من الحرب العالمية الثانية إلى إقامة الكيان الغاصب.. المكر والخداع.. مسار العصابة الصهيونية

كانت البدايات مع هجرة بعض القبائل الإسرائيلية من أرض الشرق منذ أكثر من ألفي عام خلت، موازاة مع هجرات بعضها الآخر إلى شمال إفريقيا، وإلى بلاد الهند وما وراءها، في نفس الحقبة والتاريخ.. كان ذلك قبل استواء الإمبراطورية الرومانية على ضفاف المتوسط، وقبل غزو القائد العسكري “بومبيوس” لأرض الشرق عام أربعة وستين قبل ميلاد المسيح، وكسره آخر شوكة لــ”مملكة يهوذا” وتشتيت ساكنتها، حيث كانوا يشكّلون جيبا قوميا متخندقا داخل سلطان الإمبراطورية الفينيقية المترامية الأطراف.

تكاثرت الهجرات اليهودية بعد الحروب الرومانية، خلال الفترة التاريخية الممتدة بين القرنين الثاني والثالث الميلادي إلى أوروبا، وبتكاثرهم اشتدّ عودهم مرة أخرى، لكن هذه المرة كان المدّ المسيحي في أوجّه، فكانت الصدامات الأولى على الأراضي التي عُرِفت بــ”العالم المسيحي اللاتيني” الذي يقابل العالم المسيحي الشرقي، ثم كان الاضطهاد لتفوّق المسيحيين على اليهود تحت سيادة الرومان، الذين بلغ بهم الأمر فرض المسيحية قسرا على كل ساكنة الإمبراطورية، وإلا فالعقاب الشامل؛ من مصادرة ممتلكاتهم وحرق بيعهم.. إلى ترحيلهم وحرقهم أحياء واستعبادهم.. إلى وضعهم خارج إطار القانون، كقومية لعينة غير مرغوب حتى في وجودها.. وقد تكرّرت المذابح بحقهم مرات ومرات.

إلى أن أشرق وجه الأرض ببعثة محمد – ص – برسالة الإسلام، فعادت الروح للطائفة اليهودية التي استعادت بذلك، هويتها وحريتها وكرامتها شيئا فشيئا، إلى أن استوت واستقوت واستقرت تحت لواء الخلافة الإسلامية، فكان لها شأن وتقدير داخل النسيج الاجتماعي العربي الإسلامي.. ورغم ذلك، ولأنهم قوم والوفاء لا يلتقيان، فقد ظلوا على مكرهم وغدرهم وخداعهم، يبثون الفتن ويزرعون الشقاق ويحترفون النفاق، ويناصبون العداء لكل من ليس منهم ويكرهون بقية الأجناس والأديان “الأغيار”، ويستقوون دوما بمن يملك القوة والمال، أو الجاه والسلطان.

إلى ألمانيا “هتلر” والقومية النازية، فقد أجمع المؤرخون على أنّ الساسة الألمان في تلك الحقبة، كانوا يمقتون اليهود كما كان شأن الأوروبيين جميعا، إلا أنهم لم يظهروا أي عداء للحركة الصهيونية ولم يضيّقوا على نشاطها تحت لواء “الرايخ الثالث”، على الأقل هذا ما خلص إليه الصحفي الألماني “كلاوس بولكين” من خلال ما ورد في دراسته التي عنونها بــ؛ الاتصالات السرّية بين الصهيونية وألمانيا النازية بين 1933 و1941م، والتي قام بنشرها العام 1976م.

فقد أبرز عبر فصول بحثه، الكثير من مواضع الدعم السياسي والدعائي المتبادل بين الحركتين “الفاشيتين” النازية والصهيونية. فقد ظلّت الحركة الصهيونية ترى في صعود “هتلر” كقائد نازي مصلحة كبيرة لها ولمشروعها الإمبريالي، من باب أنه الوحيد الذي تمكّن من الدفع باليهود المعادين للصهيونية إلى الارتماء في أحضان هذه الأخيرة، على رأي المثال الشائع؛ مصائب “قومهم” عندهم فوائد.

كان ذلك قبل أن تتمكن الحركة الصهيونية من العبث بالرأي العام العالمي، وتتمكن من اختراقه بتقديم اليهود على أنهم “ضحايا التاريخ”، وتقنع المؤرخين بتبني ذكرى “الهولوكوست”، تخليدا لأرواح “اليهود فقط” كضحايا لــ”الإبادة الجماعية” التي قام بها نظام “هتلر”، رغم أنّ قتلى الحرب كانوا من أجناس كثيرة؛ من الروس السوفيات خاصة إلى البولنديين.. من الروم الغجر إلى الهنغاريين.. من الألمان المعارضين إلى بني عمومتهم الجرامنة النمساويين.. إلّا أنّ الدعاية الصهيونية قد تمكنت وبطريقة ما، من حصر هذه الإبادة في طائفة اليهود وحدهم، وجعلها أسطورة خالدة، حتى بالنسبة لأولئك الذين يمقتون اليهود، فقد صدقوا الخرافة ولو من باب الشماتة والتشفي.

الدراسات الأكثر جدّية في هذا السياق، تؤكد على أنّ عدد اليهود الذين قتلوا إبان تلك الحقبة يتراوح بين أربعمائة وستمائة ألف كحد أقصى، فيما تروّج الآلة الدعائية الصهيونية لعدد ستة ملايين قتيل، من دون أدنى توثيق علمي فعلي أو إحصائي حقيقي.. غير أنّ المشكلة لم تكن في العبث بالأرقام فقط، وإنما في تداعياتها السياسية التي هيمنت على المشهد إلى يوم الناس هذا، حيث قام الصهاينة بالبناء على هذه الأسطورة / الخرافة، والتأسيس للعصر اليهودي الذي صار العالم فيه مجرد لعبة بين أيدي مؤسسات ودول وشخصيات مُهَوَّدَة / مُتَصَهْيِنَة حدّ النخاع، مكّنتهم بالنهاية من إقامة كيانهم الغاصب على أرض فلسطين، ثم دعمه وحمايته ضد كل القيم والمبادئ والأخلاق، في ممارسته كل أنواع الجرائم والأهوال بحق الأرض والإنسان، من دون أن ينبس هؤلاء وأولئك ولو ببنت شفة، مخافة التلبس بالتهمة الخادعة الغبية؛ “معاداة السامية”.

كان ذلك، رغم أنّ الكثير من أحرار أوروبا ومثقفيها الكبار، كانوا قد حذّروا من هذه الترهات التي تؤثر على الرصيد الأخلاقي التاريخي للقارة العجوز، ولعل من بين أكبر وأشهر هؤلاء، كان المفكر والفيلسوف الفرنسي “روجي غارودي”، صاحب الكتاب “الفاضل”؛ الأساطير المؤسّسة للسياسة الإسرائيلية، والذي فند فيه فصولا عريضة من الخرافات التي بني على أساسها كيان الصهيونية الغاصبة.

كان الكتاب فرصة كبيرة للحركة الصهيونية وأذرعها، لتتحرّك داخل فرنسا ذاتها، وتشحذ همم السوء المتخندقة داخل الجهاز القضائي الفرنسي، والذي اضطر من دون أدنى دليل شرعي أو قانوني، وضد كل القيم التي بنيت عليها أركان الجمهورية الفرنسية، إلى إدانة المفكر الفرنسي الأصل “غارودي” بتهمة التشكيك في محرقة اليهود “الهولوكوست”، وأصدرت طبقا لذلك، حكما يدين الرجل بعقوبة السجن لمدة سنة مع إيقاف التنفيذ، في فضيحة أخلاقية / قانونية أسالت الكثير من الحبر، حيث تساءل المحامون حينها؛ هل هي محاكمة للحقيقة، أم محاكمة للفكر..؟

كانت الرسالة واضحة لكل من يفكر في انتقاد الخرافات الصهيونية، أو الجرأة على دحر الأكاذيب اليهودية.. إلا أنه ورغم ذلك، فقد بقي الكتاب وثيقة مهمة ومرجعية لأي عمل بحثي جدي تاريخي / أكاديمي، حيث عرض الكثير من الشهادات المتناقضة لأشخاص كانوا يعملون في المعتقلات الألمانية أثناء محاكمات النازيين، وسمعوا منهم أثناء جلسات محاكم “نورنبرغ”، كما شمل الكتاب بعض المقاربات العلمية لأبحاث قام بها مختصون، من بينهم المهندس الكيميائي الأمريكي “لوشتر فريد” الذي كان قد أُرسل لفحص غرف الغاز النازية، حيث خلص إلى نتيجة مفادها أنّ هذه الغرف المفحوصة لا يمكن أن تكون قد استعملت غرفاً للإعدام بالغاز، وذلك لعدم توفرها على التقنية المناسبة المعمول بها في هذا الشأن، بل أنه لم يجد أي أثر لحمض “السيانيوريك” المشتق من غاز “زيكلون ب” الذي شاع استعماله كوسيلة للإعدام في الغرف.

وبالعودة إلى أهم فصول كتاب “الأساطير المُؤَسِّسة للسياسات الإسرائيلية”، فإنّ المفكر “غارودي” كان قد ركّز فيه على مجموعة من الأساطير / الخرافات / الأكاذيب، التي اختلقتها الحركة الصهيونية وابتدعتها من أجل أن تتمكن من ممارسة ضغطها المخادع على العالم؛

  • أسطورة الوعد المقدّس، أو أرض الميعاد، التي ركّزت فيها على ما ورد في التفسير المسيحي المعاصر، وفي اللاهوت اليهودي.
  • أسطورة شعب الله المختار.
  • أسطورة يهوذا، أو ما يعرف بالتصفية العرقية.
  • أسطورة معاداة السامية.
  • أسطورة عدالة نورنبيرغ.
  • أسطورة ستة ملايين ضحية أو “الهولوكوست”.
  • أسطورة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”.

وقد مكّنت الدعاية لهذه الأساطير / الخرافات / الأكاذيب، الحركة الصهيونية من إحراز انتصارات سياسية تاريخية غير مسبوقة، حيث تمكنت من؛

  • ترسيخ اللوبي الصهيوني / اليهودي في الولايات المتحدة الأمريكية.
  • ترسيخ اللوبي الصهيوني / اليهودي في فرنسا.
  • ابتزاز دولة ألمانيا واختراق وتهويد مؤسساتها.
  • إقناع الغرب والعالم بتحقيق المعجزة الاقتصادية الصهيونية، على النهج الياباني، غير أنها لا تزال إلى اليوم تعتمد على الدعم والتمويل الخارجي.

وينتهي المفكر الفيلسوف “غارودي” إلى القول بأنّ؛ ما ندعوه بــ”التاريخ”، ما هو في الحقيقة سوى تلك النصوص والبيانات والكتابات التي خطها المنتصرون في الحرب؛ سادة الإمبراطوريات الكبرى، وجنرالات الجيوش المدمّرة للأرض والإنسان، ولصوص الثروات العالمية.. الذين يستعملون عباقرة من المخترعين الكبار في العلوم والتقنيات، ويستغلون فكرهم وعلمهم في سبيل بسط الهيمنة الاقتصادية والعسكرية على العالم.

ولذلك، كان من المنطقي جدا أن يلجأ قادة الحركة الصهيونية المنتشين بانتصار الحلفاء، إلى التوظيف السياسي للقضية اليهودية، التي زادها إثارة تضخيم الأرقام واختلاق القصص المرعبة البشعة لاستعطاف الشعوب الأوروبية، ومن ثمّ الضغط أكثر على الحكومات الغربية، خاصة حكومة ألمانيا، لابتزازها وحملها على بذل المزيد من المنح والتعويضات للكيان الصهيوني، باسم ضحايا “الهولوكوست” المزعوم.

ومنذ تأسيس “الكيان الصهيوني”، لم تتوقف الدول الغربية عن التسابق والتنافس في إظهار الدعم المطلق للكيان الغاصب، خاصة فرنسا التي أذلت حتى شعبها من أجل عيون اليهود، رغم إدراكها بأنها في الطريق الخطأ، وأنها بصدد تربية ورعاية أفعى غادرة قاتلة، لا تتوان ولو للحظة عن تسميم العلاقات الدولية، أو حتى عن لدغ اليد التي تطعمها وتسقيها.

وقد ظهر ذلك جليا غداة حرب النكسة العربية، العام 1967م، عندما اندفع الرئيس “شارل ديغول” وبادر إلى إدانة “الكيان الصهيوني” لمبادرة قواته بالهجوم على دول الطوق العربية، حيث جاء موقفه مخالفاً لمواقف أغلب المسؤولين السياسيين ووسائل الإعلام في فرنسا، وهو الموقف الذي دفع ثمنه غاليا بعد ذلك، بأن انتهى به المقام إلى مزبلة التاريخ ذليلا، رغم باعه الطويل ودوره الكبير في صناعة مجد فرنسا، على الأقل من مقاومة ألمانيا النازية وحلفائها، إلى تأسيس الجمهورية الخامسة التي لا تزال قائمة إلى اليوم، كأطول الجمهوريات عمرا وأكثرها استقرارا.

كانت البداية باتهام الرجل بــ”معاداة السامية” وهي التهمة السحرية الجاهزة التي أوردتها جريدة “لوموند” الحكومية، في عددها الذي نشر عقب خطاب الجنرال، إلى أن بلغ الأمر بالمطالبة بضرورة “عزله من رئاسة فرنسا”، في سابقة خطيرة، شعر إثرها الرئيس بأنه يُطعن في الظهر وفي الصدر وفي كل موضع من جسده المنهك الذي أفناه في خدمة فرنسا، ليبدأ العدّ العكسي لإسقاطه فعلا، على الرغم من اعتذاراته المتكررة عن ما بدر منه، إلا أن كل ذلك لم يكن كافيا ليشفع له أمام “جريمة” المساس بــ”قداسة” الكيان الصهيوني، ليدرك حينها الجنرال، بعد فوات الأوان، بأن الكيان الذي كان هو نفسه أحد المبادرين لتأسيسه ضد الطبيعة والمنطق والتاريخ، قد استوى واستقوى وصار أكبر من فرنسا ذاتها وأقدس من الكنيسة ورهبانها.

لتندلع بعد ذلك أحداث ماي 1968م، في انفجار عارم للشارع الفرنسي تحت قيادة الحركات الطلابية، ثم القوى العمالية والنقابات المهنية، والتي كانت تقودها عناصر صهيونية يسارية مدسوسة في صفوفها، على رأسها؛ “دانييل كوهين بانديت”، ذو الأصول الألمانية، الذي أشادت به الصحافة الصهيونية حينذاك، وطالبت بأن يكون أمثاله يعيشون في الكيان وليس في ألمانيا، علماً بأن هذا الناشط الطلابي/العمالي ومنذ سنوات، كان عضواً في البرلمان الأوروبي وممثلاً لجماعة الخضر الألمانية.

فعلا، فقد وقّع الجنرال الرئيس، شهادة وفاته يوم اعتقد بأنه زعيم في بلده، يقول ما يشاء ويعبّر كيف ما شاء بحسب ما تمليه عليه قناعاته.. لكن الحقيقة كان على عكس ما ظنّ الرجل واعتقد. فموقفه تجاه “الكيان الصهيوني” الذي فاجأ المسؤولين السياسيين ووسائل الإعلام وحتى أصدقاءه، جعله يعيش عزلة متعددة الأبعاد أحبطت معنوياته بشكل عميق ومؤثر، ظهر جليا من خلال صورته التي نشرتها له الصحافة الفرنسية بعد ذلك رفقة زوجته، وهو يغادر فرنسا ذليلا “مطرودا” إلى منفاه الأخير بـ”إيرلندا”، وكأنه لم يكن.

مصطفى بن مرابط - الجزائر

مصطفى بن مرابط - الجزائر

كاتب في الأيام نيوز

اقرأ أيضا