من أوراق المؤرّخ “عبد الرحمن الجيلالي”.. أخطاء المستشرق “كارل بروكلمان” في التاريخ الإسلامي

كانت اللغة العربية هي البوّابة التي دخل منها الغرب الأوروبي إلى المدنيّة والحضارة وميادين الفلسفة والعلوم والمعارف. وكانت العربيّة هي المفتاح السحري الذي فتح به المستشرقون خزائن كنوز التّراث العربي.. وقد كان لهم الفضل في إحياء بعض ذلك التّراث العربي لا سيما في تحقيق ونشر المخطوطات الأدبيّة، غير أنّهم “احتكروا” كثيرًا من تلك الكنوز – العلمية خاصة – لأنفسهم، وشوّهوا كثيرًا منها أيضًا لغايات مرتبطة بالنّزعة الاستعمارية أو نزعات أخرى مرتبطة بالحقد على الإسلام وشعوبه العربيّة خاصّة. ولعلّ السؤال الذي لم يطرحه الغرب على نفسه، ولم يطرحه العرب على الغرب، هو: ماذا لو لم تقم الحركة الاستشراقيّة، ولم تصل أيادي المستشرقين إلى الكنوز الفلسفية والعلمية العربيّة؟

تُعيد جريدة “الأيّام نيوز” نشر مقالٍ كتبه العلاّمة المؤرّخ “عبد الرحمان الجيلالي”، ونشرته مجلة “الأصالة” الجزائريّة في شهر ماي 1973، تناول فيه بواعث الاستشراق وأهداف المستشرقين وتصنيفاتهم، ووقف عند بعض أخطائهم التي حرّفت الحقائق، فقدّم مثالاً عن بعض الأخطاء التي وقع فيها المستشرق الألماني الكبير “كارل بروكلمان” (1868-1956) صاحب كتاب “تاريخ الشعوب العربية”.. وهو أمرٌ يكشف لنا بأنَّ شيخنا – وجيله من مشايخ الجزائر وعلمائها – كان قارئًا بعقليّة نقديّة لا تنبهر بما يُصدره الغرب، ولا يُسلِّم بمحتوى الكتابات الاستشراقيّة حتى يعرضها على مصادر أخرى أكثر وثوقًا..

وفيما يتعلّق بالمستشرق الألماني “كارل بروكلمان”، فإنَّ كثيرًا من الكُتّاب والمفكّرين العرب يعتبرونه مِمّن أنصفوا التاريخ العربي والإسلامي وقدّموا خدمات جليلة للثقافة الإسلاميّة، وهو كذلك لولا الأخطاء “القليلة التي وقع فيها.. وقد تنبّه شيخنا إلى هذا الأمر وحاول إضاءته من منطلق أنَّ الخطأ “البسيط” قد يُغيّر مجرى التاريخ ذاته.. لنترك القارئ مع مقال العلاّمة المؤرّخ “عبد الرحمان الجيلالي”

فضل العرب على الغرب

لقد أدرك رجالات الغرب فضل العرب على العلم منذ توطيد سلطان الأمويين بالأندلس، وأنَّ المدنِيّة الشرقية والحضارة العربية الإسلامية سبقت أختها الغربية بقرون. فأخذ بعض المتحمّسين من هؤلاء الغربيين – حبًّا في الاطّلاع والمعرفة والعلم – الدخول إلى تلك المملكة العربية الإسلامية للدرس على علمائها ثم العودة بعدها إلى بلاده لنشر ما أخذه عن العرب بين قومه وفي أنحاء وطنه الغربي، وكان فيهم اليهود والنصارى، وفيهم من أخذ بحظٍّ وافر من علوم الشرق فانتفع بها في حياته العملية وحاز بها أعلى المراتب، فكان منهم من ارتقى إلى البابوية مثل “البابا سلفيستر الثاني” الذي تخرج من مدارس الأندلس، وكذلك “ألبير الكبير” و”روجي باكون” وغيرهم، وكان الله سخَّر العربَ لفتح الأندلس وصقلية وتعميرهما حتى ينقلوا لأهل أوروبا الحضارات..

دراسة اللغة العربية وترجمة القرآن الكريم

وشاعت في القرون الوسطى يومئذ اللغة العربية واشتهر أمرها بين العلماء.. فهي لغة الدين الجديد والدولة الجديدة العتيدة ولغتها هي لغة العلم والفلسفة يومئذ.. فكان من الواجب على المستشرق أن يطَّلع على ما في هذه اللغة من علوم ومعارف، فكان من أثر ذلك تأسيس درس عام بباريس (أواسط القرن الثالث عشر) لدرس اللغة العربية، وكانت أوَّل ترجمة للقرآن عرفتها أوروبا هي ترجمة “طليطلة” التي نقلها “کونیت” سنة 1143 ميلادية مستعينًا باثنين من العرب، وعرضها على “دكلين” بقصد نقدها، فاتَّضح يومئذ بهذا ميدان للاستشراق.

الغرب يدخل إلى الفلسفة من بوّابة العرب

وكان في طليعة المُعتنين بهذه البحوث الاستشراقية، ولا سيما منها العربية، هم الرُّهبان فتراهم مُنكبِّين على دراسة الفلسفة الإسلامية وترجمتها إلى اللاّتينية، وبذلك تسرَّبت إليهم علوم العرب، وذلك لأنَّ الفلسفة في عهودها الإسلامية الأولى كانت تنطوي على العلوم كلها ولم تُعرف بأقسامها الحاضرة إلّا بعد أن تفرّعت العلوم أخيرًا فقط.

البدايات الفعليّة للاستشراق

ثم تنوّعت أغراض هؤلاء المستشرقين واختلفت مقاصدهم بحسب اختلاف اتجاهاتهم نحو الشرق وتنوّع غاياتهم منه سياسيًّا، ودينيًّا، واقتصاديًّا وأدبيًّا.. ففي أوائل القرن السادس عشر ظهر الخلاف الديني الذي وقع بالثورة البروتستانتية في ألمانيا وعمّ الغرب كلّه، واضطرّ أهله إلى الرجوع بمباحثهم اللاّهوتية إلى دراسة “التوراة العبرية”، فاضطروا حينئذ إلى التعرُّف على قواعد اللغات الساميّة فدرسوا منها العربية والعبرانية والكلدانية والسريانية.. وقابلوها ببعضها بعضًا.. استعانوا في ذلك باليهود والعرب، فاتّسع لهم بذلك مجال البحث وفشت بسببهم البحوث حول الآداب الشرقية، وأنشِئت يومئذ المنابر لتعليم اللغة العربية في أشهر مدارس أوروبا، وطُبعت “التوراة” لأول مرة بالعربية في ألمانيا سنة 1514. وحصرت هذه الحركة الاستشراقية اتجاهها ضمن الدراسات الدينيَّة ردحًا من الزمن ولم تتحوَّل إلى الآداب العامة إلّا في الأعصر التي نُظِّمت فيها العربية بباريس تنظيمًا علمانيًّا أيام وجود المستشرق الفرنسي “سیلفیستر دوساسي” في القرن التاسع عشر، ويومئذ ظهرت الدراسات الوافية باللغات الأوروباوية كاللاتينية وغيرها، تبحث في تاريخ العرب والإسلام وقلَّ مثل ذلك في السياسة والاجتماع.

بواعث الاستشراق وغاياته

وبما أنّ كلاًّ من دول فرنسا وإنكلترا وهولاندا وأمريكا والنمسا وألمانيا.. كل منها كانت ولا زالت لها مصالح مرتبطة بالشرق. وتلك المصالح غالبًا تناط بالسفراء والقناصل، فكان رجال السِّلك الدبلوماسي مضطرين إلى دراسة اللغات الشرقية، وكان عكوفهم على تفهُّمها حقّ الفهم باعثًا لهم على البحث عن المخطوطات المؤلَّفة بلغات الشرق. فاجتمع لهم في تنقُّلاتهم ورحلاتهم في الشرق كميّات ثمينة من المخطوطات النادرة هي اليوم زينة المكتبات المعتبرة في أوروبا.

كما إنّه كان من بواعث الاستشراق وغاياته التوسُّع في الميدان الاقتصادي والتجاري، فكان هذا الميدان ولا يزال ينبوعًا فيّاضًا بالخيرات، غزير المادة والفائدة، جامعًا لمنابع الثروة، فاقتضى ذلك المزيد من التفقّه في فقه اللغات الشرقية، ولا سيما منها العربية لأنّها – كما ذكرنا – لغة شعب حمل لواء التفكير الإنساني أكثر من أربعة قرون، ثم إنّه كان قبل ذلك يمثِّل المدنِيّة الإنسانية على مستوى العالم، وقد اشتملت لغته على جميع ما انطوت عليه الحضارة الإنسانية يومئذ ولا تزال هذه اللغة تماشي الحضارة إلى اليوم، ثم إنّ أساس الحركة الفكرية في أوروبا منذ القرن الثالث عشر الميلادي يرجع إلى المؤلَّفات العربية التي تناولها الأوروباويون بالمطالعة والدّرس، وزد إلى ذلك أنّ لهؤلاء العرب دينًا جليلاً له تأثير عظيم في عقليّات كثيرة تبلغ مئات الملايين من الناس منذ نشأته إلى الآن، فمدارسة هذه اللغة يسهل لهم استغلال أهلها والانتفاع بما عندهم.

الاستشراق.. مهنة ارتزاق وأداة هدم

وهناك طائفة مِمّن اتّخذ الاستشراق مهنةً يرتزق منها ولا يبالي حيثما توجّهت به الأهواء، فهو مع السياسة كيفما كانت أغراض سادته، فيستخدم العلم كآلة لبلوغ غاية معيّنة. ومنهم من تَسُوقه الأغراض السافلة إلى الطّعن في الثقافة الإسلامية وتشويه الحقائق، وهذا المسكين لا يدري أنّه بذلك يشوِّه سمعة جماعة من قومه ومن بني جنسه أخلصَت للعلم وخدمَت العلم للعلم. ومنهم من يخبط خبط عشواء فهو لا يعير اهتمامًا لتحقيق المسائل ولا يتحرَّى الصواب في كثير منها.

أخطاء المستشرق الألماني “بروكلمان”

ومنهم من وقع في أخطاء لم تكن مُتوقَّعة من مثله مِمَّن اشتهر بالتَّحقيق والإمعان في البحث وسعة الاطلاع والتضلُّع من الثقافة الشرقية والغربية، وخذ إليك مثلاً: العلاّمة “بروكلمان” المستشرق الألماني الكبير، ألَّف كتابًا في تاريخ الشعوب الإسلامية، ونشر بعدة لغات ومنها العربية، ورغم ما احتوى عليه هذا الكتاب من الفوائد الجمَّة واستيعابه للتاريخ الإسلامي من مبدأه إلى العصر الحاضر، فإنَّ صاحبه وقع في أخطاء، ولا أدرى أهي عن عمد أو عن غفلة وقلة مبالاة؟!

فعندما تكلَّم “بروكلمان” عن الخليفة الثالث “عثمان بن عفان” رضي الله تعالى عنه، وأتى بتفصيلٍ لحوادث الفتنة الكبرى التي أدّت إلى اغتياله، ذكَر من أسبابها خلع “عمرو بن العاص” رضي الله عنه من ولايته على مصر وتولِية “عبد الله بن سعد بن أبي سرح”، قال: “واشتدّت النقمة على عثمان في مصر، وانضم إلى عمرو في إذكائها محمد بن أبي حذيفة وهو ابن أبي بكر الصديق بالتّبني..”.

فوا عجبًا، هكذا يذكر “بروكلمان” بنفسه اسم والد “محمد”، فيقول: هو “ابن أبي حذيفة”!، ثم يقول: “وهو ابن أبي بكر الصدّيق بالتَّبني”؟ … ومعروف أنَّ “محمد ابن أبي حذيفة” هذا وُلد بأرض “الحبشة”، وربّاه “عثمان بن عفان”، فلما شبّ رغب في غزو البحر، فجهَّزه “عثمان” وبعثه إلى مصر إلخ القصة. وكيف يتبناه الخليفة الأول “أبو بكر الصديق” وهو مِمّن تلقّى القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة ومن أعلم الناس بحلاله وحرامه.. وحُكم تحريم التبنِّي في الإسلام من المسائل المعلومة من الدين بالضرورة، فكيف تخفى عن “أبي بكر” حتى يرتكبها بنفسه؟!!… هذا ممَّا لا يسيغه النّقل ولا العقل، ولا أدري كيف وقع في هذا الغلط الفاحش مثل “بروكلمان”؟

وفي هذا الكتاب أيضًا، تعرَّض إلى تاريخ إنشاء المنبر في الإسلام، فذكر أنَّ هذه المؤسسة الإسلامية وقعت من عُمّال الأمصار الذين كانوا يؤمُّون الناس في أيام الجمعة في الصلاة العامة بأنفسهم، فهم أول من اصطنع هذا المنبر، ولم يصبح – حسب زعمه – في الناس عادةً شائعة إلَّا في “المائة الثانية للهجرة”.. والواقع بخلاف ذلك، فإنَّ علماء التاريخ الإسلامي مُجمعون على أنّ إنشاء المنبر وتأسيسه للخطابة بالمسجد كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأنّ ابتداء العمل به كان سنة سبعٍ أو ثمان للهجرة، وقد شُوهد عليه الصلاة والسلام يخطب وهو واقف على المنبر بمسجده في المدينة، وكان هذا المنبر يشتمل على ثلاث مراقٍ – درجات أو درج – إلى زمن خلافة “معاوية بن أبي سفيان”، وكان الوالي على المدينة “مروان بن الحكم” (42 – 49 هـ)، فزاد فيه هذا ستّ درجات، ولقد استمرَّ هذا المنبر الشّريف بمكانه من مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة ومنه كان يُلقي الخلفاء خطبهم إلى أن احترق باحتراق المسجد سنة 654 هـ. فكيف يصح بعد هذا أن يُقال أنَّ المنبر هو من صنع عُمّال الأمصار؟ وأنّه لم يصبح ارتقاء المنبر للخطابة في الناس عادة شائعة إلّا في المائة الثانية للهجرة!

وكذلك الأمر بشأن إحداث المنائر واتّخاذها لتأدية شعيرة الآذان بالمساجد، فإنّنا نرى “بروكلمان” يقول: “… والواقع أنّ العثمانيين هم أول من ضمَّ المئذنة إلى المسجد في آسيا الصغرى. والواقع هو بخلاف ذلك، فإنَّ أول من أحدث المنائر بالمساجد والجوامع هو “مسلمة بن مخلد” حين ولايته على مصر (47 هـ / 667 م)، فإنّه هدم ما كان “عمرو بن العاص” بناه من المسجد بمصر، وبناه هو، وأمر ببناء منار المسجد، فهو أول من أحدث المنائر بالمساجد والجوامع (النجوم الزاهرة لابن تغري بردي، جزء 1 صفحة 133 طبعة دار الكتب بالقاهرة)، فأين هذا ممّا نسبه “بروكلمان” إلى الأتراك العثمانيين بآسيا الصغرى؟

ومن ذلك أيضًا قول هذا المستشرق في الكتاب نفسه بأنَّ النَّظر في المظالم والحكم بين المتخاصمين، وهي مهمة لم يُكن يعيَّن لها رجال مُخصّوصون حتى أيام مؤسس الخلافة الأموية.. فأين هذا مِمّا هو مشهور من ولاية القضاء في التاريخ الإسلامي على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد بعث “علي بن أبي طالب” إلى أهل اليمن ليقضي بينهم، وعلّمه كيف يقضي، فقال له: إذا جلس بين يديك الخصمان، فلا تقضي بينهم حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنّه أحرى إن تبين لك القضاء…

كما أنّه عليه السلام عيَّن “معاذ بن جبل” لقضاء الجُند، وكان “أبو موسى الأشعري” قاضيًّا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان القضاة على عهد النبي ستًّا: عمر، علي، عبد الله بن مسعود، أبيّ بن كعب، زيد بن ثابت، أبو موسى الأشعري، وشريح الكِندي كان قاضيًّا على عهـد “عمر بن الخطاب” بالكوفة..

دور المستشرقين في إحياء التراث العربي

إلى غير ذلك من مسائل شتّى طرقها هؤلاء المستشرقون دون أن يعيروها أدنى تحقيق. وهذا لا يمنعنا من أن نعترف لهم بالفضل في بذل جهود جبَّارة في تحقيق المخطوطات النادرة وطبعها طبعة علمية مُفهرسة بفهارس مُفصَّلة مع ترجمتها ونقدها والتَّعليق عليها بتعاليق مفيدة وشروح فريدة، وتوضيحهم لكثير من المسائل العلمية، وتبديد ما تراكم عليها من غبار الأوهام والشكوك، فلهم منَّا على ذلك مزيد التقدير والاحترام.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا