قال الشيخ العلاّمة “أحمد حماني”: “من المعلوم أن حبّ النبي فرضٌ على كل مسلم، وواجب أكيد من الواجبات الدينية، ولا يتمّ إيمانُ أحدٍ حتى يكون الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما: من نفسه وماله، وولده ووالده والناس أجمعين. وإن هو أحبَّ شيئا أكثر من حبهما، وآثر شيئا عليهما كان من الهالكين”. وقد حافظ الشعب الجزائري على الاحتفال بالمولد النبوي الشريف منذ قرون، حيث كان يمتدّ إلى أكثر من ثلاثة أسابيع متواصلة يتبارى خلالها الشعراء في مدح الرسول الكريم، ويتدارس الناس السيرة النبوية الشريفة، ويستخلصون منها العِبَر ويوثّقون القيم الإسلامية الفاضلة..
فما هي المحبّة عموما؟ وكيف تكون محبّة الرسول صلى الله عليه وسلّم؟ وهل من واجب العلماء والأئمة أن يعيدوا التذكير في كل آنٍ وحين بأنّ الإيمان الحقيقي يقوم على محبّة الله ورسوله؟ وهل تستقيم هذه المحبّة – ومعها الإيمان – في قلوب تحالف أصحابها مع الظالمين والمغتصبين للأرض الفلسطينية، والعابثين بالحق في الحياة للشعب الفلسطيني؟
إن محبّة الرسول الكريم تبدأ بطاعته واتخاذه أسوةً لا حياد عنها، وعندما كتب شيخنا العلاّمة “أحمد حمّاني” عن هذه المحبّة في سبعينيات القرن الماضي فكأنما كان يكتب لأيامنا هذه وعصرنا هذا الذي نبتَ فيه “علماءٌ” كيّفوا الإسلام لتبرير التطبيع مع الكيان الصهيوني والتمكين له ليجسّد مخطّطاته الشيطانيّة، وأعلوا محبّة المصالح الخاصة فوق محبة الله ورسوله وأمّة الإسلام!
نشرت جريدة “الأيام نيوز” مقالة سابقة للشيخ العلاّمة “أحمد حماني” حول “عظماء من ذاكرة الجزائر”، وفي هذه المقالة تعيد الجريدة نشر مقالة أخرى حول محبّة الرسول الكريم باعتبارها واجبٌ وفرضٌ وأساس الإيمان، وكيف تكون هذه المحبة “صحيحة” حتى تُحقّق حلاوة الإيمان التي يرجوها كل مسلم.
والشيخ العلّامة “أحمد حماني” (1915 – 1998) هو من أبرز العلماء الرّاسخين في العلم الذين أنجبتهم الجزائر في العصر الحديث، عاش حياةً حافلة بالجهاد في مجالات التعليم والإصلاح والثورة.. ويُعتبر من أكبر العلماء العارفين بالمذهب المالكي، وله فتاوي شهيرة منها “حرمة موالاة الكافر والاستعانة به على المؤمنين” واعتبر ذلك ردّةً عن الإسلام، وفتوى “حرمة الزواج من الفرنسيات” استنادًا إلى فتوى الشيخ “ابن باديس” التي حرّم بموجبها الزواج بالفرنسيات، وغيرها من الفتاوي التي أثار بعضُها جدلا كبيرًا في وقتها..
أثرى العلّامة “أحمد حماني” المكتبة الجزائرية والعربية عموما بمؤلّفات عديدة منها: “فتاوي الشيخ أحمد حماني”، “من الشهداء الأبرار: شهداء علماء معهد عبد الحميد بن باديس”، “الإحرام لقاصدي بيت الله الحرام”.. بالإضافة إلى كتاباته الغزيرة في الصحافة الجزائرية والتونسية قبل ثورة التحرير الوطني وخلالها وفي ظلال الاستقلال. ومن أبرز المسؤوليات التي اضطلع بها منذ بداية سبعينيات القرن الماضي، رئاسته للمجلس الإسلامي الأعلى.. وفيما يلي نترك القارئ مع مقالة شيخنا رحمه الله..
مولد الرسول والاحتفال بذكراه
لا شك أن محمدا رسول الله أكرم خلق الله عليه وأفضلهم عنده، قد اختاره على علمٍ لتبليغ رسالته، وأداء أمانته، رحمة للعالمين، بشيرًا ونذيرا ليخرجهم من الظلمات إلى النور: من الجهل إلى العلم، ومن الضلال إلى الرشد، ومن العمى إلى الإبصار، ومن القسوة والجهل إلى اللين والحلم، ومن العبودية لغير الله إلى الحرية الحقة بالعبودية لله وحده. فكانت رسالته رحمة للناس أجمعين، “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ” (الأنبياء: 107).
فميلاد الرسول الكريم ميلاد النور والرحمة، وحـــقٌّ على البشرية جمعاء أن تحتفي بمقدمه، وتحتفل بذكراه احتفالا صحيحا بإحياء سنَّته واقتفاء آثاره والتعرّف إلى دينه، وإذاعة شمائله وإشاعة فضائله.
عيد المولد النبوي عند المسلمين
وقد اعتادت الأمة الإسلامية – كل عام – أن تحتفي بذكرى ميلاده في اليوم 12 من أول الربيعين، وأن تعتبر هذا اليوم عيدا لها، يصطبغ بالصبغة الدينية، وإن لم يكن عيدا دينيا بالمعنى الشرعي. لأنّ العيد الديني الشرعي هو ما شُرِّع فيه عبادات خاصة به، وسُنّت فيه أعمال دينية يؤدّيها المؤمنون، وأقوال يقولونها، وقربات يقدّمونها كالصلاة والخروج إليها، والتكبير والتهليل، وتقديم النُّسُك أو إخراج الصدقة الواجبة، وأُذِن فيها في تبادل التهاني وحضور الألعاب أو القيام بها. فالشارع هو الذي سنّ ذلك أو أذِن فيه وقال عنه “إن لكل قومٍ عيدا، وهذا عيدنا”. (من حديث صحيح رواه مسلم وغيره، خاطب به رسول الله (ص) أبا بكر لمّا نهى جاريتين كانتا عند عائشة تغنيان وتضربان على الدفّ عن فعلهما، وأذِن لهما الرسول في فعلها).
وليس يوم المولد بِعيدٍ ديني بهذا المعنى، لأن الشارع لم يؤسّس فيه عبادة خاصة ولا أمر بالاحتفال به. ولكن المسلمين أحدثوه – في أعيادهم القومية – منذ قرون كثيرة ولم يحدثوا فيه عبادة العيد، وهم اليوم مجمعون على الاحتفاء فيه، والاحتفال به حُبًّا في محمد عليه الصلاة والسلام، ووفاء له، وتمسُّكًا بشريعته، وإعلانا للارتباط بسنَّته. ومَن أحقّ الناس باحتفاء المسلمين واحتفالهم به وإظهار محبّته والتعلّق به، وإعلان الوفاء له والابتهاج بيومه.. مِن محمد صلى الله عليه وسلم ويومه؟
نشيد “يوم محمد” للشيخ محمد بن العابد السماتي
إن يوم محمد صلى الله عليه وسلم في الأيام لهو اليوم الأغرّ، وإن ذكراه لأجلّ الذِّكر. وإن العِبرة في ذلك لأعظم العِبر. وقد كان شعبنا في الجزائر ينتهز هذا اليوم الأغرّ ليعلن حبّه للرسول، والتمسك بشريعته، واظب على ذلك أيام عسره ويسره، وأعلن للصديق والعدو شدة وفائه، وفي ذلك قال شاعره الكبير الشيخ “محمد بن العابد السماتي” رحمه الله، فأنشده كل أبنائه منذ قاله إلى اليوم:
أنت يا يوم محمد – في جبين الدهر تاج
جئت بالنور المجدّد – فكسا الكون ابتهاج
فابعث النخوة لحنا – في رؤوس الناشئين
فهي في الأكوان معنى – يستفزّ الغافلين
واملأ الدنيا فخارا – أيها النشء الجديد
واشدُ بالذكرة هزارا – تُطرب الحفل الرشيد
لك في المجد سنام — دونه هام القمر
سلْ تُخبرك سماء – بهواديك الغُرر
ثم يختمه بالتّنويه بذكر هذا الوطن المحمّدي المقيم على حب النبي، المتطلع إلى التحرر من قبضة العدو العادي، فيقول:
وطنٌ جمُّ المفـــاخــــــر — وجديرٌ باهتمام
هو الأرض الجزائر – هوفي الأرض الجزائر
وقد أصبح هذا النشيد تشدو به حناجر عشرات الآلاف من فتيان وفتيات شعبنا في حماسٍ ديني وطني عظيم منذ سنة 1936، وكان من الأناشيد التي دعّمت روح المقاومة والاستبسال في شعبنا.
إن الأمة الإسلامية – في مختلف أوطانها من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب ـ تسعى بالاحتفال بعيد المولد للإعراب عن محبّتها للنبي، فتقيم في هذا اليوم المهرجانات العظيمة، والولائم الفخيمة، وتظهر معالم الزينة في الدور والأسواق والشوارع من المدن والقرى، ويَفتنّ الناس في التزيّن بأحسن أنواع اللباس والزينة، وفي انتخاب ألذّ المأكل، وأشهى الحلويات، وأحلى المشروبات، ويجتمع المتديّنون في المساجد ليلا أو نهارا لحلقات الذِّكر أو سماع العظات، أو تلاوة قصة المولد، أو إنشاد القصائد والمدائح والموشحات..
وتسخو أنفس أهل الخير والمعروف بأنواع الإحسان والصّدقات، ويجد البائس الفقير فيه ما يسدّ خلّته ويقيم أوده ويكفيه يومه من ألذّ المطعومات والمشروبات.. وتشيع فيه أنواع الفرح والمرح بين الرجال والنساء والولدان، يعلنون ذلك بالأغاني والألعاب وتفجير المفرقعات، وقد يخرج بعضهم – في بعض الجهات – عما يبيحه الدين، ويَأذن فيه الخُلق القويم بارتكاب المنكرات وتنفق فيه الأموال الطائلة غير مأسوف عليها من المنفقين والمنفقات، فهل أصاب المسلمون وجه الصواب بما فعلوا؟ وهل حقّقوا الفرض الذي إليه رموا؟ وهل وُفِّقوا إلى الحق بما صنعوا؟
محبّة الرسول واجبٌ أكيد
لا شك أن هدف المسلمين من إقامة هذا العيد والاحتفال فيه هو إعلانهم عن حبهم النبيَّ عليه الصلاة والسلام، والإعراب عن وفائهم لذكراه والتمسّك بدينه، والانتساب إليه.
ومن المعلوم أن حبّ النبي فرضٌ على كل مسلم، وواجب أكيد من الواجبات الدينية، ولا يتمّ إيمانُ أحدٍ حتى يكون الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما: من نفسه وماله، وولده ووالده والناس أجمعين. وإن هو أحبَّ شيئا أكثر من حبهما، وآثر شيئا عليهما كان من الهالكين. قال الله تعالى: “قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ”. وروى البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: “ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبُّ إليه ممَّا سواهما…” إلى آخر الحديث.
أجل إنه ليس بالمحظور أن يحبّ المرء نفسه أو ماله أو أهله، ولكن المحظور أن يُؤثِر شيئا في الحب على الله ورسوله بحيث يجعلهما دون شيء من ذلك ممّا يعزّ عليه حتى نفسه. فإن بلغَت محبّتهما في نفسه هذه الدرجة، وآثرهما على كل شيء عنده، أدرك الغاية القصوى والدرجة العليا من صفاء النفس وتزكيتها، وكمال استعدادها، ونال السعادة الروحية العظمى، والاطمئنان النفسي الكامل، ووجد – حقا – حلاوة الإيمان.