُدين تُدان وإنَّ غدًا لناظره قريب.. فيا قدس عذرًا، والاعتذار يُشعرني بأنَّني من أمّة العظيم فيها قزم، إلّا الميامين من السادة الأبرار في المقاومة، ويختار الله أهله.. فللقدس مني ومنكم ألف سلام، ونعم للقدس عاصمةً أبديّة لفلسطين، وعاصمة للثقافة العربية حتى التَّحرير.

القدس عاصمة المؤمنين إلى يوم الدّين

بقلم: أيمن قدره دانيال – كاتب وشاعر من سوريا

القدس بوصلة الأمة العربية وقبلتها الأولى وهي مسرى نبي الله محمد (ص)، وصلاة الأنبياء في مسجدها جامعة دليل على أهميتها الدينية وإشارة واضحة إلى كل عربي مسلم يؤمن بالرِّسالات السَّماوية المنزّلة.. على أنَّ القدس عاصمة المؤمنين أجمعين، وتتمثَّل في جوهر الإيمان الراسخ بالله قدسية الأرض ومهد حضاراتنا العربية من سالف الأزمان إلى يومنا هذا. فلا يمكننا إنكار هذه الحقيقة أو تجاهلها أو اللعب في مفهومها على وتر الطائفية والعرقيّة الدينية فقد قال الله عزَّ وجلّ في كتابه الكريم “وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ” (آل عمران: 85). فكان قول الله هو المشرِّع الوحيد لأحقيَّة الأرض المقدسة وتثبيتًا لعقيدة الإيمان بالله، وما ادّعاء اليهود المحتلِّين إلّا ادّعاء زور وبهتان لسرقة ما ليس لهم به وجه حق.

إنَّ القدس بمزيَّتها الدينية ومعالمها الحضارية أساس الحضارات ومنطقها نحو عالم الثقافة العربية والعالمية، وهي عاصمة الأمّة الأبديّة تاريخيًّا وثقافيًّا وحضاريًّا، ولا يمكننا تجاهل ذلك فهو نواة الخلود في أنفسنا والضامن الوحيد لاستعادتها مِمّن قام باحتلالها ويحاول تهويدها وإرضاخ أهلها بقوة السلاح وبالتّرهيب.. وفرض الوصاية عليهم بالقوة القهريّة لسلبهم إرادة الحياة، وانتزاع أرواحهم المؤمنة بأنَّ القدس عاصمة فلسطين الأبديَّة وعاصمة الثقافة للأمَّة العربية.

رغم محاولات المحتلِّ لهدم الفكر الثقافي في عقول أبنائنا لمحو هويتهم العربية واجتثاث أصالتهم العروبيّة وإقناعهم أنَّ التطبيع هو خيارهم الوحيد للحياة، ولا أمل لهم بغير ذلك، فالموت من أمامهم والاحتلال من خلفهم، وليس لهم غير الموت أو القتل أو الاعتراف بكيان غاصب يحتل الأرض وينتهك العرض.. تلك هي سياسة الصهاينة وما اعتدنا على سيناريوهاتها اليومية.. وللأسف باتت تتحقق بمساعدة أشقّائنا العرب مِمّن اعترفوا بأنّ للكيان الصهيوني “دولة”، وباتوا يتعاملون معها معاملة الأخ والصديق الحميم، متناسين أطفال فلسطين وشعبها المكلوم.

إنَّ موقع القدس في أدبنا العربي جزءٌ لا يتجزّأ من تاريخ حضارة العرب، فكم من أديب وشاعر ومثقف جسَّدها بروح النضال والممانعة والمقاومة الفكرية للمحتل الصهيوني.. ومن أبرزهم شاعر فلسطين الكبير “محمود درويش” في قصائده الكثيرة التي عبَّرت عن جذره المتجذِّر في أرضها مع المحافظة على هويته وانتمائه لها، ضاربًا بعرض الحيطان كافة الشعارات المنتجّة في مصانع الاحتلال لهدم كلّ فكر عربي مقاوم لهم، عبر فضح ممارستهم الاحتلالية وأفكارهم الصهيونية المتشدِّدة في تطرُّفها ذد العرب.

وأمثال “درويش” كثيرون في تاريخنا المعاصر مِمَّن حصّنوا فكرهم ضدّ الاحتلال، فبنوا جدار الثقافة في وجه المحتل الغاشم، وأعلنوا عليه حربهم الثقافية بلا هوادة، فكان ما بنوه الحصن الحصين الذي أوقف المد التطبيعي المستعر في حرب ثقافية تحمل في رياح أفكارها روح النضال المقاوم لكل مخطط استعماري جديد يسهم في تدمير الفكر والاستحواذ عليه بكافة الطرق والسُّبل المتَّبعة من قِبله.

ومن المؤكد أنَّ دور المثقف العربي في هذا المنحى لهو دورٌ بارز وفاعل يقتضي منه تفعيل قلمه وتذخيره للوقوف الجاد في وجه المحتل الصهيوني.. رافضًا لكل احتلال، ومستعينًا بكلمات الحق المقاومة لكل فكر يتَّصف بالخيانة والتنازل والجبن والضعف الانهزامي. فحربنا اليوم معهم هي حربٌ فكرية، وهي بطبيعتها أقوى من نيران المدافع ورصاص البنادق وقذائف الطائرات، فالفكرة وليدة الفكرة ولا يمكن لمحتلٍّ مهما علا شأنه من قتلها وإن سعى إلى ذلك مسعى الحالم بالتمنِّي.. فكل حلم واهٍ، وكل أمنية سراب، وتبقى فلسطين حرة وواقع الاحتلال إلى زوال طال الزمان أم قصُر.

لماذا لا نُرسِّخ القدس في كتبنا المدرسيّة؟

بقلم: وليد عبد الحميد العياري – كاتب وشاعر من تونس

كلمة “القدس” تحيلنا إلى معجم القداسة، وبالتالي فالقدس هي أرض مقدسة للأديان السماوية أو لنقل للرسالات السماوية الثلاث وهي: الإسلامية والمسيحية واليهودية، وقد سكنتها عبر التاريخ عدة حضارات كالفرعونية والآشورية والفارسية واليونانية والرومانية..

وقد شهدت حدثًا دينيا عظيما وهو الإسراء والمعراج لسيّد الخلق وخاتم النبّيين والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله تعالى في كتابه الحكيم: “سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ” (الإسراء: 1).

هناك مزاعم بأنّ القدس تحوي الهيكل الذي بناه “سليمان بن داوود” عليهما السّلام، لذلك تشهد القدس يوميًّا حفريات لقوات الكيان الصهيوني بحثًا عن هذا الهيكل اعتقادّا منهم بوجوده.. ويؤمن حاخامات اليهود بأنَّ الهيكل ضمّ قدس الأقداس بحسب نصوصهم الدينية كما يقولون، وكان يحتوي على تابوت العهد ولوحة الوصايا العشر التي أعطاها الله لموسى.. ويقولون أيضًا بأنَّ الموقع كان يضمّ الحجر الذي خُلق منه العالم. ويزعمون أنَّ الحائط الغربي هو آخر أثر من هيكل “سليمان” القائم في موقع الحرم القدسي، وهو مكان مقدس بالنسبة إليهم يمارسون فيه شعائر البكاء حدادًا وكذلك تلاوة الصلاة والرِّثاء، بينما يُسمّيه المسلمون حائط البراق لإيمانهم بأنّ النبي محمد صلى الله عليه وسلم قد ربط البراق إليه في ليلة الإسراء والمعراج.

القدس بالنسبة لي تمثِّل رمزًا للأمة الإسلامية، رمزًا للقداسة، فهي أرض مباركة، وهي أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.. فالله سبحانه وتعالى اصطفاها من دون المدن في العالم الإسلامي ليعرج منها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى السماوات السّبع. فمعجزة الإسراء والمعراج كانت من القدس، أو لنقل من المسجد الأقصى، وهذا دليل على قداسة المكان وسموّه وأرضه الزكيّة الطاهرة عند الله جل جلاله.

فالقدس هي أرض الحضارات القديمة وأرض الأنبياء والمرسلين، هي هبة الله للمسلمين.. يقول المؤرخ الروماني “هيرودوت”: مصر هبة النيل، وأنا أقول: القدس هبة الله للمسلمين.

القدس هي أرض الخصب والنَّماء والجمال والحسن والبهاء، أرض العلم والقداسة والنور والضياء.. اعتبرها كالروح للجسد، وكالرأس للبدن، وكالبوصلة للسفن، وكالقلم للقرطاس.

إنَّ قرار جعل القدس عاصمة أبديّة للثقافة العربية هو قرار حكيم نباركه وندعو إلى تفعليه وتهيئة كل السُّبل والوسائل المتاحة لإنجاح فعالياته وتظاهراته الثقافية والفنية والأدبية والفكرية.. فالقدس تستحق أن نجعلها محور الكون ومحور التفكير والتدبير والتعبير الفني، فهي أم الحضارات القديمة ومستقبل الأجيال القادمة.

من الأفضل والأصحّ والأجمل أن نجعل في مناهج البحث العلمي والتعليم في كل الدول العربية والإسلامية القدسَ محورًا أساسيًّا فتدرَّس كمدينةٍ مقدَّسة، كمحور للكون، وللتَّعريف بالقضية الفلسطينية العادلة وحق الشعب الفلسطيني في بناء دولته وتحريرها من براثن العدو الصهيوني الغاصب.

من واجب المثقف العربي والأديب العربي الكتابة عن القدس في شعره وتضمينها في نصوصه القصصيّة ورواياته، وكذلك الفنان التشكيلي عليه أن يجعلها محورًا لرسوماته وإبداعه الفني.. ومن واجب الفنان المسرحي والسينمائي جعل القدس منطلقا لأعماله المسرحية والتلفزية، فيقع إنتاج مسلسلات وأفلام وثائقية وطويلة تحكي عن تاريخ القدس وفلسطين الأبيّة، وعن المرأة الفلسطينية المناضلة، وعن المقاومة الفلسطينية الباسلة، وكذلك عن عادات وتقاليد المجتمع الفلسطيني وتراثه وحضارته وموروثه الثقافي والفكري وكل جزئيات وتفاصيل يومه المشحون بالنضال والمعاناة في سبيل تحرير وطنه وضمان بقائه وتحقيق ذاته والحفاظ على هويّته وأصالته.

إنَّ تنظيم التظاهرات الثقافية في الدول العربية من شأنه أن يرسِّخ حبّ فلسطين لدى الناشئة، والتعلُّق بالقدس كعاصمة له، وجعلها محفورة في وجدان الشعوب العربية وفي فكر كل عربي حر.

إنَّ جعل القدس عاصمة أبديَّة للثقافة العربية من شأنه أن يحارب كل أشكال التطبيع الثقافي والاقتصادي وغيره لدى بعض الدول العربية، وكذلك إحراجهم والسعي إلى نهيهم وإبعادهم عن هذا الكيان الغاصب الذي يسعى إلى التَّطبيع بغية تحقيق أهدافه لأجل بناء الشرق الأوسط الكبير.. بالثقافة والفكر والفنون نستطيع محاربة كل أشكال التطبيع ودعم القضية الفلسطينية.

إنّنا نعيش الآن حربًا إعلامية، وهنا نجد صراع الحضارات والأديان، والكلمة والقطعة الموسيقية واللوحة الفنية والسينما والأعمال المسرحية وغيرها من الفنون قد وُجدت للتَّعبير عن حبّنا ودعمنا للقضية الفلسطينية العادلة وعن تكريس ثقافة المقاومة بالفن.. فنجد شعر المقاومة وأدب المقاومة وغيرها من التّسميات والتظاهرات الثقافية في عدّة دول عربية.

في الأدب العربي الرّاهن، لم نجد موقعًا كبيرًا للقدس إذ أنَّ الأدب قد دخل في دائرة المسابقات والجوائز المشبوهة آلتي تنظِّمها دول مطبِّعة مع الكيان الصهيوني، وبالتالي فالقدس لم تحظ بعد بالمكانة التي تستحقُّها، وكأنَّني ببعض الكُتّاب يجدون حرجًا أو خوفًا في الحديث عن القدس في كتاباتهم أو جعلها منطلقًا أو محورًا لرواياتهم وأعمالهم القصصيّة أو الشعرية.. ربّما الشعر كان أكثر جرأة وشجاعة في جعل القدس الفلكَ الذي تدور حوله النصوص والقصائد.. إلّا أنّنا نستثني من ذلك الأدب الفلسطيني.. وأخيرًا حازت رواية فلسطينية على جائزة، والحال أنَّ كاتبها قيد الأسر.

إنَّنا اليوم في حاجة ماسّة إلى أدب يتحدّث عن القدس وتكون هي محوره وفلكه. فالقضية الفلسطينية هي قضية الجميع والقدس هي محور الصراع العقائدي والحضاري والوجودي، ووجودها في الأدب العربي الراهن من شأنه أن يكرِّس ويرسِّخ لدى الأجيال القادمة حبّ فلسطين، ودعم المقاومة ومحاربة كل أشكال التَّطبيع.

إنَّ دور الأديب العربي مهمٌّ جدًّا وفعّال في مقاومة تهويد القدس والحفاظ عليها كبوصلة للروح العربية.. والأديب العربي وجب عليه أن يُضمِّن في كتاباته كل ما من شأنه أن يخدم الهوية الإسلامية والعربية للقدس.. فهنالك محاولات متعدّدة ومتكررة تسعى إلى نزع الهوية الإسلامية التاريخية عن القدس، وفرض طابع مستحدث جديد وهو الطّابع اليهودي. وبالتالي، فإنَّ دور الأديب العربي هو الكتابة عن القدس كمنارة علم وثقافة إسلامية وحضارة وهوية عربية وترسيخ ذلك في ذهن القارئ والمتلقّي العربي. 

حماية القدس مسؤولية كل العرب

بقلم: جهاد محمود النوري – كاتب وإعلامي فلسطيني من قطاع غزة

لا يختلف اثنان على أنّ القدس ليست مجرد مدينة، بل هي رمزٌ ديني وحضاري وثقافي نابض، يختزل تاريخًا طويلاً من الصمود والنضال.. فهي حاضنةٌ للديانات السماوية الثلاث، وقِبلة المسلمين الأولى، ومهد المسيح عليه السلام، ومدينة داوود عليه السلام. القدس، بمعالمها المقدسة وأزقتها العتيقة، تحمل في طيّاتها حكايات الأنبياء والأولياء والشهداء، وتختزل حكاية شعبٍ يناضل من أجل حريته واستقلاله.

إنَّ إقرار المثقفين العرب بأن تكون القدس عاصمةً أبديّة للثقافة العربية ليس مجرد فكرة طيبة، بل هو اعتراف بواقع تاريخي وحضاري راسخ. فالقدس، منذ فجر التاريخ، كانت ولا تزال مركز إشعاع ثقافي وحضاري، أسهم في تشكيل الهويّة العربية والإسلامية.

ولم تكن القدس غائبة يومًا عن الأدب العربي، بل شكَّلت مصدر إلهام للشعراء والأدباء والكُتّاب على مرّ العصور. فمنذ قرون سحيقة، تغنّى الشعراء بقدسيّتها وقداستها.. واحتلّت مكانة خاصة في الأدب العربي، حيث تغنّى بها كبار الشعراء.. وفي العصر الحديث، لم تغب القدس عن قصائد: محمود درويش، وسميح القاسم، وتوفيق زياد وغيرهم من شعراء المقاومة الذين عبَّروا عن حبّهم لها وعن حزنهم على ما تعرّضت له من انتهاكات.

إعلان القدس عاصمة أبديَّة للثقافة العربية يحمل دلالات رمزيّة عميقة، فهو يؤكد على عروبة المدينة وهويّتها الفلسطينية، ويضعها في قلب المشهد الثقافي العربي. ويُعتبر هذا الإعلان بمثابة تحدٍ لمحاولات الاحتلال الصهيوني طمس الهوية العربية للمدينة المقدَّسة وتغيير معالمها التاريخية والحضارية. كما يعكس المكانة المركزية للقدس في الثقافة العربية والإسلامية، ودورها التاريخي كحاضنة للتراث الديني والثقافي والحضاري. ولا يمكن إغفال أهمية هذا الإعلان كرسالة دعم للشعب الفلسطيني، وتأكيدًا على صموده في وجه الاحتلال ومقاومته لسياسات التّهويد.

على الرّغم من قوة الرمزيّة وأهميّتها، إلّا أنَّ تحويل إعلان القدس عاصمةً للثقافة العربية إلى واقع ملموس يواجه تحدّيات كبيرة. أولى هذه التحديات تتمثل في سيطرة الاحتلال الصهيوني على المدينة، وفرضه قيودًا مشدَّدة على النشاطات الثقافية الفلسطينية. كما أن سياسات التهويد الممنهجة التي يمارسها الكيان الصهيوني، من خلال تغيير معالم المدينة وبناء المستوطنات وتهجير السكان الفلسطينيين ومصادرة الأراضي والممتلكات، تشكِّل عائقًا كبيرًا أمام أيّ مشروع ثقافي عربي في القدس. يُضاف إلى ذلك، استهداف المؤسسات الثقافية الفلسطينية في القدس بالمضايقات والاعتقالات والإغلاق، ممّا يعيق عملها ويحدُّ من تأثيرها.

ويبقى هنا دور محوريٌّ للأديب العربي في مواجهة تهويد القدس والحفاظ عليها بوصلةً للروح العربية في أن يكرِّس إبداعه وقلمه، في تجسيد معاناة الشعب الفلسطينيّ ونضاله من أجل تحرير القدس، وأن يُخاطب الضمير الإنسانيّ ويُحرّك المشاعر تجاه هذه القضية العادلة.

كما أنّ حماية القدس مسؤوليةٌ مشتركةٌ تقع على عاتق كلّ عربيّ، بشتّى الوسائل والمجالات، فبالإضافة إلى دور الأديب، يجب على كلّ فردٍ منّا أن يساهم في الحفاظ على هذه المدينة المقدّسة، ونقل إرثها الحضاريّ إلى الأجيال القادمة.

القدس جوهرةٌ فريدة في أدب المُدن

بقلم: سامر المعاني – كاتب من الأردن

القدس كانت وما زالت سيّدة الحضور والدّهشة، وأيقونة العشق والاشتياق، ومحجّ العرب والمسلمين، فهي قبلتهم الأولى ومسرى نبيّهم وحجّته.

القدس، الكتاب المفتوح الذي سطّرت الأقلامُ على مرّ العصور لتملأ الدنيا زينتها وحضورها.. فكما ترتقي بقيمتها الدينيّة والتاريخيّة والجغرافية، فهي أيضًا مدينة من أقدم المدن الشرقية حضارةً ونموًّا وازدهارًا.. وتعاقبت عليها حضارات العالم.

في البحث وتعاقب الحضارات، كُتِب في القدس ما لم يُكتب في مدينة أخرى من كل جنسيات العالم.. من العلماء والمستشرقين والمترجمين على اختلاف الأفكار والأهداف والغايات، كما كتب الكُتّاب العرب في القدس لمكانتها وجمالها والظروف التي عاشها أهلها ما لم يُكتب في أيّ مكان عربي آخر.. فكانت الأرض والروح والهوى والشوق، كما كانت الحزن والشهادة والثورة والحصار والصلاة والتحرير والأمل والرجاء.

ومن الجانب الإبداعي والتَّنموي والتّربوي، كانت القدس المكان الإسلامي والمسيحي والعربي الذي لا يغيب في المطلق، فهناك المؤلَّفات الكاملة والجزئية والأعمال المنفردة، كما أنّ هناك مواد تربوية تعليمية ومواد متخصّصة وشهادات عليا حاضرة القدس فيها.. كما أنَّ القدس احتلَّت مكانة كبيرة في الشعر والمسرح والخاطرة والرواية والقصة العربية، وهناك بعض الكُتَّاب من اختصّ في الكتابة عن القدس والمسجد الأقصى.

ومن وجهة نظري، بما أنَّ القدس هي أكثر مدينة تغنَّى وكُتِب عنها في الأدب العربي المعاصر، وبما أنَّها القضية الأولى عند كل العرب، ولمكانتها الدينية والتاريخية.. يجب أن تكون قنديلاً متوهّجًا دائمًا وأبدًا لتكون حاضرة في كل وقت وحين.. أن تكون عاصمة الثقافة العربية، ويتمُّ تخصيص جوائز دولية تحمل اسمها كي تبقى قبلة الشباب العربي، وتكون في فكرهم وحياتهم المدينة العربية التي تعاني بطش الاحتلال والحصار والتَّهجير.

القدس منبع الثقافة الإنسانية

بقلم: ختام زاوي – كاتبة من تونس

يظل مثقف هذا العصر في تجاذب كلي بين المبادئ وقوة الواقع، وهو محصور الآن في ظل صناعة المحتوى الرقمي والذكاء الاصطناعي كآلية توجيه وسيطرة.

وهو مثقف مبرمج.. مسيّس بل “روح غبية” مرسومة في مخطوط يسدّ عليه الآفاق ويكسر نظام الثقافة الواعية بآلام الشعوب. ولعل مفهوم المثقف في معناه الأساسي يعاني تضاربًا شديدًا في النُّصوص، وحتى إن وضعنا المجهر على الحقيقة نلاحظ أنَّ هذا المفهوم مُستوحى من إشكاليات فلسفية بحتة وتساؤلات تدعونا إلى الانفراد والتأمّل في العمق وفي الأصل والجوهر. فكيف ستصارع هذه الروح التّسييس لتطهير الكون من الأعراف المبرمجة؟ كيف يكون المثقف قويًّا ومطوّرًا؟ كيف سيكتب التاريخ ويحافظ عليه؟

كما قلنا أنَّ المثقف يظلّ حبيس الواقع الأكاديمي أو العقليّة الأكاديميّة ورفوف المكتبات بدلاً من أن يحوّل تجاربه إلى واقع ملموس ومطوَّر، بل ببساطة هو الذي يعمل على إنتاج قيم وأساليب إنسانية وإجتماعية متتبِّعًا لكل الحركات الثقافية والقومية والعالمية من أجل إغناء خبرته حتى تزداد صلابة أمام تحدِّيات عناد الواقع الذي يبقى أسير الرُّؤى الجاهزة القائمة على استحضار سلطة العادات والتقاليد والإستعمار والديكتاتورية والتمييز العنصري والإبادات العرقية …

وكيف سيبني هذه التأمّلات في النّخبة ثم في العامة وفي الشعب كاملا؟ كيف يحفظ كرامته ويكتسب حريته وحقّه الطبيعي دون إقصاء؟

الجواب عن تلك الأسئلة، بالوعي بقيمة الذات واختلافها وتقبّلها لاختلاف الغير.. والتّعايش السلمي وأن يعشق المثقف السلام كأعلى قيمة إنسانية ويحمل في قلبه رسالة من العقلانية والإنسانية يسعى إلى نشرها بكل وسيلة ممكنة بهدف العبور إلى عالم خال من الحروب، ويستمدّ هذه القيمة من “التقديس” أي تقديس الدين كدافع ربّاني لتخليص نفسه وشعبه والعالم من التّهميش.. أي أنّه يربط أفكاره واستنتاجاته بالتاريخ الديني وبالنص الديني وأفكار العلماء والأحاديث وبالشريعة كي يصفو الإنتاج وتحدث التغيرات الإيجابية للكون ولكن، من المهمّ أن يكون هذا المثقف أو الشعب المثقف ككلٍّ واعيًا بقضاياه..

وها هو الشعب الفلسطيني النَّاطق بأسم الحرية العربية واعيًا بقضية الإحتلال الصهيوني لأراضيه متشبِّثًا ومتشبّعًا بالدين وبالدين..

ولكن لنضع المجهر على ثقافته المقدسيّة وعلى القدس الشريف، وكيف كانت شرارةً لحضارة متواصلة تنضح بأسرار وجودية وإشارات الأنبياء الموحدة، منها الإشارات الآدمية ثم الموسوية ثم العيسوية ثم الإبراهيمية ثم اليوسفية ثم المحمدية، فكانت القدس مدينة علم وثقافة، ونشأت فيها المدارس الفقهية والصوفية..

وقد ورد لفظ “القدس” لما يكنه من معاني فريدة عشرون مرة في القرآن الكريم، ومرّتين “القدوس”، ومرتين في صفة “المقدس”، صفة الوادي.. فالقدس مقدّسة مثل الأرض وحلقة اتّصال بين الأرض والسماء، وقد ذكرت في القرآن أربعمائة وخمس وستين مرة.  كانت القدس أرض كل الأديان فهي مباركة ومن أهم مدن فلسطين، وفلسطين قلب الشام، وهي مبعث الأنبياء ومهبط الملائكة وقد صلى فيها الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد الأقصى..

وقد وضَّح لنا “الغزالي” في كتاب “معارج القدس في مدارج معرفة النفس” أن فيها تجلٍ للنبوّة ومأتى الرسالة وبها تُعرف الذات الإلهية والدين.. وبالتالي فهي مزدهرة في كل المجالات، في الشعر والرواية وفي الجداريات واللوحات وفي السيرة الذاتية؟

كما ذكرَت الأحاديث النبوية على آثار الصحابة والتابعين أنّ فضائل القدس كثيرة، وأنّها مزدهرة حضاريًّا رغم اختلاف الظروف وتبدُّل العصور واستعمار الأقطار واحتلال المدن..

ولكن، هل من الممكن أن يعود للقدس اليوم لقب عاصمة أبديّة للثقافة العالمية؟ هل يعترف بها العالم المثقف كأيقونة وشعلة مستمرة في عالم الثقافة والتطور العقلي؟

لقد تمّ إعلان القدس عاصمةً الثقافة العربية لعام 2009 ببيت لحم وعدة مدن بالضفة الغربية بعد منع الاحتلال للاحتفال بهذه المناسبة واعتقل عددًا من المسؤولين عن هذه الاحتفالات.. وتلك هي مآرب المحتلّ في تسييس الوضع لصالحه والضغط على العقول حتى إفراغها والإصرار على منهجيّة التّشويه والتّحريف.. أمّا المأساة الحقيقية أنه نجح إلى حدّ مدى في فرض السياسة التي يريدها..  لذلك لم تعد الشعوب العربية متفاعلة تاريخيًّا، خاصة بعد اهتزاز الأنظمة وسقوط بعض عروشها، فكان الانحياز إلى مدّ يد السلام مع المستعمر أكثر من التضامن الفعلي والشرس مع فلسطين المنكوبة..

لكن هذا لا يعكس أبدًا صلابة القدس في التكيُّف مع وضع الاحتلال، والجهاد بالقلم وبالسلاح، وبنشر ثقافة التعليم والمقاومة المستمرة، فموت المقاومين الأجداد لا يعني أبدًا عدم ولادة مقاومين آخرين، بل إنّ الأرض تخلق ما تشاء من أمثال صلاح الدين الأيوبي والأبطال العرب والمسلمين..

لذلك حان الوقت لتمجيد هذه الحضارة الموروثة والكتابة عنها.. والتأكيد بأنّ القدس هي منبع الحضارة والثقافة الإنسانية.

القدس عاصمة الثقافة الإنسانيّة لكل العصور

بقلم: شَوْقِيّة عروق منصور – شاعرة من فلسطين

تقف “القدس” لوحدها ما بين تاريخها الموعود بالقدسية والاعتزاز والفخر والنضال والكفاح والألق النّازف من حجارتها وأسوارها المنتفضة، وبين بلاط طرقاتها الذي ينبض بخطوات الزمان مصمِّمًا على عدم احتضان النِّسيان.

تقف “القدس” لوحدها حيث تتساقط التَّنهدات، وتلوك بأسنانها البلوريّة العجزَ العربي الممتدَّ في أنحاء الفضاءات الناطقة بالأبجدية العربية والتاريخية والدينية.

تقف “القدس” لوحدها مكتنزة بالمسافات وألوان القهر ومرايا الزمن المعتم، تتعطَّر بعطر الغربة وتدخل في قواميس البدء وسِفر الوطن الذي يملك ذاكرة الأحلام وثرثرة الوجوه التي تشرب فناجين قهوتها أمام قارئات الكفّ والتّفتيش في الأبراج الفلكيّة.

“القدس” قميص الغرور الذي يرتديه الزمن مهما حاولوا نزع أزرار العشق وصبغ شعر الشّيب، ستبقى وطن الروح وفرح الصوّر العتيقة.

“القدس” وحدها قاع جنون السياسيين وطقوس سراديب مواسم التّيه العربي، هي وحدها الفجر الذي يناجي التاريخ ثم يصهل ويرجع إلى أغنياته الحزينة التي تشكو من الأيدي المبتورة التي تصرّ على النعيق في قاعات المؤتمرات التي تردِّد كل الحقب الزمنية،  والكلمات راقصة غجرية تتلوّى على السطور الوهميّة كاشفةً عن أقدامها العاجيّة.. المّسجَّل على شرايينها ويلات التنازلات الحقيقيّة.

“القدس” من أبجديات للغة وزفرات الكتب والمجلدات والقصائد العصماء، من بين تجاعيد الوجوه وابتهالات المصلّين، وعناق الشمس مع الأحلام.. يخطو الحاضر ملفوفًا بالنسيان، يمشي على إيقاع “أجراس الغفوة”.

“القدس” من أوجاع الأيّام ومن أعراس الخطابات السياسيّة التي تشعل الميكرفونات وتطفئ أنفاس الواقع الموعود بعذاب التجاهل والهروب،  ومن توهّج الأجيال نسمع صوت الانتحاب…

فوق عرش التاريخ وتحت عباءة الذاكرة، نواصل التَّحديق في خارطة مدينة “القدس” التي تتنفَّس تنفُّسًا اصطناعيًّا، ويندلق من بواباتها وأسواقها وبناياتها ووجوه سكانها.. الدمع، وتفوح من جدرانها رائحة الأجنحة الشامخة المعلَّقة فوق ظهور النساء والرجال والأطفال.

حين تنزف جراح “القدس” لا ندخل أقفاص الهروب، بل نتغذى على ورق المطابع ونشرب حبر الصدق ولا نصاب بالاختناق، بل نعلنها بكل صراحة الصدى ورفضًا لمنطق الصمت واستكمالاً للحكايات المستيقظة.

“القدس” عاصمة الثقافة العربية الأبديّة، ليس لأنَّها البوصلة، وليس لأنَّها صرخة الاستنجاد الذي يقبض على العدل ويسجنه في مجاهيل مستنقعات الأمم المتحدة..

“القدس” عاصمة الثقافية العربية الأبدية، لأنَّها حنجرة التاريخ المجبولة بالعشق التي تنطلق منها عصافير الفجر.

أيّها الكتّاب.. خذوا من القدس ثباتها وصمودها وتاريخها

بقلم: مي محمد توفيق صالح – كاتبة من الأردن

القدس مدينة السلام التي ظلّت عبر التاريخ منارة للسّالكين ومرشدًا وملهمًا للإنسانية، القدس التي شرّفها الله بالمسجد الأقصى مسرى الرسول عليه الصلاة والسلام ومنه عُرج به إلى السماء في ليلة الإسراء والمعراج في قوله تعالى: “سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ” (الإسراء: 1).

القدس علّمت ولا زالت تعلّم الناس المحبّة والوعد والسلام، حاوية للكثير من الأديان الذين يعيشون بسلام، ولا تعرف التمييز والكراهية.

القدس علّمت الدنيا الصبر والثبات، بداية ونهاية التاريخ، بوابة الأديان والثبات والصمود والنضال، فحُقّ لها أن تكون عاصمة للثقافة العربية.. فثقافة الحب والإنسانية خرجت من القدس، وكلّ ثقافة معلِّمتها القدسُ، فحروفها الخير والمحبّة.

القدس كتاب ألّفه الكون والتاريخ فكان الباحثون عن كلّ معنى خير يقرؤون في كتاب القدس لينهلوا معنى ثقافة البطولة وتسطير تاريخ مملوء بالكرامة، فلماذا لا تكون القدس عاصمة للثقافة ومنبع لها؟

أيّها الكتّاب:

خذوا من القدس ثباتها وصمودها وتاريخها وسطوتها في كل مفترقات التاريخ القديم والحاضر، خذوا من مآذنها وكنائسها الكبرياء والعلو والسموّ حين تنادي بسم الله، فترتوي بأقلامكم السماء، ويهطل غيث إبداعكم ليمكث بالأرض والإنسان، فلتجعلوا من أقلامكم سلاحًا يطلق برصاصه الثقافة لتعمّ الأركان.

ولا بدّ من تعزيز توأمة الثقافة الأدبية بينها وبين جمهور العالم لتنكشف الحقيقة بثبات أقلام كلّ كاتب حتى لا تطغى أقلام العدوّ الغادرة المزوِّرة لكلّ حقيقة، لذا وجب علينا جميعًا أن نشحن الهمم ونبوح بأقلامنا بالحقائق الثابتة، وعلى الأقلام أن تكتب عن نساء القدس الصّابرات المؤمنات، وعن أطفالها ورجالها وأبطالها.. وأن نعرّف العالم أجمع بثقافة القدس العربية الفلسطينية ومكانتها الدينية والتاريخية، وتنمية الفكر الثقافي والوعي الأدبي لمواجهة الدعايات الكاذبة والزائفة، ولا بدّ من إعادة تأهيل قيمة التراث الفلسطيني والتاريخ المشرّف للقدس وكلّ بقاع أرض فلسطين.. نعم حُقّ للقدس أن تكون عاصمة للثقافة العربية والإسلامية والعالم أجمع.

أيّها الأدباء العرب كونوا مقدسيّين

بقلم: محمد خالد النبالي – أديب وشاعر من الأردن

القدس مدينة مقدسة للأديان السماوية، تُعتبر واحدة من أقدس المدن في العالم، ويرتبط اسمها بالروحانية والتاريخ والتنوع الثقافي. يُعتبر موقعها في فلسطين التاريخية رمزًا للسلام والتسامح والتعايش بين الأديان.. القدس مدينة عربية إسلامية بامتياز، تمثل قيم العدالة والإنسانية والتعايش بين الشعوب، وتعدّ بوصلة الروح والسلام بين المجتمعات المختلفة في هذا العالم المتنوع والمتعدِّد الثقافات.

كان الاستعمار البريطاني للقدس وفلسطين بشكل عام يهدف إلى فرض الهيمنة على المنطقة والسيطرة على مصادرها وثقافتها، وقد استخدمت القوات البريطانية القوة والعنف لتحقيق أهدافها، وقامت بإجراءات تهدف إلى تعزيز نفوذها والحدّ من نفوذ العرب والمسلمين في المنطقة، وكانت هذه الإجراءات تشمل تقييد حركة السكان الفلسطينيين وإحباط جهودهم في المقاومة ضد الاحتلال، بما في ذلك حظر الاجتماعات السياسية والنضال الوطني.

وبالنّظر إلى ما حدث في القدس خلال الاستعمار البريطاني وبتأثير “وعد بلفور” على المنطقة، يمكن القول إنّ القدس اليوم لم تعد تشبه القدس التي كانت في السابق، فقد تمّ إعادة تشكيلها ومحاولة تشويه هويتها العربية والإسلامية، وما زال المدّ الاستعماري البريطاني متواصلاً من خلال الاستعمار الصهيوني، ممّا يجعل القدس أصعب نقطة ساخنة في العالم..

إنَّ القدس تعتبر مدينة ذات أهمية كبيرة على الصعيد الثقافي والديني والتاريخي، ويجب المحافظة عليها كموروث حضاري عظيم، وعدم السماح بتشويه هويتها وتدنيس مقدساتها، يجب على المجتمع الدولي أن يتحرك لوقف الاحتلال الصهيوني والدفاع عن مدينة القدس وشعبها الفلسطيني، وتحقيق السلام والعدالة في المنطقة.

في الثقافة العربية، تحتل القدس مكانة خاصة ومميزة، فهي رمز إسلامي بالدرجة الأولى وللوحدة العربية والتسامح الديني والحضارة الإنسانية.. ويُعبّر الشعراء والكتاب والفنانون العرب بكل حب واشتياق عن جمال وروعة القدس في أعمالهم المختلفة.

في الشعر العربي، يتناثر الحب والاعتزاز بالقدس في قصائد طُرقت بأسلوب شعري مميز يجمع بين الجمال والعمق. وفي الأدب والموسيقى والفنون التشكيلية، تُترجِم أعمال العرب تاريخ القدس وتأثيرها الثقافي والديني في إبداعاتهم.. بهذه الطريقة، يعبر العرب عن احترامهم وتقديرهم لمدينة القدس وتراثها العريق، إنّها ليست مجرد مدينة بالنسبة لهم، بل رمز للحضارة العربية والتسامح الديني والوحدة العربية التي يحافظون عليها ويعربون عن ارتباطهم الروحي بها بكل فخر.

بوجود القدس عاصمة لدولة فلسطين، سيكون لها تأثير كبير على الحياة الثقافية والفنية في المنطقة، ستقوم القدس بدور مهم في تحفيز الفنانين والمثقفين العرب على دعم القضية الفلسطينية ومقاومة محاولات التهويد والتشويه للهوية الوطنية الفلسطينية، مما سيسهم في تعزيز الوعي بالقضية ونقلها بشكل إيجابي للجمهور العربي..

علاوة على ذلك، ستلعب القدس دورًا مهمًّا في إثراء المشهد الثقافي العربي، حيث ستشهد مختلف الميادين الثقافية مثل المسرح والسينما والتلفزيون ابتكارات وأعمال فنية تعبر عن الهوية الفلسطينية بشكل مباشر، وبذلك سيتم تسليط الضوء على التراث الثقافي الفلسطيني وتعزيز الوحدة والانتماء الوطني.

تَصّوري لدور الأديب العربي في مقاومة تهويد القدس والحفاظ عليها يتمثل في تعزيز الوعي العربي بأهمية القدس والدفاع عنها بكل الوسائل الممكنة، والأديب العربي يمتلك القدرة على صياغة الكلمات بشكل يعبِّر عن الشعور العميق بالانتماء للقدس والدفاع عنها..

أمّ البدايات والنهايات..

هل تُتوّج القدس ملكة على عرش الثقافة العربية؟

بقلم: مروى فتحي منصور – روائية وكاتبة من جنين – فلسطين

المكان أساس التَّمكين المعرفي والثقافي

في كل عام يتمّ اختيار مدينة عربية لتكون عاصمة للثقافة العربية، وعاصمة الثقافة العربية هي مبادرة لليونسكو، بسعي من المجموعة العربية فيها خلال اجتماع اللجنة الدولية الحكومية العشرية العالمية للتنمية الثقافية 1995، وتمَّت الفكرة واقعًا سنة 1996، ومِمَّا لا يخفى على أحد أنّ الجانب الثقافي للشعوب هو الذي يخلِّد تطوُّرها الحضري والإنمائي، ويشكِّل المجتمع الذي يبلور خطط التنمية الشاملة واقعًا ملموسًا وتاريخًا مشرّفًا ومستقبلاً واعدًا.

ولا يخفى كذلك تأثير المكان على الفرد والمجتمع، فلكل مكان خصوصيَّته التي تمكِّن أفراده من التّفاعل الإنساني مع بقيّة الجوانب والعناصر والمكوّنات المحيطة به، فيضحى منتِجًا للمعرفة تارة ومعبّرًا عنها ومتفاعلاً معها… فالمكان هو أساس التَّمكين المعرفي والثقافي، ومن هنا جاءت هذه المبادرات التنموية في تفعيل المكان والمدن والعواصم لرفد المخزون الفكري والثَّقافي والتَّوعوي والحضاري والعلمي بمقومات نمائه وإبرازه على المستوى المحلّي والدولي وتتويجه وكسب الدعم المادي والمعنوي لاستمراره.

فكرة “عاصمة الثقافة”..

وعاصمة الثقافة تقوم فكرتها على تسليط الضوء على المكانة والقيمة الحضارية للمدينة المستضيفة في ذلك العام، ولا شك أنَّ جميع المدن تتسابق لاحتضان الفعاليات الثقافية والرياضية والعلمية بكافّة تجلِّياتها لما في ذلك من فوائد تعود على المدن المستضيفة اقتصاديًّا وسياحيًّا وثقافيًّا وإعلاميًّا، ولأثر ذلك على دعم تلك القطاعات من جهة، ومن جهة أخرى فتح آفاقٍ أمامها، وخطوة في الدّرب الصحيح لتحقيق انفتاحها على ثقافات العالم وحضاراته والحوار معها في سبيل دعم الإبداع الفكري والثقافي وعكس صورة حقيقية عن عادات شعوبها وتقاليدهم وقيمهم، والتَّصالح مع التوجُّهات الثقافية الأخرى وأسلوبها، وترسيخ مبادئ التّسامح والتقبُّل.

تجربة القدس عاصمةً للثقافة العربية

في سنة 2006 اتّخذ وزراء الثقافة العرب المجتمعون في مدينة “مسقط” قرارًا يقضي بجعل “القدس” عاصمة للثقافة العربية لسنة 2009، ولا بدّ من وجود معايير يسير عليها النسق الثقافي العام لتحديد عاصمة الثقافة العربية، أهمّها برأيي التاريخ الحضاري للمدينة، والحاجة العامة للتنمية والتطوير المستدام في تلك المدينة، بهدف إنشاء علاقة طويلة وفعّالة بين الثقافة والمجالات الأخرى، من سياسة واقتصاد وسياحة وتعليم وفن، فما بالك إن كانت جميع تلك القطاعات محكوم عليها بالإبادة بسبب الاحتلال، وتتعرّض إلى أشرس حملة طمس هوية في العصر الحديث بسبب سياسة التهويد والتّهجير للسكان الأصليين، فلا يوجد محتوى وجدول أعمال ومشروع ثقافي وملف يمكن أن ينفَّذ في أي مدينة أكبر من ملف الحق في الحياة والوجود، ملفّ الهوية العربية.

ومن تجربة اتخاذ القدس عاصمة للثقافة العربية لسنة 2009، نجد أنّ الأمر لم يكن سهلاً، فهي مدينة محتلَّة ومحاصرة، ممَّا وضع العقبات والمصاعب والتحدّيات أمام المكان الذي ستنطلق منه الفعاليات الثقافية، حيث أنّه من أبرز أهداف تلك الفعاليات إظهار حضارة المكان، وإن تعذَّر علينا أن نحقق هذا الهدف فلنظهر قضيّته، ولتستنفر العواصم العربية لتكون مقرًّا دائمًا في إثبات الهوية العربية والإسلامية والحضارية والتاريخية لبيت المقدس وأكناف بيت المقدس، ولتكون القدس عاصمة الثقافة العربية الدائمة حتى النصر والتحرير والاستقلال المبين.

لماذا لا تكون القدس مركزًا معنويًّا للثقافة العربية؟

جميع العواصم والمدن العالمية هتفت لـ “غزّة” ورفعت راية فلسطين خفّاقة في فضائها الثقافي والإعلامي تضامنًا ذدّ حرب الإبادة الضروس التي شنّها ويشنّها الكيان الصهيوني على أبناء الشعب الفلسطيني بعد “طوفان الأقصى”، أيستكثر العالم العربي على قضية الهويَّة والوجود أن تكون مركزًا معنويًّا لفعالياته الثقافية، وإن لم يكن خدمةً ووفاءً للقضية الفلسطينية فليكن انسجامًا مع عاطفة الشعوب العربية وانتمائهم لعروبتهم، وعقيدتهم التي تقدِّس “القدس” كوجهة وقيمة دينية، وتعاطفهم مع شلاّل الدم الفلسطيني الذي سقى الأرض وحمى العرض.

ليت قومي يعلمون!

يكفي أن يتذّكر العالم أنّ فعاليات عاصمة الثقافة العربية لا تسير على خطى غيرها من العواصم الثقافية، فهي مدينة محتلَّة، ويكفي أن يتردَّد في الأروقة العلمية والثقافية العربية والعالمية بأنّ القدس عربية، كردٍّ على سياسة التهويد التي تنتهجها سلطات الاحتلال في المدينة.

لو عرف كل عربي كيف يستنفر ممثِّلو الكيان الصهيوني في كل العالم والمنتمين إليه حيال المصطلحات وحدها.. لعلَّمهم اليقين بتأثير الكلمة على التاريخ والوعي الفردي والجماعي، وأخذوا هذا الاقتراح الذي نادى إليه المثقفون العرب بجعل القدس عاصمة أبدية للثقافة العربية على محمل الجدِّ وتحمّسوا له، وأعدّوا ونفّذوا.. فلولا تأثيره القوي ما استنفرت إدارة الكيان الصهيوني في سنة 2009، عندما تمَّ اختيار القدس عاصمة للثقافة العربية، ومنعت الفعاليات من التنفيذ على أرض القدس، وأطلقت الاحتفالات بذكرى قيام “دولتها” الهمجية الوهمية متزامنا مع تلك الفعاليات كردٍّ كيدي لطمس الهوية العربية الفلسطينية للمدينة.

تأصيل الهويّة العربية للقدس واجبٌ ديني

لن نحوِّل هذا المقال إلى خاطرة تتغنّى بمدينة “القدس” وسحرها وجاذبيتها وأهميّتها الدينية والتاريخية؛ لأنّه من المفترض أن يكون ذلك هو المحور والمركز الذي يطوف حوله الكُتَّاب والمثقفون والفنانون في كل العالم على اختلاف أدواتهم واتّجاهاتهم؛ فالقدس هي المدينة التي شهدت أقوى صراع حضاري وعسكري وثقافي عبر العصور، ويقع على عاتق كل حرٍّ شريف إثبات عروبتها وأصالتها الإسلامية ومركزيتها؛ فهي أمّ البدايات وأمّ النهايات، والمدينة التي تتطلع إليها جميع الديانات السماوية في رواياتهم البعثيّة، فحسب اعتقاد هذه الأديان أنّها المركز الذي يستقطب الخير ويطرد الشر في نهاية العالم على اختلاف تفاصيل تلك الروايات، إلّا أنّها احتفظت بهذا الخيط الرّفيع والمهمّ في رواياتها، فالقدس تحمل رمزية دينية في وجدان العرب؛ فهي أولى القبلتين وثالث الحرمين لدى المسلمين، وهي للمسيحيين الإنجيل الخامس، وفي دروبها سار المسيح حاملاً صليبه، فالدعوة إلى نشر هويتها الدينية هو واجب ديني.

ترجمة الغضب إلى أعمال

كما يقع على عاتق المثقفين العرب تقديم الصورة الحقيقيّة للحضارة المقدسية ذات المنزع الإنساني المتعايش والمتسامح والذي يحوي في بيئة واحدة أبناء الديانات الثلاث جنبًا إلى جنب في مجابهة أخطر حركة معادية للإنسانية وهي الصهيونية، هذه الصورة يصبح من الملحّ حملها إلى العالم وخصوصًا بعد جرائم الصهيونية المتراكمة في الحرب على “غزّة” وغيرها من المدن الفلسطينية في عام 2023-2024، تحديدًا والتي لم يحاسب عليها الكيان الصهيوني إلى الآن، وذلك من خلال إبراز المضامين الثقافية والقيم الإنسانية لهذه الحضارة، ورفع شعارات وتحقيق فعاليات دولية باسم العرب للدعوة إلى الحوار بين الثقافات والحضارات، وإشاعة قيم التعايش والتفاهم بين الشعوب في هذه المرحلة الخطيرة التي يمرّ بها العالم اليوم وهو يشاهد مدينة حضارية كالقدس تُطمس معالمها العربية والإسلامية وتُقام أخرى مكانها بغير وجه حق. وعلى الشقّ الآخر، يشاهد دماء الأطفال تسقي الأرض والأرواح، والآمال تتشكّل سُحبًا في سماء “غزّة”.. تمطر على العالم آخر قطرات الإنسانية في نزاعها الأخير، كل ذلك يستدعي حثّ المجتمع الدولي من طرف الجهود العربية المتظافرة ثقافيًّا على شتى المستويات من أجل إنقاذ الإنسانية مِمّا آلت إليه، فالغضب الإنساني لا ينبغي أن يبقى صداه في شوارع العواصم الرئيسة وطرقاتها، بل يجب أن يُترجم عملاً وجهدًا واقعيًّا يغيِّر من مجرى الأمور، وهذا هو الدور الحقيقي والجوهري للثقافة.

إنها المدينة التي تحمل بين جنباتها الصراع السياسي والحضاري والإنساني، فهل يمكن أن تتغيّر هويات الأمكنة بقوة السلاح وبهذه البساطة؟ إذًا فجميع انتماءاتنا لمدننا وأوطاننا التي تفنى أرواحنا في عشقها زائفة إن كان اندثارها هيِّنًا على قلوبنا بهذا الشّكل.

الثقافة رافد ثوري وليست مجال ترفيه

الفلسطينيون والمقدسيون لا يريدون صراخًا وعويلاً في الطرقات وقت استباحة الآلة الصهيونية لدمائهم الشريفة، ولا يريدون شعار “اللوغو” المرفق على جميع الفعاليات الثقافية التي تحدث في سنة من السنين تكون فيه القدس عاصمة الثقافة العربية، لأنَّ الشّعارات الصمّاء لم تنقذهم من ويلات الحرب التي يجابهونها بصدورهم العارية وحدهم وكل يوم وكل ثانية، إنّهم يريدون أن تكون القدس عاصمة أبديّة للثقافة العربية، وتشكِّل مصدر قلق لدولة الكيان الصهيوني، ونقل الثقافة من حالة الترفيه والتسلية والاستعراض إلى حالة شعبية ورسمية ناطقة بثورة الشعوب ومقاومتها وحقها في تقرير المصير.. نريدها كعنقاء تنتفض من بين ركام الذاكرة، نريد من الثقافة العربية أن تحمل القضية إلى العالم أجمع..

ومن هنا تظهر أهميّة التّعريب ونشر العروبة لهذه المدينة في كل العواصم وبشكل حثيث لتصل إلى كل الأجيال بمقابل سياسة التَّهويد التي تجري لها وعليها..

التّمكين للأدب الفلسطيني في الأوطان العربيّة

قد يقول قائل: وما الذي يمنع من نشر الوعي والثقافة المقدسية والفلسطينية في الأدب الفلسطيني المتفرّد والخاص جدًّا والذي فرض نفسه كأدب مستقل بين الآداب العربية مثلما فعل طيلة العقد الماضي؟ في الحقيقة التي لا يمكن تجاوزها هو أنّ للثقافة والعمل الثقافي طابع احتفالي.. فجميع الأنشطة الثقافية تحتاج إلى إضاءة مكثَّفة إعلاميًّا وبالتالي سياسيًّا واقتصاديًّا، فالإعلام والثقافة توأمان يعملان معًا، وبدلاً من الاستمرار في نمط العمل الثقافي باجترار ودون تطوير، فلتُطرح أساليب جديدة في دعم الأدب الفلسطيني نشرًا وتسويقًا، بدل أن تقع على عاتقه (الأدب الفلسطيني) جميع المهام وخصوصًا في مجتمع متهالك يقع اقتصاده في قبضة المحتلّ، فبدل أن ينشغل الكاتب والفنان بتفاصيل تكاليف النّشر وأسلوب التّسويق المعقّد في بلد مقطعة أوصاله بسبب حواجز الاحتلال ومعابره، والذي يحوِّل كل مدينة فلسطينية إلى سجن مستقل، فلينصبّ اهتمامه على نقل الرواية الفلسطينية والوجع الفلسطيني وترسيخ الهوية في صراع.. لم يشهد في التاريخ الحديث له مثيل.

نشر الثقافة الفلسطينية واجبٌ عربي

يجب أن تساهم الدول العربية في نشر الثقافة الفلسطينية الفلكلورية والشعبية، وتجديد رسالتها التضامنيّة معها، وإنعاش القضية الفلسطينية في فكر الجيل الناشئ، وتخليد التّضحيات المقدسيّة والفلسطينية ومقاومتها الحديدية، وإبراز الأمجاد الثقافية والحضارية للقدس التي يجب أن يتمّ اختيارها كعاصمة ثقافية عربية إسلامية بالنظر إلى قضيّتها أولاّ التي تمسّ كل عربي مسلم ومسيحي، فهي رمز للتسامح والتآخي منذ الفتح الإسلامي، وتقديرًا للجهود التي قامت بها السّواعد والأنامل المقدسية والفلسطينية في خدمة الثقافة والآداب والفنون والعلوم والمعارف الفلسطينية والعربية، حتى شكَّلت حالة ونوعًا خاصًا عُرف بالأدب الفلسطيني.

إنَّ الفعاليات، التي من المفترض أن تكون في عاصمة الثقافة العربية، محكومة بالتشتّت بسبب ظرف القدس السّابق الذِّكر، وهذا يعني أنَّه لا يكفي عام واحد لتحقيق البرامج الموضوعة للمدينة بسبب تعدّد الأماكن المقام فيها الأحداث الثقافية، وتعدّد الجماهير، ممّا يستغرق وقتًا أطول في التخطيط والتنسيق والتنفيذ والتقويم، فلماذا لا تُعطى هذه المدينة وقتها المستحقّ للخروج من الدائرة الانفعالية السائدة إلى خدمة حقيقية للقضية المقدسية فنيًّا وثقافيًّا؟

رؤية ومقترحات

ونظرًا إلى أنّ العوائق والعقبات التي تواجه المثقفين والفنانين والكُتّاب.. كبيرة في إحياء فعاليات تأثيريّة محورها القدس والقضية الفلسطينية، كونها مدينة محاصرة ثقافيًّا وعسكريًّا وتقع تحت احتلال عنيف لا يعرف الخطوط الدولية الحمراء في مجابهته للمقاومة الشعبية والثقافية، فإنَّ سنة واحدة لا تفي بالغرض ولا تجعل الجهود مثمرة كما يجب، فبين دراسة العقبات وتكوين اللجان ومقاومة القمع الصهيوني لهذه الاحتفاليات والفعاليات الثقافية والفنية.. الأمر يستغرق وقتًا أطول، لإتمام أكبر قدر من الخطط المرسومة لصقل الهوية المقدسيّة العربية وإبرازها دوليًّا وعربيًّا، ومن الإجراءات التي يجب أن تُتّخذ مبدئيا بعد تبنّي قرار جعل القدس عاصمة أبدية ودائمة للثقافة العربية ما يلي:

1- دخول القضية الفلسطينية كمحتوى ثابت في المناهج العربية.. وتأُثير ذلك على الأجيال القادمة سيكون عظيمًا من حيث ترسيخ عروبة القدس وفلسطين وأحقيّة أصحاب الأرض بها.

2- إنشاء فرق أوبريت عربي بدعم قوي يتغنّى بالمجد التاريخي المقدسي كرمز للعروبة والسلام والتسامح، وكرسالة عالميّة بكل اللغات.

3- إنشاء مكتبة مقدسيّة في العواصم العربية والدولية تحتوي الكتب والإصدارات التي تتناول القدس كقضية وكمدينة، إضافة إلى التّعاقد المدعوم كليًّا لنشر المزيد من الإصدارات والكتب والكتيّبات والمواد المواد المصوّرة والوثائقية مع أصحاب العلاقة من دُور نشر ومؤسسات إعلامية، والدعم الخاص لترجمتها إلى أشهر لغات العالم.

4- تنظيم أنشطة ومباريات رياضية عربية لمصلحة القدس، بحيث تكون هناك أدلّة عملية على مواكبة الحدث الثقافي، وبما يليق بالمدينة المقدّسة.

5- تكافل الاتحادات العربية للكتاب وسائر النّقابات في إعداد حلقات وندوات ومهرجانات تكون قضيّتها الدفاع عن هوية القدس.

ولتحقيق هذا الحلم الثقافي بجعل القدس عاصمة دائمة للثقافة العربية، أدعو أحرار المثقفين الفلسطينيين والعرب إلى تبنّي اقتراحي بطرح عريضة إلكترونية تحتوي توقيعات المثقفين من كُتّاب وفنانين وأدباء عليها كدعوة منهم لاتّحاداتهم ونقاباتهم برفع هذه التوصيّة إلى وزراء الثقافة العرب وتبنيها استنادًا إلى رغبة المثقف نفسه من كل المدن العربية، لجعل ثقافتنا هي سلاحنا في المقاومة والصمود والدفاع عن هويتنا وحقِّنا..

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا