لم تكن العلاقات الجزائرية الفرنسية بمنأى عن الأزمات، لكنها اليوم تمرّ بواحدة من أكثر مراحلها توترًا، تعكس حجم التباعد بين العاصمتين في القضايا الجوهرية. فبين الملفات التاريخية العالقة، وتباين المواقف بشأن القضايا الإقليمية والدولية، تتجه الأنظار إلى مقترح زيارة وزير الخارجية الفرنسي، جان نويل بارو، إلى الجزائر، وسط تساؤلات عن مدى قدرتها على احتواء الأزمة المتصاعدة. باريس تسعى إلى تهدئة الأوضاع، لكن الجزائر باتت أكثر وضوحًا في مواقفها، مؤكدة أن أي تقارب يجب أن يكون على أسس واضحة من الندية والاحترام المتبادل. في المقابل، لا تزال بعض الأوساط الفرنسية، لا سيما اليمين المتطرف، تواصل استفزازاتها، ما يزيد من تعقيد المشهد. فهل ستكون هذه الزيارة بداية لمرحلة جديدة من العلاقات، أم أنها مجرد محاولة فرنسية لتأجيل المواجهة مع الحقائق التي لم تعد الجزائر مستعدة لتجاهلها؟
في ظل حالة التشنج التي تعرفها العلاقات بين البلدين، أعلنت باريس أن زيارة وزير خارجيتها إلى الجزائر لا تزال مطروحة، مؤكدة رغبتها في “إيجاد حل للأزمة الحالية مع الدفاع عن مصالح فرنسا والشعب الفرنسي”، وفقًا للمتحدث باسم الخارجية الفرنسية، كريستوف لوموان. هذه التصريحات تُظهر أن باريس تحاول الإبقاء على قنوات الاتصال مفتوحة، لكن السؤال الجوهري هو: هل تأتي هذه الخطوة في سياق تغيير فعلي في الموقف الفرنسي، أم أنها مجرد محاولة أخرى لتخفيف حدة التوتر دون تقديم تنازلات حقيقية؟
الجزائر لم تعلّق رسميًا بعد على الزيارة، لكنها أوضحت في عدة مناسبات أن أي تقارب مع باريس يجب أن يكون على أسس واضحة، قوامها الندية والاحترام المتبادل، وهو ما شدد عليه الرئيس عبد المجيد تبون في لقائه الإعلامي الأخير. الرئيس تبون لم يترك مجالًا للتأويل عندما أكد أن “العلاقات بين الدول لا تُبنى على المناورات السياسية، بل على مواقف واضحة وصريحة”، في إشارة إلى أسلوب باريس المتذبذب في التعامل مع الملفات الحساسة.
تحرشات اليمين المتطرف.. ريتايو في الواجهة
بالتوازي مع التحركات الدبلوماسية، شهدت الساحة الفرنسية تصعيدًا من قبل شخصيات يمينية متطرفة، في مقدمتهم وزير الداخلية برونو ريتايو، الذي بات يُعرف بخطابه العدائي تجاه الجزائر. تصريحات ريتايو الأخيرة، التي هاجم فيها الجزائر ورئيسها، تعكس استمرار النهج الاستفزازي لبعض الأوساط الفرنسية التي ترى في أي تقارب مع الجزائر تهديدًا لرؤيتها الاستعمارية القديمة.
ريتايو، الذي لا يُفوّت فرصة للطعن في السيادة الجزائرية، استغل ملف الهجرة لتأجيج الرأي العام الفرنسي، متحدثًا عن “ضرورة وضع حد للهيمنة الجزائرية على التأشيرات الفرنسية”، وكأن العلاقات بين البلدين تُختزل في هذا الجانب فقط. هذا النهج ليس جديدًا، فقد سبقه العديد من رموز اليمين المتطرف الذين يرون في الجزائر شماعة لتعليق إخفاقاتهم الداخلية، خاصة فيما يتعلق بإدارة ملف المهاجرين من الضفة الجنوبية للمتوسط.
تصريحات تبون.. الحزم في مواجهة المناورات
في لقائه الإعلامي الدوري الأخير، لم يترك الرئيس تبون مجالًا للتأويل، مؤكدًا أن “العلاقات الجزائرية الفرنسية يجب أن تُبنى على أسس واضحة، بعيدًا عن أسلوب المراوغة والتصريحات المتضاربة”. الرئيس الجزائري أشار إلى أن بلاده “لا تقبل الوصاية ولا الإملاءات، وأن مبدأ السيادة خط أحمر لا يمكن تجاوزه”.
تبون لم يتوقف عند هذا الحد، بل وجّه رسائل مباشرة لباريس، مفادها أن الجزائر لن تتعامل مع فرنسا وفق قاعدة “أزمة وتهدئة مؤقتة”، بل وفق رؤية استراتيجية تضع مصلحة الجزائر فوق أي اعتبار. في هذا السياق، شدد على أن “ملف الذاكرة غير قابل للمساومة”، وهو ما ينسف كل المحاولات الفرنسية السابقة للالتفاف على هذا الموضوع الحساس.
محاكمة بوعلام صنصال.. قرار يُعزز موقف الجزائر
ضمن سياق الأزمة، جاء الحكم الصادر عن محكمة الدار البيضاء بالسجن خمس سنوات في حق الكاتب بوعلام صنصال، بعد إدانته بتهم تتعلق بالمساس بالوحدة الوطنية والإساءة إلى رموز الدولة. صنصال، المعروف بتوجهاته المثيرة للجدل وعلاقاته الوثيقة بأوساط يمينية متطرفة في فرنسا، كان قد أدلى بتصريحات وُصفت بأنها تتجاوز حدود النقد إلى التشكيك في سيادة الجزائر ومواقفها المبدئية. هذا الحكم يبعث برسالة واضحة مفادها أن الجزائر لن تتسامح مع أي استهداف لثوابتها، سواء من الداخل أو الخارج.
ماكرون في موقف حرج
على الجانب الآخر، يجد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نفسه في موقف لا يُحسد عليه، حيث يواجه ضغوطًا متزايدة من الداخل، سواء من اليمين المتطرف الذي يرفض أي تقارب مع الجزائر، أو من الأوساط الاقتصادية التي ترى أن فقدان الجزائر كشريك إستراتيجي سيكون مكلفًا جدًا لباريس.
رد ماكرون على تصريحات تبون كان متحفظًا، إذ حاول التخفيف من حدة التوتر دون تقديم خطوات ملموسة. اكتفى بالتأكيد على “أهمية العلاقة بين البلدين”، دون التطرق إلى القضايا العالقة التي تطالب بها الجزائر. هذه الاستراتيجية التي تعتمد على كسب الوقت لم تعد تنطلي على الجزائر، التي باتت أكثر وضوحًا في مواقفها من الشريك الفرنسي.
الهجرة والاقتصاد.. ملفات عالقة
إلى جانب الملفات التاريخية والسياسية، تظل قضايا الهجرة والتعاون الاقتصادي من أبرز نقاط الخلاف بين الجزائر وباريس. فبعد أن شددت فرنسا شروط منح التأشيرات، ووضعت قيودًا على الجزائريين الراغبين في السفر إليها، ردّت الجزائر بإجراءات تخص الاستثمارات الفرنسية، ما جعل التوتر يمتد إلى الجانب الاقتصادي.
الجزائر، التي تتجه نحو تنويع شراكاتها الدولية، باتت تُعيد رسم خارطة تحالفاتها بعيدًا عن الهيمنة الفرنسية التقليدية. التعاون مع الصين وروسيا وتركيا في مجالات إستراتيجية مثل الطاقة والتكنولوجيا والبنى التحتية، يُزعج باريس التي كانت ترى في الجزائر “حديقتها الخلفية”
في ظل هذه التطورات، تبدو العلاقات الجزائرية الفرنسية أمام مفترق طرق حقيقي. فبينما تحاول باريس استيعاب الأزمة دون تقديم تنازلات جوهرية، تصرّ الجزائر على مقاربة جديدة تقوم على الندية والاستقلالية. السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل ستُقدم فرنسا على خطوات حقيقية لإعادة بناء الثقة، أم أن زيارة وزير خارجيتها ستكون مجرد محاولة أخرى لاحتواء الغضب الجزائري دون نتائج فعلية؟
الأيام المقبلة ستكون حاسمة في تحديد مستقبل هذه العلاقة المتأرجحة، لكن المؤكد أن الجزائر لم تعد مستعدة للقبول بأنصاف الحلول، وأن زمن المواقف الرمادية قد ولّى بلا رجعة.